د. إسماعيل بن صالح الأغبري

لم يزل الغرب يتربَّع على عرش الهيمنة وإن بدا حينا أنَّه الحَمَل الراغب مشاركة غيره له في العيش معه، ولم يزل يدعم ما أسسه من قوة مزروعة في جسد ووسط العالم الإسلامي وهي إسرائيل تلك النبتة الخبيثة التي ولدت عن طريق “سايكس بيكو” وأخواتها الخُلص أو من الرضاعة فتخير الغرب لإنشائها وطنًا لهم، وسقى هذه النبتة بما يضمن لها السيادة والهيمنة وليس مجرد الحياة والاعتراف فهو يُريدها نسخة طبق الأصل منه إلّا أنها ليست في أوروبا، ولكن ذراعًا متقدمًا في هذا العالم الإسلامي.

ما فتئت الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية يؤكدون أنهم لن يرتضوا ظهور قوة أقوى من قوة دولتهم إسرائيل المزروعة في فلسطين، وأنهم أوجدوها لتبقى أبديًا وليس آنيًا وعزيزة مستقلة وليست مجرد دولة تخشى من محيطها؛ بل على المحيط أن يخشاها.

اتخذ الغرب في سبيل ترجمة ذلك كل خطوات التقوية؛ فأمدها في المنابر الدولية بالتأييد عن طريق ضمان الاعتراف بها من الجميع، بما في ذلك أهل الحق الفلسطيني والمنتمون لمنظمة التعاون الإسلامي المكونة من سبع وخمسين دولة إسلامية، ولم يألُ الغرب جهدًا في إبطال مفعول كل قرار يُشتَم منه إدانة إسرائيل أو إلزامها بشيء لا تريد الالتزام به عن طريق توزيع الأدوار في احتضان إسرائيل ورعاية هذه النبتة عند النشأة والميلاد. فقد كانت بريطانيا الأم الرؤوف الرحيم بها، ثم انتقلت رعايتها وصونها حتى من النسمة غير العليلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. أما عن استخدام حق النقض ضد كل ما من شأنه إلزام إسرائيل بالتشريعات والقوانين الدولية، فقد بات ذلك موكولًا إلى أمريكا ولو لم تستخدم ذلك أمريكا فإن بقيت القوى الغربية التي لها حق النقض ستستخدم تلك الورقة.

مد إسرائيل بإكسير الحياة وماء الخلود من أنواع الأسلحة التي يتفنن في صناعتها الغرب دون قيد في الاستخدام ولا شرط في الرجوع إليه قبل الاستخدام ودون برمجة تلك الأسلحة لتعطيل أدائها في الأجواء أو جعلها مجرد شكل حديدي تمتلكه، إلا أنه منزوع الأزرار، إنه هو ما يُميز هذه الرعاية لهذه الوليدة التي لم تزل تحت الرعاية الغربية إلا أنها عفريت المنطقة ولا زالت القوى في الغرب عازمة على جعل هذا الجنين العفريت ملك مملكة سليمان ونمرود المنطقة، ويبعث من جديد سطوة داود، ولكن بالعدوان.

يبدو وبعد أكثر من سبعين عامًا على هذه الرعاية ورغم أن هذه الوليدة صارت تمتلك قوة تقنية تفوق ما لدى دول السبعة والخمسين من دول منظمة التعاون الإسلامي مجتمعة ومتفرقة وتعيش في منظومات بحر متلاطم من منظومات التصدي وتسبح في بحيرة من أنواع الدبابات والطائرات والقاذفات ووسائل الهجوم التي تصنعها بذاتها فضلا عن الجسر الغربي الدائم من مختلف أنواع الأسلحة التي تحط رحالها فيها.

رغم جميع ذلك، فإن الغرب وابنته إسرائيل قد اتخذ قرارًا وهو كسر كل قوة لا تنحني لهذه الشجرة المزروعة منه وسط العرب، مهما كانت هذه القوة فصيل أو تنظيم أو جماعة فلسطينية أو غير فلسطينية، علمانية أو يسارية أو إسلامية أو وطنية؛ فذلك حرام في حكم الشريعة الغربية.

أما إن كانت هناك قوة تتمثل في دولة من دول العالم الإسلامي يُحتمل أنها صاعدة ولن تسلم أمرها لهذه الشجرة الحديثة، فإن الحرمة في الشريعة الغربية مضاعفة ووجوب وقف هذه الدولة ومنعها من التقدم أمر واجب على العالم الغربي القيام به.

الجمهورية الإسلامية الإيرانية باتت اليوم في عين عاصفة الغرب؛ حيث لا تهدأ أبدًا الضغوط عليها وهي اقتصادية خانقة إلى حد لا يكاد من تفرض عليه يستطيع التنفس، وهي ضغوط لم تُفرض حتى على كوريا الشمالية أو فنزويلا أو كوبا، بجانب الملاحقة الغربية لجميع من قد يمد يدًا أو يمثل حبل نجاة من الدول لصالح إيران ولو كانت تلك الدول مجاورة بحدود برية مع إيران وبينها علاقات دينية واجتماعية وسياسية قديمة متأصلة كالضغط على العراق، رغم احتياجه إلى كهرباء إيران وغير ذلك من الاحتياجات المتبادلة.

التهييج العالمي على إيران في المحافل الدولية على أشُده؛ بما في ذلك وكالة الطاقة الذرية، ولعل ما صرحت به قبل الحرب التي شُنت على إيران، كان بمثابة الضوء الأخضر لشن تلك الحرب، ومن يدري ما هو التصريح القادم لاستكمال الحرب المؤجلة حاليًا؟!

شمَّرت دول “الترويكا الأوروبية” عن زنادها ضد إيران وتكاد تصرح بأنه على الجمهورية الإسلامية الاستسلام؛ فذلك هو الغاية وليس لإيران حتى حق التفاوض من أجل الوصول لحل وسط مقبول.

الأساطيل والسفن تعبُر البحار والمحيطات للتطويق وإرسال الرسائل إلى إيران بأن كشف الغرب عن زناده وتكشير إسرائيل عن أنيابه ليس هو وحده في الميدان؛ بل مع الخنق الاقتصادي غير المسبوق هناك القوة العسكرية التي لا حدود لها ويبدو أن رئيس وزراء إسرائيل (نتنياهو) قد بلغ رتبة مقربة جًدا من البيت الأبيض لم يبلغها غيره؛ إذ خلال أشهر قليلة التقى بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب أربع مرات حتى الآن.

لعل الغرب أجمع رأيه بأنه لا سبيل لحماية إسرائيل إلّا بتمكينها من القضاء على كافة أشكال المقاومة ضدها في فلسطين ولبنان والعراق واليمن، وحيث إن هذه المقاومات أصابها ما أصابها من الضربات المؤلمة خاصة المقاومة في لبنان، فإن رأس المقاومة والداعم الأكبر لهذه الأجنحة والمُصِر على عدم الاعتراف بإسرائيل والمتجه إلى الاستقلال الكامل عن الغرب تقنيًا ومعرفيًا وتصنيعًا وهو إيران لم يضعف الضعف المطلوب، رغم حرب الاثني عشر يومًا، ويبدو أن التوجه هو تجفيف مصدر أشكال المقاومة في تلك الدول، وهو إيران، عن طريق الضربات العسكرية التي تكفل حسب تصورات إسرائيل والغرب تحويل إيران  من حالة  النمر والأسد إلى حالة الحَمَل، ومن حالة عدم الاعتراف بإسرائيل إلى حالة الصداقة مع إسرائيل، ومن حالة عدم الدوران في فلك الغرب إلى حالة التسبيح بحمد الغرب والتقديس له، ومن حالة النووي والاستقلال العلمي والصناعي عنه إلى حالة استجداء الغرب حتى في الكمامات والأمصال وهذا عند الغرب لن يتأتى إلا بتغيير سياسي في إيران.

الوضع بالنسبة لإيران ليس بالسهل؛ فهي تعيش الحصار منذ أكثر من 40 عامًا وأعداد نفوسها ما يقرب من التسعين مليونًا ولهؤلاء ثقافات مختلفة وينتمون لتيارات متعددة، وللأسف عدد من الدول العربية لا تُكن لإيران ذلك الودّ، مع أنها نصرت القضية الفلسطينية حقيقة وليس ادعاءً، وتكبدت خسائر فادحة نتيجة دعمها فلسطين، ولو اعترفت بإسرائيل لفتح الغرب لها ذراعيه واعتبرها شريكًا اقتصاديًا فاعلًا ودولة صديقة، ولربما سلطها على دول عربية وجعل منها ذراعًا يبطش بها في مناطق مختلفة.

كان يمكن للعرب اتخاذ إيران ردءًا لهم وسندًا واعتبارها حليفًا لهم وملاذًا يلوذون بها لتخلصهم من ضغوط الغرب وهيمنته، وكان يمكن للعرب التحجُّج بعدم التماهي مع مطالب إسرائيل والغرب بقوة إيران وجوارها لهم، إلّا أنهم للأسف أضاعوا تلك الحجج وأفلتوا من أيديهم تلك الأوراق الرابحة. إيران وحدها في الميدان ورداء الصين وروسيا بعيد عنها وهو ما كشفته حرب الأيام الاثني عشر؛ فلا منظومة الدفاع الجوي “إس400” كانت من نصيبها، ولا وصلتها الأسلحة التي اشترتها، كما لا ننسى أن معظم رجال المال والأعمال في إسرائيل هم من الروس، وكذلك فإن ما يقرب من مليوني إسرائيلي هم من الروس.

وكذلك فإن إيران عقائدية حسب التصنيفات السياسية، ولذلك لا نجد تخطو روسيا والصين خطوات حقيقية للوقوف مع إيران، مع أن قصم ظهر إيران سيكون له أثر سلبي على الدولتين.

وقفت إيران مع روسيا عند اشتعال الأزمة الروسية الأوكرانية والطائرات الإيرانية المسيرة “شاهد” كانت شاهدًا على البلاء الحسن الذي أبلته في الساحات، ولعلها كانت المنقذ لروسيا والمخلص لها من صدمات وموجات الهجمات الأكرانية، إلّا أن إيران لم تجد من روسيا ما يضاهي رُبع موقفها خلال العدوان الإسرائيلي عليها.  

للأسف قد يلوح في الأفق مخطط آخر للمنطقة أشد خطرًا من مخطط “سايكس بيكو” يرتكز على تصفية كافة أشكال المقاومة في المنطقة، والسعي إلى محاولة تغيير نظام الحكم في إيران لأنه رأس المقاومة والخصم العنيد الرافض الانضواء تحت العباءة الغربية غير المعترف بإسرائيل.

الخاسر الأكبر من المخطط الجديد هو العرب؛ فأوراقهم تسقط واحدة تلو الآخر، وعهد بقاء إسرائيل في تلك المساحة الضيقة يبدو أنه ينحسر؛ فإسرائيل كأنها ستصبح فقط منطقة إدارة العرب وعاصمة القرار المتعلق بهذه المنطقة.

ليس الوقت وقت ذرف الدموع، لأن العرب ساهموا فيما حل بالمقاومة، وفيما قد يقع على إيران، ولكن هل من احتمال لوعي ولو متأخر لما قد يقع عليهم؟! وهل يمكن أن يكون العقل دليلًا لهم من أجل صحوة؟!

شاركها.