د. سمير صالحة تلفزيون سوريا
ردّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على سؤالٍ لصحفية ذكّرته بلقائه مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وهي تقول: موضوع المقاتلات إف35 يثير كثيراً من الفضول، هل لديك ما تقوله حول هذا الملف؟فأجاب أردوغان بابتسامة تجمع بين الجد والدعابة: “كم أنتم فضوليون! لكنني لست بفضولكم نفسه. قلنا لهم: لقد دفعنا المال، وأنتم لم تسلّمونا المقاتلات. هذا كل ما في الأمر. نحن الآن نتابع هذا الملف مع الجانب الأميركي خطوة بخطوة”.
لو وُجّه لأردوغان سؤال مماثل بشأن رسائله الأخيرة إلى الأكراد داخل تركيا وخارجها، وما إذا كانت أنقرة بصدد وضع سياسة جديدة بالتنسيق مع واشنطن حول ملف “قسد”، وضرورة بلورة خطة تحرك ميداني سريع لحسم مسألة “داعش” في شرق الفرات، هل كان سيرد بالطريقة نفسها: كم أنتم فضوليون! المسألة واضحة، ما نقوله لهم، هو إما أن يختاروا أن يكونوا جزءًا من الدولة السورية الجديدة، أو أن يبقوا أدوات في يد قوى خارجية. لقد قدمنا المبادرات، ودعمنا قنوات فتح الحوار والتفاوض السياسي والدبلوماسي بين دمشق و”قسد”، وسنرى النتائج.
يردد الرئيس التركي أمام البرلمان أن تركيا ليست فقط موطنًا للأكراد داخل حدودها، بل تعتبر الراعي الأكبر، والأصدق، والأكثر موثوقية لأشقائنا الأكراد خارج الحدود؛ فنحن أخٌ وملاذ تطرق أبوابه في أيام المحن. وأننا لن نسمح باستغلال إخوتنا الأكراد من قِبل تنظيمات إرهابية أو محاور معادية، وأننا فعّلنا كل قنوات الدبلوماسية لضمان وحدة الأراضي السورية ومنع أي تشكيل إرهابي على حدودنا. لكن إذا لم تُجدِ المبادرات نفعًا، فموقف أنقرة حاسم، لا عودة إلى سيناريوهات التجزئة أو الكيانات المفروضة، ولن نسمح بتكرار سيناريوهات سابقة.
تعود ملفات “قسد” و”داعش” إلى الواجهة، بين رسائل أردوغان الجديدة للأكراد وخريطة التحركات الأميركية في شرق الفرات، وسط سيناريوهات إعادة رسم معادلات النفوذ. فهل نحن أمام محاولة انفتاح ظرفي، أم تشكيل نواة لتحالفات جديدة تُنسج من وراء الستار؟ وكيف ستُترجَم هذه المواقف التركية الجديدة بشكل علني وفي الكواليس، بعد التفاهمات التي رُسمت في قمة واشنطن الأخيرة بين أردوغان وترمب؟ وهل هذا التحوّل في الخطاب التركي مؤشّر على تأجيل خيار الحسم العسكري ضد “قسد” لما بعد مطلع العام الجديد، لصالح اختبار المسار الدبلوماسي حتى نهايته؟ وهل يمكن البناء على هذا المشهد في إطار سيناريو تركيأميركي افتراضي، يفتح الباب أمام تفعيل المحادثات الجارية بين دمشق و”قسد”، سواء داخل سوريا أو خارجها؟
تعتبر أنقرة مجموعات “قسد” امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، مما يجعل أي حوار رسمي معها مرهونًا بشروط تركية صارمة. هل يُحتمل أن نرى مفاجآت وتحولات في المواقف والأساليب على خط أنقرةالقامشلي إذا ما دخل وسطاء، وشرعت “قسد” في تبديل سياساتها وخياراتها؟ خاصة أن بعض الشخصيات والدوائر المحسوبة على “قسد” لم تُخفِ، في أكثر من مناسبة، استعدادها للانخراط في مثل هذا النوع من التفاهمات، ما دامت تنطلق من مقاربة سوريةتركيةإقليمية جديدة؟ وهل يمكن أن يتم هذا التواصل إن حصل عبر قنوات أمنية أو استخباراتية غير معلنة، على غرار ما عرفه الداخل التركي سابقًا من خلال “مسار إيمراليقنديل” والتفاوض غير المباشر مع عبد الله أوجلان؟ أم أن أنقرة تفضّل، في هذه المرحلة، التمسك بالمسار القائم بين القيادة السورية و”قسد” على خط دمشقالقامشلي، باعتباره الإطار الأكثر انسجامًا مع مقاربتها الأمنية، والذي قد يفضي لاحقًا إلى صيغة سياسيةميدانية تراعي أولوياتها الاستراتيجية؟
وسط كل هذه التحركات العلنية وغير المعلنة بين أنقرة وواشنطن و”قسد”، يبقى المشهد في شمال شرق سوريا مرهونًا بتوازنات دقيقة ومتغيرة، حيث تتقاطع المصالح وتتصادم الأولويات، وتتعاظم المخاطر والمكاسب على حد سواء. وتبقى هذه الأسئلة ضمن خانة الفرضيات، لا الوقائع المؤكدة. لكن التحركات الميدانية، والتفاهمات غير المعلنة، وتصريحات الأطراف المختلفة، كلّها تُبقي الباب مفتوحًا أمام احتمالات لم تكن مطروحة على الطاولة قبل أشهر قليلة فقط.
ففي حين تبحث الأطراف عن سبل للتفاهم وتقاسم النفوذ، تظل دمشق تراقب بعيون متحفّظة، محافظة على ثوابتها في السيادة والاستقلال، مصحوبة بأخذ ما تريده من إجابات على تساؤلات: من يملك القرار السياسي والأمني؟ وما مصير الإدارة الذاتية؟ ومن يسيطر على الثروات النفطية؟
وفي الخلفية، تبقى إسرائيل وحيدة في ميدان حساس، مستعدة لاستثمار أي انقسام أو تصعيد بما يخدم أجندتها الأمنية. فهي تراقب ما يجري عن قرب، بوصفها طرفًا يفرض نفسه على المشهد بمعادلاته الأمنية والعسكرية في سوريا، ولو من خارج طاولة التفاهمات المباشرة. فتَل أبيب تدرك أن أي تغيير في خريطة النفوذ شرق الفرات ستكون له انعكاسات محتملة جنوبًا، خاصة على ملف السويداء، الذي تستخدمه للحفاظ على هامش تحركها داخل العمق السوري. وهي قد ترى في أي تهدئة تركيةكردية فرصة لإضعاف نفوذ طهران والتخلّص من جيوب “داعش”، لكنها قد تعتبر أيضًا أن نشوء مسار تنسيقي ثنائي بين دمشق و”قسد” منفتح على أنقرة يُهدّد توازنات الردع التي بنتها خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا إذا حمل هذا المسار إشارات ضمنية لدعم استعادة الدولة السورية لنفوذها وسيطرتها على كامل حدودها، بما في ذلك المناطق السورية التي تحتلها منذ حوالي ستة عقود.
في ظلّ تقاطع المصالح وتعارض الأولويات، من الصعب الجزم بما إذا كان “خيال الظل” سيتحوّل إلى مشهدٍ واقعيٍّ واضح المعالم. لكن ما هو مؤكد أن ما بعد قمة واشنطن بين ترمب وأردوغان ليس كما قبلها. المسار في سوريا سيكون له ارتدادات على العلاقات التركيةالأميركية، وعلى مستقبل الترتيبات السياسية والأمنية الكردية في سوريا، وتوازنات الردع في الجنوب السوري أيضًا.
فأنقرة التحقت باصطفاف عربيخليجي منذ سنوات في التعامل مع كثير من الملفات والقضايا التي كانت خلافية بينهم، وعلى رأسها الملف السوري، مع الإبقاء على خيوط تنسيق محسوبة مع موسكو، باعتبارها شريكًا لا يمكن تجاوزه في معادلات النفوذ على الأرض.
ما يدور في الكواليس هذه المرة قد يتجاوز خيال الظل نفسه؛ فالمشهد مفتوح على سيناريوهات متعددة ومعادلات جديدة… وربما على ما هو أبعد ممّا يتصوره كثيرون.