اخبار تركيا
في مقال نشرته صحيفة يني شفق المحلية، تناول الكاتب والإعلامي التركي سليمان سيفي أوغون، المناورات الدبلوماسية والأحداث الة بمحاولة فرض خطة أمريكيةإسرائيلية على غزة، مركّزًا على رفض حركة المقاومة الإسلامية حماس، للصفقة الإقصائية وصمودها أمام الضغوط الكبيرة.
ويتطرق الكاتب إلى دور تركيا وقطر ومصر في إعادة المسار التفاوضي إلى خيارات وسطية تحافظ على جوهر القضية الفلسطينية. كما يُبرز فشل إسرائيل ونتنياهو في تحقيق أهدافهم الإقصائية، وتفوق الدبلوماسية الإقليمية التي نجحت في تحويل محاولة فرض إملاءات أحادية إلى مسار تفاوضي حقيقي.
وفيما يلي نص المقال:
أثناء اجتماعات الأمم المتحدة الأخيرة، اجتمع ترامب برفقة رئيس الجمهورية التركية أردوغان مع ثمانية من القادة المسلمين لمناقشة ملف غزة في جلسة مطوّلة. وفي ختام الاجتماع أُعلن عن توصل الأطراف إلى اتفاقٍ مهم مكون من 21 بندًا يهدف إلى ضمان وقف إطلاق النار. بعدها التقى جزار غزة نتنياهو ترامب في واشنطن، وصدر بيان نهائي يقترح خطةً مكوَّنة من 20 بندًا طلب من حركة حماس قبولها فورًا.
كانت دلائل كثيرة مريبة منذ البداية. أول خلل كان جوهرياً: وقف إطلاق النار لا يتحقق إلا عبر تفاوض بين طرفي القتال، وليس بفرض مسودة جاهزة على أحد الأطراف من قادة لم يجالسوه أو يمثلوه. هنا اتفق قادة الولايات المتحدة وإسرائيل على مسودة قدموها إلى حماس وحلفائها، وفي بعض بنودها بدا جلياً — بشكل مباشر أو غير مباشر — أنها تستهدف تفريغ غزة وإخضاع أهلها للتصفية أو الانهيار. هدد نتنياهو حماس بخيارين: إما القبول كما هو أو تحمل العواقب الوخيمة. لم تمنح حماس فرصة المشاركة أو الاعتراض.
قليل من المحللين لاحظوا أيضاً أن المسودة انحرفت في مواضع عدة عن الخطة التي سبق أن وافقت عليها بعض الدول الإسلامية؛ واحتجاج باكستان تلاشى دون أثر. وكما يفعل عادة، كذب ترامب حين ادعى أن هذه الخطة حظيت بموافقة الدول الإسلامية.
من هذين الزعيمين اللذين تقترن بهما صورة مشحونة: أحدهما دمويّ بذيء، والآخر منفصل عن أية قيمة إنسانية ويعكس أشدّ أشكال الهوس الاقتصادي المريض — لا يُعقل أن يُنتظر منهما سوى أن يرميا بحماس كرة ملتهبة ثم يبتعدا. وذهب ترامب أبعد من ذلك مهددًا بأنّ إذا لم ترد حماس بالإيجاب خلال المهلة المحددة أو رفضت الخطة، فسيُرفع عن إسرائيل ما يقيّدها — أي سيُمنح لإسرائيل حرية العمل بلا ضوابط.
يتضح أن هذه الخطة المُعَجَّلة، التي بدا أنها نتاج تواطؤ بين تياراتٍ كيهانية متدينة وإنجيليين متحمّسين، كانت انعكاسًا لحالةٍ من الضيق والذعر. موجةُ رفض الصهيونية وارتفاع المواقف المناهضة للكاهانية بلغت مستوىً هائلاً على الساحة العالمية؛ وقد وصلت إلى درجةٍ تُدين إسرائيل وتلعن سياساتها عبر أجيال. حتى السائح الإسرائيلي صار يجد صعوبةً في العثور على مطعم يخدمه في بعض الأماكن، وتغلق الأبواب في وجهه بينما يواصل الاحتجاج الشعبي اتساعه. وفي المقابل، كان أسطولُ الصمود في طريقه لكسر الحصار — ومن هنا جاء استعجال الأطراف المروِّجة للخطة: أرادوا أن يظهروا أنهم بادروا هم أولًا إلى «السلام» وأن يُحتسب ذلك دليلًا على حسن نواياهم؛ كما رآه ترامب فرصةً محتملةً لاقتناص جائزة نوبل للسلام.
كان المشهد مأساويًا لحماس ومكوناتها: إن قبلت فكان ذلك بمثابة انتحار وفسح ممر لتدميرها وترك سكان غزة مكشوفين بلا حماية؛ وإن رفضت فكانت الإبادة ستستمر حتى نهايتها. الاجتماعات والمداولات أظهرت هذا المآل بوضوح، وكان التوقّع السائد أن حماس لن تقبل صفقةً مذلّة تُجهض مقاومتها وتُفكك روحها. وفي المقابل، رفض الخطة قد يهب لإسرائيل ذريعةً لادعاء أن حماس طرف متصلب لا يقبل السلام، وهو ما يُسهِم في تلطيف النقد الدولي عنها. ومع ذلك، بدا أن الخيار الشريف هو المقاومة والصمود حتى النهاية.
غير أن السيناريو لم يجرِ كما كان مخططا لهم. انعقدت في الدوحة جلسة بجهودٍ بارزةٍ من تركيا وقطر ومصر. المحللون السطحيون اعتبروا أن الهدف كان إقناع حماس بالقبول، لكن الواقع كان مختلفًا: مصر وتركيا — وإن اختلفت دوافعهما — لم تكونا مرتاحاتين إزاء اتفاقٍ قد يضع نهايةً كليةً للقضية الفلسطينية بتوقيعهما. وربما قطر أيضًا شعرت بنفورٍ من هذا المسار.
هنا تَدخلت الحكمة الدبلوماسية، ويبدو أن تركيا قادت المسعى لتفكيك هذا القنبلة. كانت المسألة حسّاسة: الرفض الصريح سيخدم الجانب الكاهاني والإنجيلي والصهيوني، والقبول الأعم سيُفقد القضية جوهرها. فتحت مساحة لخيارات وسطية؛ وفي مقدمة الرد مجاملات لترامب وشكر على مبادرته، ثم سعى المجتمعون لتحويل الأمر من إملاء أحادي إلى مسار تفاوضي.
قُبِلت بعض البنود الأقل ضررًا لما أشبه بـأهون الشرّين، مع إضافة ملاحظاتٍ وشروطٍ دقيقة، فأُبرِدت الكرة الملتهبة وأُعيدت إلى مُرسِلها. والآن الكرة في ملعب من أرسلها أولًا. للحقيقة، نحن في برنامج “غرفة العقل” على TV Net ناقشنا منذ البداية أن الأمور ستأخذ هذا المنحى بينما كان آخرون يتكهنون على الشاشات بين قبول ورفض.
ترامب رحّب بهذا التحوّل وأطلق تصريحاتٍ داعمة طالب فيها بوقف العمليات الإسرائيلية والجلوس إلى طاولة المفاوضات. واتضح من النتيجة العملية أن الخاسر الأكبر إسرائيل، التي ظنّت أنّها على مشارف الضربة القاضية.
و بدا أن الأمر خرج عن توقعاتهم: الداخل استشاط غضبًا من المتطرفين الذين ارتابوا في نفوذ نتنياهو، وانهالت التصريحات المتهمة بأن نتنياهو سقط في الفخ.
لكن فات الأوان لم تُهزم حماس، وفشلت محاولات ضم غزة. وبعد إطلاق سراح الأسرى، لن يبقى لإسرائيل أي ذريعة تبرّر بها تصعيدًا أوسع أو إبادةً مبرَّرة. الآن سيجلسون إلى الطاولة على مضض. كما يقول المثل: ” “من دقّ دُق.. ومن دق الباب يُجاب”