اخبار تركيا
تناول تقرير للكاتب والخبير التركي قدير أوستون، أزمة الإغلاق الفيدرالي في الولايات المتحدة بعد فشل الكونغرس في التوصل إلى اتفاق حول الموازنة المؤقتة، نتيجة الخلاف الحاد بين الجمهوريين والديمقراطيين بشأن تمويل الإعانات الصحية التي نصّ عليها إصلاح أوباما.
ويحلل الكاتب في تقريره بصحيفة يني شفق المحلية كيف تحولت معارك الموازنة إلى سلاح سياسي في الصراع على أولويات الإنفاق، مستعرضًا الخلفية التاريخية للإغلاقات السابقة وأثرها على ثقة الأمريكيين بالمؤسسات.
كما يوضح أن الأزمة الحالية تعكس عمق الانقسام السياسي في واشنطن، وتكشف عن هشاشة النظام الديمقراطي الأميركي أمام صراع المصالح الحزبية، في وقت يهدد فيه الإغلاق بتداعيات اقتصادية وسياسية داخلية وخارجية متصاعدة.
وفيما يلي نص التقرير:
أغلقت الحكومة الأميركية معظم عملياتها بسبب فشل التوصل إلى اتفاق حول الموازنة المؤقتة في الكونغرس. وكان الجمهوريون قد مرّروا في يوليو/تموز، بدعم من الرئيس دونالد ترامب، ما سُمّي بـ “القانون الكبير والجميل”، الذي تضمّن تغييرات جوهرية في النظام الصحي. هذا القانون نصّ على أن تنتهي بحلول نهاية هذا العام الإعانات التي تضمنها إصلاح أوباما الصحي. ولأن الديمقراطيين أصرّوا على استمرار هذه الإعانات واشترطوا إدراجها في الموازنة، لم يتحقق الاتفاق، فدخلت البلاد في مسار مفتوح لإغلاق فيدرالي جديد.
الإغلاق الفيدرالي ليس سابقة، إذ حدث عام 2013 (لمدة 16 يومًا) وعام 2018 (لمدة 35 يومًا) نتيجة الخلافات حول النظام الصحي وسياسات الهجرة. واليوم، ورغم أن جناح اليسار التقدمي في الحزب الديمقراطي يقود استراتيجية مقاومة مؤثرة، إلا أن إدارة ترامب تهدد بمزيد من عمليات التسريح في الحكومة الفيدرالية.
وفي حال غياب أي اتفاق، قد يستمر الإغلاق لأسابيع، مؤثرًا سلبًا على آلاف الموظفين الحكوميين. وسيسعى كل من الديمقراطيين والجمهوريين إلى تحميل الآخر الكلفة السياسية لهذه الأزمة.
ويرى الرأي العام أنّ معارك الموازنة، التي لا تحظى بشعبية ولا تمنح أيًا من الطرفين مكاسب سياسية، دليل إضافي على عجز واشنطن عن حل مشكلات الناس. وبسبب افتقار الديمقراطيين حتى الآن لاستراتيجية واضحة في مواجهة ترامب، قد يبدو الإغلاق انعكاسًا لعجزهم.
شطرنج سياسي
تحوّل التلويح بإغلاق الحكومة الفيدرالية إلى أداة شائعة في الصراع السياسي على أولويات الإنفاق وحدوده. فمع تفاقم الاستقطاب السياسي، خصوصًا منذ عهد أوباما، تلاشت ثقافة التوافق التي لطالما تباهت بها الديمقراطية الأمريكية. عندما حاول أوباما، في فترته الأولى، تمرير إصلاحه الصحي مستفيدًا من سيطرة الديمقراطيين على الكونغرس، واجه مقاومة جمهورية نادرة الشراسة. وكانت النتيجة انسداد المفاوضات عام 2013، لتغلق الحكومة الفيدرالية 16 يومًا. الجمهوريون حينها برروا رفضهم بأن إصلاح أوباما يتعارض مع النظام الرأسمالي للبلاد ويعني توسيع الدولة الاجتماعية وتدخلها في القطاع الخاص.
ومع أن أوباما اضطر للتخلي عن أهم بنود إصلاحه لاسترضاء الجمهوريين، فإن القانون، الذي وفر إعانات لدفع أقساط التأمين الصحي للفئات الفقيرة والمتوسطة، ترسخ بمرور الوقت وأصبح شعبيًا. حتى ترامب، الذي وعد بإلغائه، تراجع أمام شعبيته. لكن تقليص الإعانات تدريجيًا، وإقرار الحزمة التشريعية الضخمة في يوليو التي سمحت بانتهائها هذا العام، دفع الديمقراطيين هذه المرة لاستخدام سلاح الموازنة. فبعدما عجزوا عن منع الجمهوريين من تمرير قوانينهم بفضل سيطرتهم على الكونغرس، باتوا يحاولون لعب شطرنج سياسي عبر التمسك بتحديد أولويات الإنفاق.
كلفة الإغلاق
محاولات كل طرف فرض أولوياته السياسية عبر معارك الموازنة قوّضت ثقة الأمريكيين بالمؤسسات السياسية. فالرأي العام لا يرى في الإغلاق الفيدرالي موقفًا مبدئيًا لحزب ما، بل تجسيدًا لشلل واشنطن وعجزها عن حل مشاكل المواطنين. عام 2018، تسبب رفض تخصيص أموال لبناء جدار ترامب على الحدود مع المكسيك بأطول إغلاق في تاريخ البلاد. وفُهم حينها أنّ وعد ترامب بأن “المكسيك ستدفع ثمن الجدار” لم يكن واقعيًا. ولم تخفِ نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الديمقراطية، شماتتها، إذ سخرت قائلة: “حتى دولار واحد لن ندفعه”، بينما كان الديمقراطيون يستمتعون بإفشال مشروع ترامب.
فشل ترامب في الإيفاء بوعوده، وتغاضي الديمقراطيين عن إغلاق الحكومة، أصاب آلاف الموظفين الفيدراليين الذين وجدوا أنفسهم بلا عمل مؤقتًا بخيبة أمل كبيرة. كما تسبب الإغلاق في خفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة لأول مرة، ما رفع كلفة الاقتراض. صحيح أن وظائف الدولة الأساسية استمرت، لكن شلل كثير من المؤسسات الفيدرالية أدخل البلاد في حالة من عدم اليقين زادت من هشاشة الاستقرار السياسي. ومنذ وصوله إلى السلطة في يناير، سعى ترامب إلى تفكيك جهاز الدولة، وها هو اليوم يستغل الأزمة لتوسيع عمليات التسريح. فإدارته، التي انشغلت أشهرًا بـ”تفريغ” البيروقراطية، تهدد بمواصلة ذلك، محملةً الديمقراطيين كامل المسؤولية عن أي فاتورة سياسية.
التجارب السابقة أظهرت أن الإغلاق لا يفيد أيًا من الطرفين، بل يعمّق أزمة الثقة في السياسة. فالحكومة الفيدرالية، التي تدار منذ سنوات عبر موازنات مؤقتة بسبب غياب التوافق، تكشف الآن عجز واشنطن المتزايد عن الحكم. وإلى جانب ما يرسله من رسالة للعالم عن انقسام الداخل الأمريكي وعجزه عن إنتاج حلول، يهدد الإغلاق أيضًا بزيادة القلق في الأسواق المالية الدولية. أمّا ترامب، الذي لطالما تباهى بإدارته للاقتصاد، فسيواجه عواقب وخيمة مع ارتفاع الرسوم الجمركية، والسياسات النقدية المشددة، وتراجع مؤشرات التوظيف، وغلاء المعيشة. وفي المقابل، قد يجد الديمقراطيون أنفسهم في مواجهة كلفة سياسية ناتجة عن فشلهم في منع اقتطاع تريليون دولار من النظام الصحي والاكتفاء بمحاولة حماية إعانات أوباما. وهكذا، وبينما يتقاذف الطرفان أوراق الشطرنج السياسي، قد يدركان في لحظة متأخرة أنهما يلعبان روليت روسية تقود إلى الانتحار السياسي، ما يضطرهما في النهاية إلى العودة للتوافق.