خالد بن سالم الغساني
الآن وبعد ان أُعلن عن وقف حرب الإبادة على غزّة، التي لم تكن سوى إحدى حلقات الصراع الطويل، بين إرادة الحرية وجبروت الاحتلال ووحشيته، وبعد الإعلان عن اتفاق انسحاب قوات الاحتلال من القطاع، تشرق الحقيقة التي طالما حاول تجاهلها من راهنوا على القوة وحدها: أن إرادة المقاومة هي التي تصنع النصر، لا ترسانات السلاح ولا جبروت العدو.
لقد أخطأ من ظنّ أن آلة الدمار يمكنها أن تهزم الإيمان، أو أن القنابل والميركافا وإف 35، تستطيع أن تثني العزيمة والإيمان في قلوب أبطال غزّة. صحيح أن العدو امتلك الطائرات والدبابات والمال والدعم الأمريكي السخي، لكنه لم يمتلك يوماً ولن يمتلك، روح الأرض التي شمخ وتأبى الخضوع، ولا أرواح المقاومين الذين نذروها لله وللوطن.
فالمحتل ومن خلفه قوى الاستعمار العالمي استطاعوا أن يدمّروا البيوت على ساكنيها، وأن يجعلوا من المدن رماداً، لكنهم عجزوا وسيستمر عجزهم عن كسر الإرادة، لأن هذه الإرادة نُسجت من طهارة التراب، ومن دماء الشهداء الذين رووا بدمائهم تراب الوطن وخطّوا به حدود فلسطين. وكما قال جيفارا ذات يوم: علّمني وطني أن دماء الشهداء هي التي ترسم حدود الوطن.
لقد كانت غزّة، على مدار الشهور الماضية، ميداناً تتجلى فيه عظمة الصمود الفلسطيني، من بين الركام، ووسط الحصار، ووسط حربٍ سٌجلت بأنها الأشدّ دموية في تاريخ المنطقة وربما العالم، خرج الفلسطينيون يواجهون بصدورهم العارية، وبإيمانٍ لا يلين. قاوموا بوسائلهم البسيطة، وصنعوا بصمودهم ما عجزت عنه جيوش كبرى. وهاهم اليوم يفرضون وقف النار، لا كهزيمة، بل كإعلان عن أن الاحتلال فشل في تحقيق أهدافه، وأن المقاومة انتصرت ببقائها واقفة وفي فرضها شروطها على العدو.
إن هذا الاتفاق هو تتويج لصمودٍ أسطوريٍّ لشعبٍ لم يستسلم رغم الألم والجوع والدمار. إنه تأكيد على أن الكفاح الفلسطيني لا يمكن كسره، وأن إرادة الشعوب أقوى من كل الأسلحة، في جنين والقدس وغزّة العزة وسائر فلسطين، يواصل الأبطال كتابة التاريخ بدمائهم، حاملين راية المقاومة جيلاً بعد جيل.
ورغم ما ارتكبه الاحتلال من جرائم، فقد بدأ العالم أخيراً يسمع الصوت الفلسطيني الحر. من شوارع أوروبا إلى جامعات أمريكا، ارتفعت الأصوات الحرة تفضح العدوان وتدعم حق الفلسطينيين في الحياة والحرية. وهكذا تجاوزت القضية حدود الجغرافيا، لتصبح قضية إنسانية عالمية، تجمع أحرار الأرض على كلمة واحدة: الحرية لفلسطين.
اليوم، ومع وقف الحرب وانسحاب الاحتلال، يتأكد أن هذا الكيان، مهما طال بطشه، يسير نحو مصيره المحتوم، فالتاريخ لا يرحم المحتلين، وسنن الكون لا تنحاز إلى الباطل. سينهار الجبروت كما انهارت قبله إمبراطوريات الظلم، وسيعود الوطن لأهله، حرّاً أبيّاً.
إننا نؤمن أن النصر الحقيقي ليس فقط في وقف الحرب، بل في استمرار المقاومة وصون الثوابت والإصرار على الحق حتى التحرير الكامل. فليستمر الجهاد، وليبقَ الصمود، ولتعلُ راية فلسطين خفّاقةً فوق الأرض التي باركها الله.
المجد للمقاومة… المجد لغزّة الصامدة… والمجد لكل من وقف مع الحق في وجه آلة العدوان.
فالنصر، وإن بدا ناقصاً في حسابات السياسة، لكنه كامل في ميزان الشرف والكرامة..