عندما صعد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى منبر الأمم المتحدة في نيويورك في 22 و23 سبتمبر، ألقى خطاباً تاريخياً، أعلن فيه اعتراف فرنسا بدولة فلسطينية، وآخر دفاعاً عن التعددية. ونال الخطاب الأول تصفيقاً حاراً، بينما ذكّر الثاني أنصاره المتبقين بأسباب تصويتهم له. وقال ماكرون: «لا حق لنا في السخرية. لا حق لنا في التعب. لا حق لنا في روح الهزيمة».

ولايزال ماكرون شخصية فاعلة في الشؤون الخارجية. ومع ذلك، لا يمكن لأي قدر من الدبلوماسية النشطة في الخارج أن يخفي ما يحدث في الداخل، وهو تفكك مشروع ماكرون الوسطي العظيم.

وأمضى رئيس الحكومة الفرنسية، سيباستيان ليكورنو، الذي تم تعيينه في التاسع من سبتمبر الماضي، أسابيع عدة وهو يحاول تشكيل حكومة فعالة. وعندما يتقلد فريقه السلطة الفعلية، ستكون هذه خامس حكومة لفرنسا خلال عامين، وهو معدل تغيير لم تشهده فرنسا منذ أكثر من نصف قرن.

ولاتزال فرنسا تلعب دوراً كبيراً في تشكيل مستقبل أوروبا، لكن عدم استقرارها السياسي، وبرلمانها المتعثر، ووضعها المالي المثقل بالمتاعب، تُحدث فجوة مقلقة في قلب القارة.

وإذا لم تتمكن أحزاب الوسط من التغلب على خلافاتها، فهناك احتمال حقيقي بأن تقع السلطة في أيدي المتطرفين في الانتخابات المقبلة. وهذا أمر مقلق على نحو كبير بالنسبة لسياسي الوسط، حيث إنه يتجاوز فرنسا. وعندما أصبح ماكرون رئيساً لفرنسا وهو في عمر 39 عاماً، تعهد بأن يضمن بأنه لم يعد هناك أي سبب لانتخاب المتطرفين، وذلك عن طريق جلب المعتدلين من كلا اليسار واليمين معاً في حركة جديدة تتجاوز الحزبية.

وسعى ماكرون إلى بناء حصن منيع ضد اليسار واليمين المتطرفين، وإنهاء الخلافات الأيديولوجية التي أعاقت الإصلاح. واعتبر ماكرون، الرهانات لحظة شبه وجودية لدعم القيم الديمقراطية، ونجح ماكرون مرتين في إبعاد مارين لوبان، اليمينية المتطرفة، عن الرئاسة، متغلباً عليها في جولتي الإعادة عامي 2017 و2022.

لكن يبدو أن الدعم للوسط هذه الأيام في حالة انهيار. وارتفع تعداد مقاعد البرلمان التي حازها حزب لوبان «الجبهة الوطنية» في الغرفة السفلى، البالغ عددها 577 مقعداً، من ثمانية في عام 2017 إلى 123 في الوقت الحالي، في حين ارتفعت تلك التي يشغلها حزب «فرنسا الثائرة» اليساري المتشدد بزعامة جان لوك ميلينشون من 17 إلى 71 مقعداً. ويتصدر حزب التجمع الوطني حالياً نوايا التصويت البرلماني في الجولة الأولى بنسبة 32%، وتأتي المجموعة اليسارية في المرتبة التالية بنسبة 25%، ويتأخر الوسطيون بزعامة ماكرون في المركز الثالث بنسبة 15% فقط.

وبالنسبة للانتخابات الرئاسية، المقرر إجراؤها في عام 2027، أشار استطلاع رأي أجرته مؤسسة «إيفوب» في 29 سبتمبر إلى أن لوبان ستتأهل بسهولة إلى جولة الإعادة الثانية بنسبة 33%، بينما سيتأهل المرشح الوسطي صاحب أفضل ترتيب، إدوارد فيليب، رئيس الوزراء السابق، بنسبة 16% بالكاد لجولة الإعادة.

ويبدو أن اليسار واليمين يائسان من هذه الانتخابات، وهذا ما يمكن فهمه من خطاب قبول أخير لجوقة الشرف للخبير جان بيساني فيري، الذي كان مسؤولاً عن بيان ماكرون في عام 2017. ويتذكر فيري، الذي يصف نفسه بـ«العجوز الغاضب» من «الماكرونية» كيف انضم في البداية إلى المشروع رداً على «تمثيل الأدوار» من قبل اليسار واليمين، والذي «أجج خيبة الأمل الديمقراطية والتطرف».

ومع ذلك، قال إن «فرنسا تواجه اليوم التهديد النهائي بالانزلاق نحو الاستبداد». وتابع أمام جمهور صامت: «لا أعرف ما حدث».

وفي عام 2022، تمت إعادة انتخاب ماكرون، لكنه فشل في القيام بحملة انتخابية مقنعة لانتخاب أعضاء البرلمان فيما بعد، وخسر الأغلبية البرلمانية. وقال أحد نوابه السابقين، وهو الكساندر هولرويد: «كانت تلك نقطة انعطاف».

وبدلاً من السعي إلى القيام بائتلاف، من الجمهوريين ومن يسار الوسط، واصل العمل بحكومة أقلية ضعيفة، مقرراً إصلاح نظام التقاعد عبر البرلمان دون تصويت، ومثيراً استياءً شعبياً.

وكان قراره المتسرع بحل البرلمان في العام الماضي قد أدى إلى تقليص أقليته أكثر، وترسيخ جمود سياسي ثلاثي. وانخفضت شعبية ماكرون إلى 22% في سبتمبر الماضي، وهو أدنى مستوى لها على الإطلاق، وتحول الدعم إلى اليسار واليمين. ويقول الباحث ماثيو غالارد من شركة «إبسوس» لاستطلاعات الرأي: «يتم الضغط على الوسط من كلا الجانبين».

وثمة سبب آخر يتمثل في التحرك الكبير في السياسة الأوروبية نحو اليمين. وفي بريطانيا كان أحدث التغيرات السياسية المفاجئة هو صعود حزب «الإصلاح» اليميني بقيادة نايجل فراج. وفي فرنسا، يستعد حزب «الجبهة الوطنية» للسلطة منذ سنوات، وهذا الحزب هو نسخة تمت إعادة تصميمها وتحسينها من الحزب الذي شارك والدها في تأسيسه عام 1972. وكلما تمكن حزب «الجبهة الوطنية» من جلب الاحترام الناس له، ازداد تآكل الحاجز الصحي السياسي في البلاد.

وهذا يضع أحزاب الوسط في موقف دفاعي، ويشعر الكثير من اليساريين بعدم الراحة عندما يأخذون مواقف متشددة نحو الهجرة. وباتت الأحزاب التي تشكل الوسط منقسمة بشأن قضايا أخرى أيضاً، وتكافح من أجل أن تجد نفسها مؤثرة في أذهان الناخبين. ومثل الوسطيين في كل مكان، يجد المعتدلون التكنوقراطيون، بقيادة ماكرون، أنفسهم أمام أدوات قاسية يستخدمونها ضد سخط الشعبويين العارم، وثوابتهم التي تنطوي على التحدي، ما يسهل تحويلها إلى مقاطع فيديو «تيك توك» تنتشر بسرعة.

وتمثل المشكلة الأخيرة في الانحراف عن مسار الميزانية، وكان نداء ماكرون الوجودي للتصويت ضد حزب التجمع الوطني في العام الماضي يتعلق بالكفاءة والقيم، ويصعب إثبات هذه الحجة اليوم، في ظل عجز الميزانية الذي يبلغ 5.4% من الناتج المحلي الإجمالي، كما أن أسواق السندات في حالة توتر.

لكن الرأي العام غير مقتنع على نحو متزايد بادعاء الوسطيين بأنهم هم فقط القادرون على تأمين الملاذ من الفوضى.

وهذا لا يعني أن الوسطية في فرنسا انتهت، إذ إن الكثير يمكن أن يحدث خلال الـ18 شهراً المقبلة، لكن تفكك الوسط لا يعني أن الأشهر المقبلة، في أحسن الأحوال، ستكون مجرد محاولة للتوصل إلى حل وسط. ويقول النائب البرلماني الوسطي، رولان ليسكور: «لا تتوقعوا صفقة كبرى على الطريقة الألمانية». وهو لايزال يعتقد أن ثمة طريقاً ضيقاً نحو تسوية برلمانية عملية بشأن السياسة المالية وخفض العجز.

لكن فرنسا تفتقر إلى ثقافة التسوية السياسية، وحتى لو وصف ليكورنو نفسه بأنه «أضعف رئيس حكومة في الجمهورية الخامسة»، وإذا فقدت أسواق السندات الثقة، أو إذا فشل في إقرار الميزانية، فقد يتحول الوضع المضطرب إلى أزمة. وكانت فرنسا ذات مرة مثالاً يحتذى في كيفية درء التطرف. أما اليوم، فتبدو أرضية الوسط أكثر هشاشة من أي وقت مضى. عن «الإيكونوميست»

• لايزال ماكرون شخصية فاعلة في الشؤون الخارجية، ومع ذلك، لا يمكن لأي قدر من الدبلوماسية النشطة في الخارج أن يخفي ما يحدث في الداخل، وهو تفكك مشروع ماكرون الوسطي العظيم.

• لاتزال فرنسا تلعب دوراً كبيراً في تشكيل مستقبل أوروبا، لكن عدم استقرارها السياسي، وبرلمانها المتعثر، ووضعها المالي المثقل بالمتاعب، تُحدث فجوة مقلقة في قلب القارة.

تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news

شاركها.