شيماء آل جمعة

في ظهيرة جامعية هادئة، كانت نورة تدخل قاعة المحاضرات بخطواتٍ يملؤها الفخر والإنجاز.. كل خطوة كانت تحمل صدى سنواتٍ من السعي والكدّ، وكأنَّ الأرض تعترف لها بجهدها وصبرها. وهي تتذكر كيف كانت بداية شغفها بالعلم، وكيف تحوّل الفضول الطفولي إلى طموح أكاديمي يقودها اليوم نحو البحث والتميز، جلست على أحد المقاعد، لكن قلبها لم ينسَ دفاتر الأمس ولا أصوات الماضي. كانت تشعر أن حلمها القديم قد صار حقيقة ملموسة؛ فهي اليوم طالبة في مرحلة الماجستير، وقد وصلت إلى ما كانت تراه بعيدًا في زمنٍ مضى.

وبينما هي غارقة في ترتيب أوراقها، فُتِح باب القاعة، فدخل وجهٌ بدا مألوفًا، لكنه حمل ملامح نضجٍ ووقار زادته السنوات عمقًا. توقفت أنفاس نورة لثوانٍ، واقتربت من تلك المرأة، وقلبها يخفق بقوة، وارتسمت ابتسامة عريضة على مُحياها؛ إذ أيقنت نورة حينها أن تلك المرأة لم تكن سوى أستاذتها شيماء، التي كانت تُلقي دروس العلوم بحماسٍ يوقظ في القلوب حب المعرفة والاستكشاف.

للحظةٍ، شعرتْ نورة أن الزمن توقف، وأن القدر أراد أن يجمع بينهما مجددًا، تقدمت نورة بخطوات مرتبكة لكن قلبها يغمره الامتنان، وقالت بصوت تغلبه الدهشة:

أأنتِ أستاذة شيماء؟! لم أصدق عيني… كيف يكون هذا ممكنًا؟ أنا طالبتك نورة، أنا إحدى تلميذاتك اللاتي تعلّمن على يديك.

تأملت المعلمة ملامحها قليلًا، وقد غيّرت السنوات قسمات الطالبة الصغيرة، فلم تتعرف عليها لأول وَهلة. لكن عينيْ نورة حملتا ذات البريق القديم، ذات الحماس الذي لا يُنسى. وفجأة عاد شريط الذكريات إلى الوراء: مشاركاتها الشفهية السريعة، حماسها في التجارب العملية، دقتها في الإجابة، وابتسامتها عند سماع كلمة “أحسنتِ”. عندها أشرقت ابتسامة دافئة على وجه المعلمة وقالت:

“نورة! الآن تذكرت… كيف كبرتِ وتغيرت ملامحكِ! لقد كنتِ متميزة في كل شيء: في تفاعلكِ، وفي نتائجكِ، وفي مشاركاتكِ… نعم، لم أنسَكِ أبدًا، وها أنتِ اليوم تواصلين مسيرتكِ في طلب العلم.”

اغرورقت عينا نورة بالدموع وقالت:

“صدقيني يا أستاذة، أنتِ السبب. لم أكن لأحب العلوم بهذا الشكل لولاكِ. كنتِ قدوتي، ومعلمتي، ومنكِ تعلمتُ أن العلم رسالة نعيشها لا مادة نحفظها. لذلك اخترت أن أسير على خطاكِ وأكون معلمة علوم”.

لم تتمالك نورة نفسها، وقالت وقد اختلطت دموعها بابتسامتها:

“لقد كنتِ أكثر من معلمة لنا، كنتِ قدوة ومُلهمة. كنتِ تدخلين الصف بابتسامة، وتجعلين العلوم درسًا ممتعًا لا نملّ منه، كنتِ تحفزيننا دائمًا بعباراتك المشجعة، وتقولين: أنا أثق بكم، أنتم قادرون على التفوق. وكنتِ تتابعين كل صغيرة وكبيرة، لا تتركي سؤالًا بلا جواب، ولا طالبةً بلا دعم.

أتذكر كيف كنتِ تراجعين معنا الدروس بشكل مستمر، حتى صارت المراجعة عادة أحببناها لا عبئًا نتهرب منه. كنتِ تجعليننا نشارك ونجرب ونخطئ ونتعلم بلا خوف. ومع الوقت، ارتفع أدائنا الدراسي وصارت مادة العلوم هي الأكثر انتظارًا بين الجدول الدراسي. لم يكن ذلك لأننا كنا نحب المادة فقط؛ بل لأننا كنا نحبكِ أنتِ”.

وبينما كانت الكلمات تتردد في القاعة، كانت زميلات الأستاذة ينصتن للحوار بانتباه وظهر التأثر جليًا على وجوههن، حتى إن بعضهن ابتسمن بدموعٍ صامتة. وكأنهن يشهدن شهادة حيّة على عظمة دور المعلم.

كان المشهد مؤثرًا إلى درجة جعلت الجميع يدرك أن ما يُزرع في القلوب لا يمحوه الزمن، وأن أثر المعلم أبقى من أي شهادة أو منصب.

ابتسمت الأستاذة شيماء بفخر وحنان، وردّت بصوت يختلط بالعاطفة:

 “يا نورة… هذا هو أجمل ما يمكن أن يسمعه المعلم. أن يرى ثمرة جهده تكبر أمامه وتواصل المسيرة. أنا فخورة بكِ يا نورة …فاليوم أراكِ أمامي، لا كطالبة فقط، بل كزميلة في مقاعد العلم. وهذا أجمل تكريم يمكن أن يحظى به أي معلم”.

في تلك اللحظة، أدركت نورة أن الرسالة التي حملتها أستاذتها قبل سنوات، قد انتقلت إليها الآن لتكمل المسيرة، وتصبح هي الأخرى معلمة ملهمة تزرع الأمل والطموح في نفوس طالباتها.

هذا الموقف لم يكن مجرد لقاء عابر، بل كان شاهدًا حيًا على أن المعلم قدوة وصانع أجيال. قد لا يتذكر الطلبة كل درسٍ كُتب على السبورة، لكنهم يتذكرون دائمًا الكلمة الطيبة، والنظرة المشجعة، والإيمان بقدراتهم. وهكذا، كان لقاء نورة بمعلمتها رسالة قوية لكل معلم ومعلمة: وهي أن تأثيركم يتجاوز حدود الصفوف الدراسية، ليصنع طموحاتٍ ومساعي، ويحدد اتجاهات مستقبل إنسان بأكمله.

شاركها.