في حياة المجتمعات، هناك فئة تحمل على أكتافها ذاكرة الماضي وروح الحاضر وبركة المستقبل، إنهم كبار السن الذين غرسوا القيم وصنعوا الإنجازات وتركوا للأجيال إرثاً من الحكمة والخبرة. مكانتهم لا تُقاس بالعمر فقط، بل بما قدموه من عطاء وتضحيات على مدى سنوات طويلة، ومن هنا تأتي مسؤولية المجتمع في رد الجميل وصون كرامتهم ليظلوا في موقعهم الذي يليق بهم.
إن الرعاية التي يحظى بها كبار السن في منازلهم ليست مجرد خدمة صحية عابرة، بل هي رسالة إنسانية تحمل في جوهرها الكثير من الوفاء، فهي تصل إلى بيوت المسنين محملة بالطمأنينة، ومرصعة بلمسة إنسانية تضيء قلوبهم وتعيد إليهم الشعور بالأمان. تلك الزيارات المنزلية هي أكثر من مجرد فحص طبي أو متابعة علاجية، فهي جسر من المودة يعيد الوصل بين المسن ومجتمعه، ويؤكد له أنه ما زال حاضرًا في الذاكرة ومحل تقدير في كل حين.
العمل الميداني ليس خالياً من التحديات، فكثيراً ما يتنقل الفريق في أوقات حرجة، وأحياناً يواجه ظروفاً صعبة تتطلب صبراً كبيراً وتحملاً للمسؤولية. ومع ذلك، فإن عزيمتهم لا تلين، إذ يدركون أن رسالتهم أكبر من أي صعوبات آنية. إنهم يضعون نصب أعينهم مبدأً راسخاً: صون كرامة الكبير فوق كل اعتبار. وهذه التضحيات اليومية تُسجَّل بمداد من الوفاء في صفحات العمل الصحي الوطني، لتصبح مثالاً مشرّفاً على أن العمل الصحي ليس مجرد مهنة، بل رسالة متكاملة تحمل في طياتها التضحية ونكران الذات.
ولعل المبادرات الوطنية مثل حملة «وقار وأمان» تجسّد هذا الدور الإنساني العظيم، وتعزز الوعي المجتمعي بحقوق كبار السن، وتغرس في النفوس ثقافة الاحترام والتقدير. فالحملة ليست مجرد نشاط عابر، بل هي دعوة مفتوحة لكل فرد في المجتمع ليكون جزءاً من هذه المسؤولية، وليدرك أن مكانة كبار السن لا يمكن أن تُصان إلا بالتكافل والتعاون.
إن أثر هذه الجهود لا يقتصر على المسنين وحدهم، بل يمتد إلى المجتمع بأسره، فعندما يرى الأبناء بأعينهم كيف تُصان كرامة الكبار ويُحتفى بهم، ينمو في داخلهم وعي أصيل يقوم على الرحمة والوفاء، وتترسخ فيهم قيم الإنسانية التي تحفظ تماسك المجتمع وتمنحه قوته. إنها عملية تربوية غير مباشرة، تصوغ وجدان الأجيال المقبلة على أسس راسخة من الأخلاق والتقدير.
المسنون هم جذور المجتمع التي تمتد عميقاً في الأرض، يثبتوننا حين تهب العواصف، ويظلون لنا ظلاً وارفاً يمدنا بالأمان. وبرعايتهم نرد لهم شيئاً من فضلهم، ونؤكد أن أعمارهم الطويلة لم تمر عبثاً، بل تركت إرثاً خالداً في نهضة الأوطان. ومن أكرم كبيراً، أكرمه الله في عمره، فالإحسان إليهم ليس مجرد واجب اجتماعي، بل هو بركة تعود بالنفع على الفرد والمجتمع بأسره.
ما يُقدَّم لهم اليوم ليس مجرد خدمات، بل هو ملحمة إنسانية تُكتب تفاصيلها كل يوم بعيداً عن الأضواء، تُترجم في أزقة القرى وداخل منازل المدن، وتُسجَّل في قلوب المسنين الذين يجدون في هذه الجهود حباً صادقاً ووفاءً نقياً. فلتكن حملة «وقار وأمان» امتداداً لمسيرة طويلة من العطاء، وتذكيراً دائماً بأن رفعة الأمم لا تُقاس بما تشيده من أبنية شاهقة، بل بما تقدمه من احترام ورعاية لمن صنعوا حاضرها ومهّدوا مستقبلها.
وفي الختام، لا يسعني إلا أن أوجّه خالص الشكر والامتنان لكل من ينتمي إلى هذا القسم، ولكل ممرضة وممرض حملوا على عاتقهم هذه الرسالة النبيلة. شكراً لكل يد طرقت باباً لتمنح الطمأنينة، ولكل ابتسامة أزالت وحشة، ولكل قلب نبض بالرحمة وهو يقدم الرعاية لكبار السن في بيوتهم. أنتم تمثلون أجمل صور الوفاء، وتثبتون أن الإنسانية لاتزال بخير حين تُصان كرامة الكبير ويُحاط بالحب والاهتمام.