الطليعة الشحرية

 

في صباحٍ مُشمسٍ، دخل الطاووس إلى بهو المؤسسة كما يدخل ممثلٌ إلى خشبة المسرح في ليلة العرض. خطواته مرسومة بعناية، كتفيه مرفوعتان، وعطره يسبق حضوره كستارة تُفتح قبل المشهد. كان يرتدي بذلة لامعة تكاد تعكس الأضواء، وربطة عنق أشبه بريشة ملوّنة تتباهى بها الطيور في موسم التزاوج.

المشهد الأول: التذلل أمام المسؤول

لمح المسؤول الكبير يدخل إلى الممر، فانكمش الطاووس فجأة كما ينكمش ممثل قبل بداية المشهد الأول. أسرع نحوه بخطوات خفيفة، خفض رأسه قليلًا، وبسط يديه بابتسامة خضوع مصطنعة:

ــ “سيدي، وجودك بيننا شرف لا يُقدَّر! كل ما نقوم به ما هو إلا امتداد لرؤيتك الحكيمة.”

وقف بجانبه متملقًا، يضحك لكل جملة تصدر عنه، حتى لو لم تكن طريفة، ويهز رأسه بإيقاع محسوب. كان يتلوى في حضرة المسؤول كما تتلوى الستائر مع هبوب الرياح؛ بلا ثباتٍ ولا ملامح خاصة.

المسؤول لم يكتفِ بابتسامةٍ مقتضبة كما يفعل من لا يعبأ؛ بل ارتسمت على شفتيه ابتسامة جانبية خفيفة، تشبه ابتسامة من يدرك اللعبة ويدع الآخرين يؤدّون أدوارهم كما يشاء. عيناه لمعتا بلمحة مكرٍ خاطفة، كأنما وجد في تذلل الطاووس مادةً جديدة للّعب، أو ورقة يمكن توظيفها لاحقًا. لم يُعلّق بكلمة؛ بل تركه يغرق في أدائه المسرحي، مكتفيًا بنظرةٍ تشبه نظرات الثعالب حين تراقب فريستها وهي تقترب من المصيدة بنفسها.

لكن ما إنْ غاب عن الأنظار حتى حدث التحوّل المسرحي المذهل. بدا وكأن ممثلًا قد خلع ثوب الشخصية الثانوية وارتدى في لحظةٍ واحدة رداء البطولة. اعتدل الطاووس في وقفته، ورفع رأسه بتؤدة كما يرفع الممثل الستار عن نفسه، ثم فرد كتفيه ونفش صدره كأن أضواء المسرح سلطت عليه فجأة. انقلب صوته من همسٍ متذلل إلى نبرةٍ عميقةٍ مشبعة بالثقة، وارتسمت على وجهه ملامح من اعتاد التصفيق لا الرجاء. حتى حركات يديه تبدلت؛ من انحناءاتٍ صغيرةٍ أمام المسؤول إلى إشاراتٍ عريضةٍ مترفة، كمن يخاطب جمهورًا ينتظره منذ زمن.

المشهد الثاني: التحول على الخشبة

رفع الطاووس رأسه ببطء، كأن الستارة قد فُتحت على مشهدٍ جديد. اعتدل في وقفته، نفش صدره، ومد ذراعيه في الهواء في حركة استعراضية. فجأة تغيّر صوته، وامتلأ بالغرور، وصاح أمام الزملاء:

ــ “لقد أُعجِب المسؤول بحضوري، قال لي بنفسه إن وجودي يعطي المكان هيبةً وأناقة. لا عجب، فأنا واجهة هذه المؤسسة، من دوني تبدو اللقاءات باهتة.”

ثم بدأ يتجوّل بين المكاتب كمن يمشي على منصة عرض أزياء، يرمق الزملاء بنظراتٍ من علٍ، يلمس سترته من حينٍ لآخر، ويميل برأسه إلى الخلف في وضعية مصمَّمة بدقة.

كنتُ أراقبه من بعيد، وكأنني أشاهد ممثلاً بارعًا في تبديل الأدوار، قبل دقائق كان تابعًا مخلصًا يلهث وراء الرضا، والآن صار بطلاً متخمًا بالغرور، يوزع نظراته كما يوزع الملك ابتساماته على رعاياه.

المشهد الثالث: الاجتماع المسرحي

في الاجتماع، وقف الطاووس فجأة كما يقف ممثل في منتصف المسرح أمام الأضواء، لم يحمل أوراقًا، لم يقدّم بيانات؛ بل بدأ خطابًا إنشائيًا مملوءًا بالإشارات المسرحية:

ــ “أنا دائمًا الواجهة المشرفة للمؤسسة… وجودي في أي محفل يرفع من قيمته. الناس لا يحتاجون إلى كثير من الشرح حين يرونني.”

لوّح بيده كمن يُلقي تحية الجماهير، ثم استدار ببطء أمام الحاضرين ليمنحهم مشهدًا كاملاً لريشه المصقول، ضحك بعض الزملاء ساخرين، لكن المدير ابتسم مجاملةً، فهو يعرف أن الطاووس ليس خطرًا بقدر ما هو زينة شكلية.

جلستُ أراقب الطاووس من طرف القاعة، وقد تحوّل أمامي من تابعٍ خافت الصوت إلى نجمٍ متخمٍ بذاته، وكأنني أشاهد مشهداً تمثيلياً حيّاً تتناوب فيه الأقنعة بين التذلل والانتفاخ. في حضرة المسؤول، ينحني كما تنحني أغصان الشجر تحت المطر، يهمس بصوتٍ ناعم، وعيناه تبحثان عن نظرة رضا تلمّ عليه بريقاً.

 لكن ما إن يغيب الضوء السلطوي حتى يرتفع رأسه، وينتفش صدره، ويمشي بيننا وكأنه محور الكون، في تلك اللحظة، لمحتُ عند الباب الثعلب يراقب المشهد بعينيه الماكرَتين، لا يصفق ولا يتكلم؛ بل يبتسم ابتسامة جانبية تُخفي خلفها أكثر مما تُظهر.

بدا لي المشهد غريبًا، الطاووس في مركز الضوء، والثعلب في الظل، أحدهما يَسكر بالتصفيق، والآخر يقتات على غفلة الجمهور. تأملتُ العلاقة بينهما، فوجدتها مزيجًا من تناقضٍ ظاهرٍ وترابطٍ خفي؛ الطاووس لا يحيا إلا بنظرات الآخرين، يحتاج إلى جمهورٍ ليضخّم ذاته، وإلى مديحٍ مستمر ليبقى منتفشًا. أما الثعلب، فيعيش على هامش الضوء، يرقب ويتحين اللحظة، يترك للآخرين ضجيج المسرح ليصطاد الفرص في الخلفية.

قلت في نفسي:

ــ “يا لها من صداقة غريبة… الطاووس يغترّ بسطوعه حتى العمى، والثعلب يختبئ خلفه كما يختبئ الصياد وراء الطُعم. أحدهما يتغذى على المديح، والآخر يتغذى على سذاجة الأول.”

نفسياً، كان الطاووس يمثل الأنا المتورّمة التي لا ترى إلا نفسها، بينما الثعلب يمثل العقل الماكر البارد الذي يراقب بذكاء ويستثمر ضعف الآخرين، كأنهما قطبان متعاكسان يجتمعان في لحظة نفعٍ مشترك؛ الأول يمنح العرض، والثاني يقطف الثمار من وراء الستار.

بعد الاجتماع، مرّ بجانبي بخطواتٍ محسوبة، وقال بصوتٍ واثقٍ متعالٍ:

ــ “رأيتِ كيف أُبهر الجميع؟ الظهور فن لا يتقنه إلا القلة.”

نظرتُ إليه طويلًا، وقلت في نفسي:

“ما أخطر من يُتقن التمثيل حدّ أن يُصدِّق دوره.”

كتبتُ في دفتري تلك الليلة:

“كان طاووسًا يبدأ تابعًا خافتًا أمام السُلطة، ثم يتضخم كالبالونٍ بعد لحظة إعجابٍ عابرة، إنه ممثلٌ بارع في التحول من الذل إلى الغرور في مشهدٍ واحد. لكنه لا يدرك أن التصفيق لا يصنع مجدًا، وأن البريق لا يعوّض الفراغ. يتقن فن العرض، لكنه يجهل أن الجمهور الحقيقي لا يصفق للريش؛ بل للجوهر.

ثم تساءلتُ في أعماقي: وهل ما زال هناك جمهور حقيقي؟ جمهورٌ لا تُخدعه الأضواء، ولا تُعميه الزخارف؟ أم أن الجميع صاروا مُمثِّلين ومصفقين في الوقت نفسه؛ بلا تمييزٍ بين الحقيقة والتمثيل؟!

شاركها.