ميشيل هنري ديفوريت، الفيزيائي الفرنسي الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2025 إلى جانب البريطاني جون كلارك والأميركي جون مارتينيس، يُعد من أبرز العقول التي أسهمت في نقل ميكانيكا الكم من العالم المجهري إلى نطاق يمكن رؤيته ولمسه.
وجاء فوز العلماء الثلاث تقديراً لاكتشافهم ظاهرة “النفق الكمي الماكروسكوبي وتكميم الطاقة في الدوائر الكهربائية”، وهو إنجاز يمثّل نقطة تحوّل في فيزياء المادة المكثفة، ومهّد الطريق أمام تطوّر الحوسبة الكمية.
وُلد ديفوريت في باريس عام 1953، وتخرّج مهندساً في الاتصالات من مدرسة “تيليكوم باريس” عام 1975، قبل أن يتجه إلى دراسة الفيزياء بعمق، محققاً دبلوم الدراسات العليا في البصريات الكمية من جامعة أورساي، ثم درجة الدكتوراه في فيزياء المادة المكثفة عام 1982 من المركز الفرنسي للطاقة الذرية تحت إشراف الفيزيائي الشهير “أناتول أبروجام”.
منذ بداياته، أظهر ديفوريت قدرة لافتة على الجمع بين الحس الهندسي والخيال الفيزيائي، وهي الصيغة التي قادته لاحقاً إلى اكتشافات غير مسبوقة.
فبعد حصوله على الدكتوراه، انضم “ديفوريت” إلى مجموعة “جون كلارك” في جامعة كاليفورنيا-بيركلي، كباحث ما بعد الدكتوراه بين عامَي 1982 و1984، حيث التقى “جون مارتينيس”، طالب الدكتوراه الشاب آنذاك، لتنشأ بينهم علاقة علمية استثنائية أثمرت لاحقاً عن التجارب الأولى التي أظهرت المستويات الكمية في وصلة جوزيفسون فائقة التوصيل، وهي أول برهان عملي على أن الظواهر الكمية يمكن أن تمتد إلى أنظمة كهربائية “ماكروسكوبية”، أي يمكن ملاحظتها على نطاق أكبر من الذرات.
واصل ديفوريت مسيرته بين أوروبا والولايات المتحدة، متنقلاً بين مؤسسات علمية مرموقة مثل “كوليج دو فرانس” وجامعة ييل، وجامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا، حيث شغل منصب أستاذ الفيزياء، إلى جانب عمله حالياً في منصب كبير العلماء بقسم العتاد الكمي لدى “جوجل كوانتوم AI”.
ويُعرف تخصصه الدقيق اليوم باسم “الكمترونيات” وهو مجال يدرس السلوك الكمي في الدوائر الإلكترونية، وكيف يمكن استغلاله في بناء الحواسيب الكمية وأجهزة الاستشعار فائقة الحساسية.
“حرفة دقيقة”
طوال مسيرته، نال ديفوريت سلسلة من الجوائز الرفيعة التي سبقت نوبل، من بينها جائزة أمبير من الأكاديمية الفرنسية للعلوم (1991)، وجائزة ديسكارت-هوجنز (1995)، وعضوية الأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم (2003)، وجائزة جون بيل (2013)، وجائزة فريتز لندن (2014)، وجائزة ميكيوس الكمية (2021)، وصولاً إلى جائزة كومستوك في الفيزياء عام 2024.
في جوهر أعماله، ظل ديفوريت مؤمناً بأن الفيزياء ليست علماً نظرياً فحسب، بل هي “حرفة دقيقة” تحتاج إلى حسٍّ تجريبي رفيع. ففي مختبراته، تترجم الأفكار المجردة إلى دوائر كهربائية صغيرة تظهر سلوكاً كمياً متقلباً، حيث يمكن للإلكترونات أن “تتسلل” عبر الحواجز وتغيّر حالتها كما لو كانت كيانات حية.
هذا المزج بين النظرية والتجريب هو ما جعل من ديفوريت أحد رواد الجيل الذي نقل ميكانيكا الكم من معادلات الكتب إلى شرائح السيليكون.
وعندما أعلن عن فوزه بنوبل عام 2025، بدا المشهد كما لو أنه تتويج لأربعة عقود من البحث في أكثر الأسئلة عمقاً في الفيزياء.
فبينما يرى البعض أن “العوالم الكمية” تظل غامضة وبعيدة عن الواقع، أثبت ديفوريت وزملاؤه أنها يمكن أن تصاغ في دائرة كهربائية، وتقاس، بل وتستغل لبناء تقنيات المستقبل.
يمثّل ميشيل ديفوريت نموذجاً للعالم الذي مزج الصبر بالحدس، والتجريب بالحلم. وفي زمنٍ يسعى فيه الفيزيائيون إلى تسخير ميكانيكا الكم في كل شيء من الاتصالات إلى الحوسبة، يقف ديفوريت كأحد الذين جعلوا هذا الحلم يبدو ممكناً، وأثبت أن حتى أكثر الظواهر غموضاً يمكن أن تجد طريقها إلى المعمل.