اضطرت الفنانة السورية سارة شمة (1975) إلى مغادرة دمشق، هرباً من أهوال الحرب في نهاية عام 2012. لجأت إلى وطن والدتها الأصلي لبنان، ومن ثم الذهاب إلى لندن عام 2016.
لهذا السبب تحديداً، تبدو لوحات ريم كأنها فضاءات حيّة تتنفس تجربة الفنانة في ثلاثة عوالم: سورية، لبنان، وبريطانيا. هنا لا تُختزل الهوية في جغرافيا أو جنس أو انتماء سياسي، إنما تتحوّل إلى إحساس ولون، وضوء وريشة، ورياح وعبق مدينة.
كل صباح، كل نسمة، كل لون جديد، يترك أثره على لوحاتها بشكل مختلف. في حوارها مع “الشرق” تتكشف العلاقة بين الفنان والسلطة كحركة متوترة بين الخضوع والإبداع، بين القيود والرغبة في الحرية المطلقة. كل قرار، كل تابو، يتحوّل إلى تحدٍ شعوري، يحفّز اليد والريشة على أن تسبق العقل، وأن تتحوّل اللوحة إلى كائن حي يصرّ أن يكون حراً.
تكشف شمة عن اللون كحدث وجودي، ليس مجرد مادة بصرية، بل مساحة زمنية تغوص فيها المشاعر وتتفاعل معها. الأخضر مثلاً في معرضها الأخير “إنترفيرنس غرين”، ليس مجرد لون، بل عمق وفضاء، وموسيقى، وتناقض بين النعومة والريشة الثقيلة، كما لو أن اللوحة نفسها تتنفس.
تقولين أنا سورية لبنانية،بريطانية. أودّ أن أبدأ بسؤال الهوية: كيف يتداخل تأثير كل بلد من هذه البلدان في عملك الفني؟
صحيح أنا سورية ولبنانية وبريطانية. الهواء والألوان والضوء ورائحة المدينة، جميعها تنعكس في أعمالي الفنية. حتى الإحساس بالألوان ورائحتها يختلف من بلد إلى آخر. اللوحة هي انعكاس لكل ما يعيشه الفنان، لذلك من الطبيعي أن تظهر هذه الأشياء، وهو ما نسمّيه الهوية في اللوحة.
بشكل عام، يصعب حصر موضوع الهوية في الفن. عند بعض الفنانين يمكن أن تغلب على موضوعاتهم الهوية السياسية، وعند آخرين الاجتماعية أو الجنسية أو النفسية. وثمّة الكثير من الهويات. ولعل الهوية الحسّية هي أكثرها تأثيراً فيّ: أي الشم، الإحساس، الشعور، الألوان؛ فالمساء يختلف من مكان إلى آخر، وبالتالي ردّة فعل الفنان تختلف، سواء في سورية أو في لبنان أو في بريطانيا.
بعد عودتك إلى دمشق، كيف تنظرين إلى العلاقة بين الفنان والسلطة، اللوحة والرقابة، بين الإبداع والحرية، وخصوصاً بعد القرار الأخير بمنع موديل الجسد في دمشق؟
في أي بلد يعيش فيه الفنان، ثمّة سلطة سياسية، عسكرية أو اجتماعية أو دينية. إنها سلطة التابوهات. والفنان حين يُبدع، عليه ألا يفكّر بالرقابة أو السلطة. بالنسبة لقرار منع النموذج العاري، أعتقد أن فئة قليلة ستُعنى بتطبيق هذا القرار، وهم طُلّاب الجامعات لأنهم في نهاية المطاف يريدون التخرّج. لهذا السبب قد يطبّقون القرار.
أما الفنان الحقيقي فلن يطبّق هذا القرار. وبطبيعة الحال لا يمكن تطبيقه في مجتمع مثل المجتمع السوري. على العكس، أظن أن مثل هكذا قرارات من شأنها أن تشجّع الموديل العاري على اعتبار أن كل ممنوع مرغوب. بالنسبة لي، لا أتقيّد بأي قرار، وحين أقدّم فناً، لا أقبل أن يقول أحداً عنه هذا مقبول أو مرفوض.
ماذا يعني لك التعرّف على لون جديد، كما حصل مع “إنترفيرنس غرين”، وهو عنوان معرضك الأخير، ما الذي أردت قوله؟
فيما يخص معرضي الأخير، كنت منذ أكثر من خمس سنوات مهتمّة باللونين الأزرق والأخضر، وهما نوعاً ما جديدان على ممارساتي الفنية. ودائماً كانت لدي رغبة باكتشاف لون جديد في الطبيعة. يصعب اكتشاف لونٍ جديد.
أعتقد أن الأمر مرتبط بإحساس الفنان بالألوان. هكذا في أثناء محاولتي البحث عن لون أخضر جديد، يُشبه الرمادي، وله عمق معين، اكتشف لون “إنترفيرنس غرين” في لندن، أعجبني وبدأت العمل به. وبعد اشتغال سلسلة من اللوحات بهذا اللون، قرّرت إقامة معرض يحمل اسم اللون نفسه.
تكمن خصوصية هذا اللون في أنه يعطي عمقاً بعيداً، كما لو أنكِ تغرقين في فضاء فسيح. كما يسمح بالرسم فوقه بضربات ريشة سمكية وألوان قوية، ما ينتج تناقضاً فاضحاً بين العمق وضربات الريشة السميكة. وهو تحديداً ما يجعل المشاهد يشعر أن ضربات الريشة أو الشكل يخرج من العمق. وهذا ما يصدمني، وما أحبّ أن أراه في لوحاتي.
في ظل الهامش الضيّق للحرية في العالم العربي، هل استطاعت اللوحة العربية أن تعبّر عن مكنونات الجسد الأنثوي؟
في العالم العربي، وفيما يخص الجسد كجسد، واللوحة كلوحة، والتقنية كتقنية، كل هذا يتناقص. لا يقتصر الأمر على الجسد الأنثوي أو الحريات فحسب. القصة مرتبطة بكل شيء تقريباً: الحريات، التقنيات، تحرر العقل، والأفق المنفتح.
لكن ذلك لا يعني غياب فنانين مبدعين ومتحرّرين فكرياً وثقافياً وبصرياً، قادرين على هذه الأمور. لكن بالنظر إلى هذا كله، هناك نقص مقارنة مع ما يحدث عالمياً، ولا يقتصر الأمر على الجسد الأنثوي فحسب.
رسمتِ وجوهاً كثيرة بما في ذلك وجهك. ما هي العلاقة بين يديك وريشتك ووجهك؟
البورتريه بالنسبة لي هو الأهم، الإنسان هو الأهم. منذ الصغر، كان هاجسي مراقبة تجاعيد الوجوه واليدين، مراقبة حركات الجسد وتعابيره. وإذا رأيت شجرة أو جبلاً أو ورقة أو غيمة، كان دائماً يتحوّل إلى بورتريه في ذهني.
بالنسبة للعلاقة بين يديّ وريشتي ووجهي، نعم، أنا أرسم نفسي كثيراً وهو نوع من اكتشاف الذات، أو محبة الذات. بمعنى أن يفهم المرء نفسه، ويفهم الآخرين من حوله. شخصياً، حين أرسم، أهتم كثيراً بأن تعمل يديّ قبل عقلي، بمعنى أن يدي هي مفتاح عقلي، وهذه هي العلاقة. كما أظن، بين يديّ وريشتي ووجهي: اليد تسبق الوجه، والريشة تلحق باليد.
أيهما يسبق الآخر عندك: الفكرة أم التقنية؟ وهل يبدأ العمل بتأمل فلسفي أم بمحاولة مادية مع اللون والفرشاة؟
غالباً تأمل فلسفي، وهي حالة موجودة دائماً لدي. هاجسي الفن والعمل واللون وكل ما أشاهده، أرسمه في عقلي. إنها حالة تأمل بصري وفلسفي، وهي جزء من شخصيتي.
في المقابل، كثيراً ما أفكر بالأفكار والتقنيات، ولكن حين تأتي لحظة العمل أمام اللوحة البيضاء، تطير تلك الأفكار والتقنيات كلها، ولا شيء مما كنت فكرت به سابقاً أرسمه في اللوحة. ودائماً ينبثق شيء ما جديد فيها بشكل لا واعٍ. هكذا أمام اللوحة، أقف وأحاول إخراج كل شيء موجود في اللاوعي.
من البورتريهات الواقعية في بداياتك إلى اللوحات الوجودية والرمزية اليوم، ما الذي تغيّر في تعريفك لذاتك كفنانة؟
لم يتغيّر شيء في تعريفي لنفسي كفنانة. دائماً أتأمل وأفكر: أنا هي نفسي الطفلة التي كانت في الخامسة، وأنا نفسها المراهقة التي كانت في الرابعة عشرة. كذلك أنا نفسها طالبة الجامعة بسنواتي العشرين. لم يتغيّر فيّ شيء على الإطلاق. نعم، أنظر إلى عملي كمشروع واحد لأنه ثمرة تطوّر لمسيرتي في الحياة، وهو شخصيتي.
هل يمكن اعتبار لوحاتك الأخيرة نوعاً من “تأمل بيئي” عن علاقة الإنسان بالطبيعة لا سيما أننا نعيش في زمن تلوث بالمعاني كلها؟
ليست بالضرورة “تأملاً بيئياً”، لكني أفكّر كثيراً بعلاقة الإنسان بالطبيعة وبعلاقته بنفسه بالدرجة الأولى. إنها علاقة مشوّهة مع نفسه، وربما لهذا السبب هي علاقة مشوّهة مع الطبيعة أيضاً.
أعتقد أننا دائماً نعيش في زمن التلوث، ولا يتوقف الأمر على اليوم. نعيش هذا التلوث بمعان كثيرة: القتل، الحروب، الاغتصاب. هذه هي الطبيعة البشرية.
هل تعتقدين أن الفن التشكيلي العربي قادر أن يُنتج خطاباً ثقافياً جامعاً يتجاوز الحدود لا سيما في ظل خريطة عربية تبدو ممزقة؟
أعتقد أنه لا يوجد فن تشكيلي عربي أو أميركي أو بريطاني، بشكل عام، قادر أن ينتج خطاباً خاصاً. ما أستطيع أن أقوله إن حضور الفن العربي في العالم يتطوّر، ويعود ذلك إلى وجود مؤسسات داعمة لا سيما في الخليج العربي.
أعتقد أن ما ينقص الفن التشكيلي العربي بشكل عامن هو مؤسسات داعمة وقوية، وخصوصاً في زمن لا يوجد فيه اختلاف بين الفنانين، وصار الفنان العالمي هو الحاضر والموجود.
كيف ترين موقع الفنانة التشكيلية العربية في المشهد العربي والعالمي اليوم؟
لم يكن موقع الفنان التشكيلي العربي قوياً في الماضي. اليوم بدأ ذلك يتحسّن، وبرزت فنانات عربيات لهن حضور هام ومبدع. مع ذلك، يبقى حضوراً غير كافٍ، مقارنة مع الفنانات العالميات. لكن، أنا واثقة أنه مع الوقت، سيتطوّر هذا الأمر أكثر.