اخبار تركيا

تناول مقال للكاتب والمفكر التركي يوسف قابلان، رمزية أسطول الصمود العالمي بوصفه فعلًا إنسانيًا وروحيًا يتجاوز الجغرافيا والسياسة، حيث تتحول الرحلة إلى غزة إلى صرخة ضمير عالمي تكشف سقوط الحداثة الغربية في فراغها القيمي، وتجسّد ميلاد وعي جديد يقوم على الرحمة بدل القوة.

ويرى الكاتب أن غزة أصبحت نقطة تحوّل تاريخية أعادت تعريف الإنسانية، وأن مواجهة الطغيان ليست صراعًا عسكريًا فحسب، بل معركة على جوهر الإنسان وروحه في عالم فقد معناه، لتصبح كل أرض إمّا “إسرائيل” تمثّل المادية والسيطرة، أو “غزة” تجسّد الرحمة والمقاومة.

وفيما يلي نص المقال بصحيفة يني شفق:

وصل أسطول الصمود إلى هدفه بعد رحلة مدهشة خطفت الأنفاس: انكسر الحصار في العقول، وها هي سفن جديدة تشق طريقها إلى البحر.

من هاتاي انطلقت خمس وأربعون شراعية، ترفع أشرعتها وكأنها تهتف: تقدّموا!

هذا وحده يثبت أن الحواجز تنهار حين يكتسب الفعل بُعدًا عالميًا. لقد تحوّل أسطول الصمود إلى انتفاضة عابرة للحدود، وأثبت للعالم أنّ ما تعجز عنه الدول تستطيع الشعوب الحرة أن تنجزه. قد تستعبد الدول، لكن لا يمكن أن تُكبَّل عقول البشر. فشعوب العالم حرة، والإنسانية لا تُستعبَد.

اليوم أضع بين أيديكم نصا رائعًا يعبّر عن معنى أسطول الصمود، بقلم أخينا الأذربيجاني، الطالب والباحث وقار عزيزوف. نصّ يفيض حرارةً ويترك في الروح أثرًا عميقًا.

كنت قد قلت في مقالي بعد السابع من أكتوبر قبل عامين إنّ غزّة محطة ميلاد. واليوم أكرّر: هناك ما قبل غزّة وما بعدها. ومن غزّة سيُكتب التاريخ من جديد. وهذه الكلمات تحمل إشارات ذلك التحوّل.

رحلة التاريخ نحو فقدان الجوهر

ما ترتكبه إسرائيل في غزة من إبادة معلومة للجميع. لكنّنا كثيرًا ما نحصر هذه الحرب في زمان ومكان محدَّدين. في الحقيقة، هذه الحرب قسمت العالم قسمين: إمّا أن تكون مع غزة، أو مع إسرائيل.

الفارق أنّ المنظومة الفكرية التي شيدها الغرب بلغت أقصى تجلياتها هناك. إسرائيل هي الذروة المكتملة للحداثة الغربية، صورتها العارية التي تكشف حقيقتها.

أما نحن؟ فلسنا بمعزل. فإذا قبلنا معايير الحداثة الغربية كمرجعٍ وحيينا وفقها، فنحن أيضًا على الخط نفسه. عندها تكون إسرائيل في داخلنا أيضًا، لا في فلسطين وحدها. وكما قال المفكر يوسف قابلان: لم يعد هناك “نحن”.

هذه المجزرة لم تبدأ في 2023، بل جذورها أعمق؛ إنها امتداد لمسار التاريخ في فقدان جوهره. العالم اليوم محكوم بجوهر واحد: “اللاجوهر” الغربي. وإسرائيل هي الثمرة الناضجة لهذا الفراغ، وسائر القوى مجرد داعمين له بأشكال مختلفة.

غزة هي اليُتم الذي أنجبته هذه اللاجوهرية: روحٌ يتيمة تصرخ بعد أن ضاع جوهرها. إنها الصدع الذي فُتح في جدار العالم المتصلب. ومنه يعلو صوت آخر نفَس.

الجسد مادته القوة والسلطة والثروة، أما الروح فمادتها الرحمة. وإسرائيل تمثل آخر قوة لعالمٍ محبوس في الجسد. وتحت هذا الثقل، تئن الروح وتنزف، وصوت عذابها يدوّي في غزة.

سفينة نوح تقودها الرياح الإلهية

هذا الصوت يتردّد في العالم كصرخة… يطرق القلوب التي لم تتصلب بعد… واليوم من كل ركن في الأرض، تبحر سفن مدنية إلى غزة. إنها أنفاس الرحمة التي تهب من القلوب. سفينة نوح جديدة، تدفعها ريح السماء.

إنّ أسطول الصمود رمز لهذه الحقيقة: صمود الرحمة في وجه الطغيان، وبشارة انتقامٍ إلهي آتٍ من الأرض والسماء.

ويبقى السؤال موجّهًا إلينا: هل أنتم على متن السفينة… أم ما زلتم في هذا العالم؟

غزة، بهذا المعنى، هي النقطة التي انهارت عندها الحداثة، وانبعثت فيها الرحمة من جديد. وذاك الـ “نحن” الذي أشار إليه يوسف قابلان يهمس إلينا من دموع غزة.

كل مكان كان إسرائيل… والآن سيصبح كل مكان غزّة

لكن من نحن؟ هل تخلّصنا من هموم الدنيا وأطماعها؟ أم أننا نشتم إسرائيل بينما نبقى أسرى عقلها نفسه؟

كثيرًا ما ننقاد إلى منطق “التقدّم” و”السلطة” و”الماديات”، ولا يختلف الأمر سوى بالاسم والهوية. نريد أن نملك القوة لنحطّم إسرائيل، ثم ماذا بعد؟ سنعيد إنتاج العدو نفسه. عندها، هل نصبح إلا صورة جديدة من إسرائيل؟

الحقيقة أنّ السلطة الحقيقية كامنة في الرحمة. فلماذا لا نجعل الرحمة واللطف والروحانية أساس الحكم؟ لماذا ننطلق دائمًا من القوة والماديات؟

إنّ ما في أيدينا اليوم من سرعةٍ ولهوٍ وإغراء في الهواتف، هو قنبلة إسرائيلية أخرى. فهي تضرب أرواحنا. وهكذا صارت كل الدنيا إسرائيل وغزة معًا. فالحداثة الغربية سمّت حياتنا، وزرعت فينا منطق السيطرة عبر “السرعة” و”اللذة” و”الإغراء”.

نحن لا نملك سلطة في مفاهيم الآخرين؛ نحن عبيد لهم. وهذا ما سمّاه يوسف قابلان “عبودية المعرفة”. والأسوأ أنّنا في معظم الأحيان لا ندرك ذلك.

نعم… كل مكان إسرائيل، وكل مكان غزّة. الزمان والمكان تلاشت حدودهما. العالم صار صورةً مقلوبة لذاته.

أسطول الصمود رمز لهذه الحقيقة. صوتٌ يعلو من غزة، وأنفاس رحمة تتوجّه إليها. فإذا تحركت الرحمة، فالطوفان آتٍ. ومن هذا الطوفان سيولد “نحن” جديد حامل للحقيقة.

شاركها.