قبل شهر من اليوم، وقعت الضربة الإسرائيلية على الدوحة، كزلزال في قلب المعادلات الأمنية لمنطقة الخليج، يستدعي تغييراً كبيراً في السياسات والتحالفات الدفاعية على أرض الواقع.
وتملك دول مجلس التعاون الخليجي، إطارين للدفاع الجماعي المشترك، منها اتفاقية الدفاع العربي المشترك التي وقّعت عليها الدول الخليجية، وكذلك اتفاقية الدفاع المشترك لدول مجلس التعاون الخليجي.
ووقّعت السعودية وقطر والإمارات وعمان والكويت والبحرين، اتفاقيات دفاعية عديدة مع الولايات المتحدة الأميركية، وتركيا، كما وقعت السعودية اتفاقية دفاع مشترك مع باكستان، الدولة النووية الإسلامية الوحيدة، بعد أسابيع قليلة من الضربة الإسرائيلية على الدوحة، لتشكل منعطفاً جديداً بالكامل على الساحة الخليجية، خاصة فيما يتعلق بالتعاون الدفاعي المشترك، وقدرة دول مجلس التعاون الست، على مواكبة المتغيرات الكبيرة التي جعلت دولة قطر، تتعرض للقصف الإسرائيلي، وقبله لهجوم صاروخي إيراني خلال أشهر قليلة.
تاريخ الدفاع الخليجي المشترك
بدأت دول الخليج رحلتها نحو التنسيق العسكري منذ الاجتماع الأول لدول مجلس التعاون الخليجي في العاصمة السعودية الرياض عام 1981، وتوجت المساعي بتوقيع قادة الدول الخليجية في ديسمبر عام 2000 خلال القمة الخليجية التي استضافتها العاصمة البحرينية المنامة، على اتفاقية الدفاع المشترك لمجلس التعاون الخليجي.
وبعد 9 سنوات، أقرت الدول الأعضاء في المجلس، خلال الاجتماع الثلاثين للمجلس الأعلى “الاستراتيجية الدفاعية” لدول مجلس التعاون الخليجي. واستهدفت رؤية الدول الخليجية تعزيز قدرات الدول الأعضاء في المجال الدفاعي، مؤكدة “الأسس والثوابت” التي تنطلق منها، وحددت الأهداف الدفاعية الاستراتيجية وطرق ووسائل تحقيقها، فضلاً عن التأكيد على أهمية إجراء تقييم استراتيجي شامل للبيئة الأمنية الاستراتيجية والتهديدات والتحديات والمخاطر بصفة دورية، حسب ما نشره الموقع الرسمي لمجلس التعاون لدول الخليج العربي.
وعملياً، بدأت دول الخليج مبكراً في إجراءات محددة، ففي 1982، صدر قرار المجلس بإنشاء القوات العسكرية المشتركة لدول المجلس باسم “قوة درع الجزيرة”، بحجم فرقة مشاة ميكانيكي كاملة مع إسنادها القتالي والإداري، ثم تطورت في 2006، إلى قوات درع الجزيرة المشتركة، مع إضافة قوات جوية وبحرية لها، وفي 2009، انضمت قوات تدخل سريع لقوات درع الجزيرة.
أدوات القوة الخشنة.. القدرات العسكرية لدول الخليج
تمتلك دول مجلس التعاون الخليجي، مجموعة من أكثر الأصول العسكرية حداثة وتطوراً في المنطقة. خاصة في سلاحي الجو وقدرات الدفاع الجوي والسلاح البحري وأنظمة الاتصالات. إذ حققت دول خليجية عدةٍ، قفزات على مستوى التسليح عبر صفقات كبرى خلال السنوات القليلة الماضية.
لكن على الرغم من أن دول مجلس التعاون الخليجي لديها إطار دفاعي مشترك منذ تأسيسه، إلّا أن هذا التنسيق الدفاعي لم ينسحب إلى ملف التسليح. فكل دولة تعمل على توفير احتياجاتها العسكرية من المصادر الدولية التي تتواءم مع متطلباتها المختلفة، ورغم تنوع المصادر دولياً، إلّا أن دول الخليج في الأغلب تتجه إلى الصناعات الأميركية- الأوروبية، لتلبية احتياجاتها الدفاعية.
تتربع السعودية، على قائمة أكبر وأقوى جيوش دول مجلس التعاون، فهي الدولة صاحبة الإنفاق الأبرز على قطاع الدفاع، إذ تنفق الرياض أكثر من 74 مليار دولار على القطاع، وتمتلك أكثر من 1000 دبابة قتال ونحو 449 طائرة، فضلاً ولكنها تتجه في أغلبها الأعم إلى الصناعات الدفاعية الأوروبية- الأميركية لتلبية تلك الاحتياجات.
فضلاً عن 12 فرقاطة وأكثر من 22 ألف مدرعة، وأنظمة دفاع جوي متطورة مثل باتريوت وثاد الأميركية، فضلاً عن عشرات البطاريات من أنظمة سكاي هوك وشاهين وكروتال. وتستحوذ المملكة على شبكة قوية من الرادارات، ووسائل القيادة، والسيطرة والتحكم.
فيما تملك الإمارات التي تتجاوز ميزانيتها الدفاعية بنحو 22 مليار دولار، أكثر من 300 دبابة قتال رئيسية، إضافة إلى أنظمة أميركية مثل باتريوت وثاد، وأخرى كورية مثل منظومة Cheongung للدفاع الجوي، وكذلك شبكة قوية من الرادارات وطائرات الإنذار المبكر مع نحو 148 طائرة مقاتلة.
في المقابل تملك قطر، التي تتجاوز ميزانيتها الدفاعية 9 مليارات دولار، 12 بطارية باتريوت و3 كتائب من منظومة NASAMS-2 الأميركية، فضلاً عن 98 طائرة قتال حديثة، إضافة إلى قدرات إنذار مبكر ودفاع جوي أميركي في قاعدة العديد الأميركية.
وتملك سلطنة عمان 10 كتائب NASAMS-2 وكتيبة VL- MICA و12 كتيبة Rapier، فضلاً على 47 مقاتلة مع إجمالي إنفاق 6.6 مليار دولار.
فيما تصل الميزانية الدفاعية لدولة الكويت إلى 7.8 مليار دولار، وتملك 7 بطاريات باتريوت أميركية الصنع و7 كتائب من نظام آمون المصري للدفاع الجوي.
بينما تنشر مملكة البحرين بطاريتي باتريوت، إضافة إلى كتيبتين لصواريخ هوك الأميركية، و7 كتائب من منظومة كروتال الفرنسية. حسب تقديرات المعهد الدولي لدراسات السلام.
تأثير ضربة إسرائيل.. البحث عن “سد الخلل”
أتت الضربة الإسرائيلية التي استهدفت قيادات حركة حماس الفلسطينية في الدوحة خلال سبتمبر الماضي، لتدق أجراس الإنذار في دول مجلس التعاون بالكامل. فقد سبقتها ضربة إيرانية لمواقع أميركية في الدوحة أيضاً، وهي الضربة التي تصدت لها الدفاعات الجوية القطرية والأميركية بخلاف الضربة الإسرائيلية.
وكانت الضربة الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت قطر، النقطة الرئيسية لإعادة تفكير دول مجلس التعاون الخليجي في تغيير الاستراتيجيات الدفاعية على الأقل على المدى المتوسط.
ومن المتوقع أن تكون المؤسسات الدفاعية في الخليج قد بدأت بالفعل في استخلاص الدروس المهمة من الضربة الإسرائيلية وقبلها الإيرانية، والهجمات التي شنها الحوثيون على السعودية والإمارات في الأعوام القليلة الماضية.
وأظهر القصف الإسرائيلي للدوحة، 4 من أوجه القصور الرئيسية في الاستراتيجيات الدفاعية، أولها فشل معلوماتي في تقدير التحركات الإسرائيلية ضد قيادات حركة حماس في الدوحة. والثاني عدم فاعلية شبكة الإنذار المبكر لدول مجلس التعاون الخليجي، سواء في اكتشاف أو تمييز الطائرات والذخائر الإسرائيلية الموجهة التي استهدفت الدوحة.
كما كشف الهجوم أيضاً عن عدم فاعلية قواعد الاشتباك الجوي لدول مجلس التعاون الخليجي ضد التهديدات الجوية، خاصة التهديدات المتطورة مثل التهديد الإسرائيلي. وأخيراً، التشكك في مدى فاعلية مظلة التأمين الأميركية لدول مجلس التعاون، خاصة أمام أي إجراءات عسكرية تقوم بها إسرائيل– الحليف الوثيق لواشنطن– ضد أي من دول الخليج.
الخليج على مفترق طرق.. ماذا بعد الدوحة؟
وتواجه دول مجلس التعاون الخليجي، لحظة مفصلية بعد استهداف الدوحة، لكن الحلول ليس معدومة أمامها، وعلى الأرجح أنها تتحرك بين خيارين رئيسيين، ما يؤدي إلى تغيير المشهد في المنطقة التي جرى استهدافها مرتين في أقل من عام.
الخيار الأول: النظر في مدى جدية الولايات المتحدة، وهي القوة العظمى التي تحتفظ بقواعد عسكرية عديدة في المنطقة، في حماية أمن دول الخليج، الحليف الوثيق لواشنطن، خاصة في مواجهة أي اعتداءات إسرائيلية. وهي نقطة رئيسية، إذ تسببت الضربة الأخيرة في الدوحة في خلخلة القناعات الثابتة حول جدية المظلة الدفاعية الأميركية المفترضة، خاصة مع علاقات وثيقة ظهرت جلية على السطح في زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لثلاثة من الدول الخليجية المؤثرة، والاحتفاء الذي قابلت به واشنطن وعود الاستثمارات الخليجية التي قد تتجاوز قيمتها 3 تريليون دولار.
المسار المدفوع بالتشكك في جدية العلاقات الدفاعية مع واشنطن، خاصة إذا تدخل فيها العامل الإسرائيلي، قد يستتبعه تحرك خليجي موسع لفتح شراكات دفاعية جديدة مع قوى دولية مختلفة. أو حتى التحرك نحو دول لديها قدرات عسكرية أو صناعية تستطيع سد أي قصور أميركي قد يحدث مستقبلاً.
الخيار الثاني: فهو بدء دول الخليج، عمليات تنظيم وتفعيل حقيقي لمنظومة أمن جماعي، تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي، وبشكلٍ أكثر استقلالية وعمقاً. وفي حال سلكت دول المجلس هذا المسار، فإنه من المرجح أن تعيد الدول الخليجية رسم خارطة الشراكات العسكرية الخارجية الخاصة بها، بما يشمل ذلك من تدريبات مشتركة ومشتريات دفاعية، بل واستضافة هذه الدول لقوات أجنبية على أراضيها بغرض الدفاع.
ورغم أن خيار السير على درب تفعيل واقعي لمنظومة دفاعية خليجية جماعية، قد يغير المشهد، إلّا أنه بالتأكيد بحاجة إلى توافق واسع خليجياً، وتوحيد رؤية قادة دول مجلس التعاون في كيفية التعامل مع هذه المستجدات الخطرة على أمنهم.
التهديد الإسرائيلي.. تحدٍ جديد لمنظومة الأمن الخليجي
على مدار عقود منذ تأسيسها، لم تشكل إسرائيل مصدر تهديد مباشر على أراضي دول الخليج العربي، فغالباً ما كان تهديدها العسكري المباشر مُنّصباً على الدول المجاورة مثل مصر وسوريا والأردن ولبنان، وأحياناً يمتد التهديد لدول مثل العراق. لكن المشهد تغيّر بالكامل، إذ أصبحت إسرائيل قادرة على ضرب التهديد التقليدي للخليج، المتمثل في إيران، بل وامتدت القدرات الإسرائيلية لتنفيذ ضربة في عاصمة دولة خليجية.
وأظهرت الهجمة الإسرائيلية الأخيرة، من منظور خليجي، أن تل أبيب لن تراعي أي مبادئ متبعة في العلاقات الدولية، إذ استهدفت دولة خليجية ذات سيادة، لم تنفذ أي اعتداء على إسرائيل. وتجاهلت دور الدوحة كوسيط في مفاوضات جارية، وهو ليس وسيطاً حديثاً بالنسبة لتل أبيب، بل وسيط موثوق لطالما تعاملت معه إسرائيل سواء قبل أو بعد السابع من أكتوبر، خاصة فيما يتعلق بالشأن في قطاع غزة.
لذلك فمن المتوقع أن تتحرك الدول الخليجية لتصنيف إسرائيلي كتهديد مباشر جديد، وعدم التعامل معها كشريك أمني موثوق، بعدما أصبحت تل أبيب تمثل تهديداً جديداً إلى جانب طهران كتهديد تقليدي لدول مجلس التعاون، ما يجعل معادلة الأمن الخليجي، مضطرة لمواجهة تهديدين من اتجاهين مختلفين على مساحات واسعة.
وقد تبدأ دول الخليج، وخاصة السعودية، باعتبارها الأقرب جغرافياً، إلى وضع إسرائيل ضمن “الاتجاهات غير الآمنة”، وهو تصنيف استراتيجي يعني الاتجاه الجغرافي الذي يحتمل مواجهة تهديد من قبله.
وهذا التحرك قد يتبعه إجراءات عسكرية وسياسية، منها إعادة بعض الدول الخليجية، وعلى رأسها السعودية، النظر في مشاريع تطبيع العلاقات مع إسرائيل، فعلى الرغم من إعلان المملكة رفضها التطبيع مع إسرائيل دون الدخول في مسار واضح لإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، إلّا أن الضربة الأخيرة على الدوحة، سوف تدفع المملكة لموقف أكثر صلابة في هذا الإطار، فبالإضافة إلى شرط مسار الدولة الفلسطينية، فمن المتوقع أن تطلب المملكة في أي محادثات مستقبلية ضمانات أمنية واضحة ضمن أي حديث عن تطبيع العلاقات.
وميدانياً، قد تبدأ السعودية في تعزيز إجراءاتها الدفاعية في الاتجاه الشمالي الغربي، باعتباره المنطقة الأقرب لمصدر التهديد المحتمل. ومن بين الإجراءات العسكرية المتوقعة في هذه الحالة، مراجعة قواعد الاشتباك الجوي مع الطائرات والأهداف الجوية المشكوك في خطورتها على الأجواء الخليجية.
إضافة إلى ما سبق، ستؤثر تداعيات الهجوم الإسرائيلي على قطر في زيادة تحفظ الدول الخليجية التي تملك علاقات بالفعل مع تل أبيب، وقد يؤدي إلى تقليص بعض الشراكات التجارية والتقنية والعلمية. بالإضافة لذلك، سوف يفرض فكرة تحديد إسرائيل كتهديد جديد لمنظومة الأمن الخليجي، من بينها إجراءات أمنية مثل زيادة المتابعة الأمنية للإسرائيليين، ومزدوجي الجنسية الحاملين لجنسية إسرائيلية، خلال تحركهم في دول مجلس التعاون الخليجي.
التحركات القطرية.. البحث عن معادلة جديدة
الهجوم الإسرائيلي الأخير جعل قطر وهي أكثر الدول الخليجية تضرراً من هذا الخلل، تسعى للبحث عن معادلة جديدة لتأمين أرضها ومصالحها وضيوفها في مواجهة إسرائيل. لذلك قد تحاول دمج طرف إقليمي جديد في معادلة البحث عن نهاية للحرب في غزة، ومن المرجح أن يكون هذا الطرف هو تركيا. إذ تحتاج الدوحة لدور أنقرة لتكون حاضنة ثانية بجانبها للقيادات الفلسطينية من حركة حماس، حتى ولو عبر تسكينهم بهويات أخرى مع عائلاتهم في قطر وتركيا.
ويمكن لقطر أيضاً استغلال نفوذها الإعلامي لحشد موقف مؤثر ضد إسرائيل خاصة في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا، معتمدة على توسيع إسرائيل لانتهاكاتها من القطاع إلى المنطقة.
وأيضاً تمتلك الدوحة فوائض مالية ضخمة، قد تساعدها لحشد حملة علاقات عامة لمواجهة النفوذ الإسرائيلي في الولايات المتحدة، خاصة مع بدء التساؤل في الشارع الأميركي عن عشرات المليارات التي تحصل عليها تل أبيب، وحقيقة نفوذ اللوبي الإسرائيلي هناك، وسط حالة من عدم الرضا عن مستوى الخدمات الأساسية والصحية في غالبية الولايات الأميركية.
ولدى الدوحة ورقة أخرى مهمة، هي الوعود الاستثمارية التي اتفقت مع ترمب عليها خلال زيارته للمنطقة. وكذلك استضافة قطر لأكبر قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة، وهي أوراق تجعل لقطر القدرة على المطالبة بإجراءات تأمين عالية، من بينها إدراج المعلومات عن إسرائيل ضمن بنود التعاون الاستخباراتي بين البلدين. فضلاً عن ربط شبكة الإنذار المبكر وقيادة السيطرة بين القوات القطرية والأميركية، بحيث يتم عرض المعلومات على نحو متزامن.
وأيضاً يمكن لقطر أن تطالب واشنطن، بإطلاق مظلات حماية جوية في الاتجاهات المختلفة لمواجهة أي تسلل إسرائيلي محتمل، وكذلك متابعة المديات الجغرافية المختلفة التي يمكن من خلالها للطائرات الإسرائيلية إطلاق ذخائرها الموجهة من مسافات آمنة نسبياً.
وقد تتطلب هذه الإجراءات، بناء اتفاق دفاعي جديد بين الولايات المتحدة وقطر التي قد تتحمل جزء أو كل الأعباء المالية المترتبة على الإجراءات الدفاعية المستحدثة.
الاتفاق السعودي – الباكستاني.. كرة الثلج بدأت في التدحرج
على مدار عقود، استثمرت السعودية في علاقتها مع باكستان كونها الدولة الإسلامية الوحيدة، التي تمتلك أسلحة نووية، وذلك سعياً لتشكيل مظلة ردع ضد إيران التي تسعى لتطوير مواد نووية عسكرية منذ التسعينيات، واستفادت إسلام آباد من تلك العلاقة عبر توفير دعم مالي لاقتصاد باكستان المتعثر على مدار عقود.
وجاء توقيع اتفاقية الدفاع المشترك بين المملكة وباكستان ليمثل محطة جديدة ليس فقط في العلاقات الراسخة بالفعل بين البلدين، بل في المشهد الدفاعي الخليجي برمته.
فالدولتان، تتمتعان بعلاقات قوية مع واشنطن، والدولتان يحيطان تقريباً بإيران من الشرق والغرب. علاوة على ذلك فكل من السعودية وباكستان، تمتلكان رصيداً ثنائياً من العلاقات يجعل من غير المحتمل في المدى المتوسط، أن تضطرب العلاقات بينهما.
وفي السياق ذاته، تبدو الاتفاقية من زاوية أخرى وكأنها كرة الثلج التي قد بدأت بالتدحرج لتهدم، ولو بشكل جزئي وليس كلي، ثقة دول الخليج في مظلة الحماية الأميركية، خاصة إذا دخل حليف أميركي قوي مثل إسرائيل إلى المشهد.
حيث أظهر رد فعل واشنطن على استهداف مقر قيادات حماس في العاصمة القطرية، مدى ضعف الإدارة الأميركية، وعدم قدرتها على لجم أفعال الحكومة الإسرائيلية، بل وعدم تحرك واشنطن نحو موقف أميركي يرضي دول الخليج على الأقل.
أما من ناحية توقيت الاتفاقية، فمن المحتمل أن ذلك الاتفاق، الذي يعتبر تطوراً لافتاً في التفاهمات العميقة بين المملكة وباكستان، جرى تعجيل توقيعه بطلب من الرياض، خصوصاً بعد استهداف إسرائيل للأراضي القطرية، إذ أن هذا النوع من الاتفاقيات، يصعب بشدة أن يكون وليد أيام أو أسابيع قليلة. كما أن العلاقات الدفاعية المتجذرة بين الرياض وإسلام آباد، تؤكد أن مثل هذه الاتفاقيات ليست جهداً قصير الأمد يُفضي إلى التوقيع.
ويظل من المرجح أن تكون الاتفاقية قد “طبخت على مهل” لفترة طويلة سابقة، لكنها خرجت للنور حين رأت دول مجلس التعاون، خاصة السعودية، ضعف رد الفعل الأميركي تجاه إسرائيل بعد استهدافها عاصمة خليجية.
في ميزان القوى.. احتمالات عسكرية مختلفة
رغم توقيع اتفاقية الدفاع المشترك بين السعودية وباكستان، والتصريحات الباكستانية بأن الاتفاقية تشمل “كل القدرات العسكرية بما فيها السلاح النووي”، إلّا أن المشهد العسكري بين البلدين يحتاج إلى مزيد من الإجراءات لنقل بنود الاتفاقية من الإطار السياسي إلى الممكن عملياً.
ولا تملك باكستان قوات عسكرية متنوعة ومؤثرة في أي منطقة بالقرب من دول الخليج، ولا في دول الخليج نفسها، باستثناء مدربين ومستشارين عسكريين وذلك في ضوء التمركزات العسكرية الروتينية للبلدين، إذ لا توجد واقعياً اي إمكانية لباكستان كي توفر رد عسكري مباشر وفوري إذا ما تعرضت السعودية لأي اعتداءات، سواء نفذت هذه الاعتداءات دولة، أو حتى تنظيمات مسلحة.
بالإضافة إلى ذلك، تحتاج باكستان لاستخدام الاتفاقية لنقل بعض من قواتها العسكرية الضاربة، خاصة من القوات الجوية والمدفعية الصاروخية، لتتمركز بشكل مؤقت أو دائم في السعودية. لكن كي يحدث مثل هذا التحرك العسكري الضخم، يجب أولاً اتفاق الجانبين على تعريف موحد لأنواع التهديدات، وقواعد الاشتباك وحدودها. وهو أمر لا يزال غير واضح المعالم، مما يرفع التوقعات بكون الاتفاقية جاءت تلبية لمطلب سياسي وليس لغرض عسكري محدد.
بخلاف ذلك، فإن الاتفاقية بهذا الحجم، تجعل أسئلة كثيرة تطرح، منها هل باكستان التي تواجه توتراً مستمراً مع جارة نووية قوية مثل الهند، تمتلك بالفعل “فائض قوة عسكرية” يمكنها المناورة به في مثل هذه الاتفاقيات؟
وقد لا تكون باكستان حالياً في موقع يؤهلها لتنفيذ عمليات تشي بفائض قوة كبير. لكن من المتوقع أن تسعى إسلام آباد بكل طاقتها، لاستغلال الاتفاقية لبناء قدرات عسكرية أكبر، يمكن استخدامها في الدفاع المشترك عن المملكة، ليس فقط لتأكيد جدية الاتفاق من الناحية العسكرية، لكن أيضاً لجذب أكبر قدر من الحلفاء الخليجيين في هذا الإطار.
وأيضاً، قد يأتي هذا التحرك الباكستاني، بعد التعاون الدفاعي الأخير بين الهند (الغريم التقليدي لباكستان)، والمملكة المغربية، وهي إحدى الدول التي تتمتع بعلاقات قوية مع إسرائيل.
وتستفيد باكستان بقوة من اتفاقية الدفاع المشترك مع السعودية، إذ يؤمن لها هذا الاتفاق ضخاً مالياً لدعم الاقتصاد الباكستاني المأزوم، فضلاً عن وزن إضافي للثقل الجيوسياسي لباكستان، ليس في الخليج وحسب، لكن أمام الحليف الباكستاني الأبرز، وهو الصين.
وتعتقد إسلام آباد، أن مثل تلك الاتفاقات المتعلقة بالدفاع والتعاون العسكري، بين أي دولة خليجية وباكستان تقطع الطريق أمام أي طموح لتواجد عسكري هندي محتمل (سواء دائم أو مؤقت)، في منطقة الشرق الأوسط عامة ومنطقة الخليج العربي خاصة، وهو ما يصب أيضاً في مصلحة الصين، وهي حليف استراتيجي قوي لطالما ساندت باكستان اقتصادياً وعسكرياً.
وهو المسار الذي قد يفتح باباً واسعاً للتعاون بين السعودية والصين عسكرياً، بداية من المشتريات الدفاعية ووصولاً للبحث العلمي المشترك في الصناعات الدفاعية المتنامية في المملكة.
مستقبل الاتفاق الدفاعي.. إجراءات ميدانية واجبة
يحتاج انتقال الاتفاق السعودي- الباكستاني، من محطة الإعلان إلى محطات التنفيذ العملي على أرض الواقع، ضمن إجراءات متعددة من الناحيتين العسكرية واللوجستية. فالدولتان لا تربطهما حدود مشتركة، إذ تقع إيران في المسافة بينهما، كذلك لأن توفير الردع الدفاعي يتطلب عمليات توحيد مفاهيم وتدريب مكثف.
وعقب توقيع اتفاقية دفاع مشترك بهذا الحجم، تحتاج السعودية وباكستان، إلى تحديد أهدافهما مقسمة على مراحل. المرحلة الأولى هي تحديد التهديدات التي من المتوقع أن يتصدى لها الاتفاق المشترك. وبالتالي تحديد الوسائل التي يمكنها تحقيق الردع أولاً، ثم بناء القدرات الإيجابية في المجال الدفاعي.
بالتوازي، تحتاج القوات الجوية السعودية، ونظيرتها الباكستانية، لجدول دوري من التدريبات المشتركة، لتحقيق 3 أهداف رئيسية لها أهمية قصوى في العمليات العسكرية، أولها توحيد المفاهيم العسكرية بين القوتين الجويتين الكبيرتين، خاصة أن الدولتين تمتلكان أسلحة مختلفة (أصول جوية أميركية- أوروبية في السعودية، مقابل أصول أميركية- صينية- باكستانية في سلاح الجو الباكستاني).
وسوف يتبع توحيد المفاهيم العسكرية أو يتزامن معه تدريبات على العمليات المشتركة، عبر مناورات في مسرح العمليات أو بيئات مشابهة للبيئات العملياتية التي يتوقع أن تقوم فيها القوات المشتركة بالتصدي لأي تهديد. أيضاً ربما تحتاج القوات الجوية لكلا البلدين لتنفيذ عمليات مراقبة ودوريات استكشاف ودوريات جوية مشتركة فوق مناطق مختلفة في مسرحي العمليات.
هذا التعاون الدفاعي الثنائي، يجب أن ترافقه عمليات (تحديد الصديق من العدو) عبر أنظمة (IFF)، لكلا البلدين، لتجنب النيران الصديقة وقت العمليات الحقيقية، وحتى في التدريبات بالذخيرة الحية. أيضاً يجب ربط مراكز القيادة والسيطرة بحيث تكون قادرة على خدمة بعضها البعض بصورة مستمرة، سواء على المستويات الدفاعية السلبية، مثل الكشف الراداري وصور الأقمار الصناعية، أو حتى أعمال الإعاقة والتشويش سواء لتنفيذها بالشراكة ضد تهديد، أو لمنع تضارب الإشارات بين القوات المشتركة في المهمة، مختلفة التصنيع والتكنولوجيا.
وإلى جانب مواجهة التهديدات بالقوة الجوية، تحتاج السعودية وباكستان لتدريبات مكثفة مشتركة، بصورة دورية لقوات الدفاع الجوي، خاصة لتحديد تكتيكات جاهزة للتصدي، وتعريفات واضحة وتفصيلية بالمهام الدفاعية، لتنجح معاً في تشكيل قوة ردع ضد الأهداف الجوية، بما قد يشمل المقاتلات والمسيرات والصواريخ والذخائر الجوالة وغيرها من أشكال التهديدات الجوية.
فضلاً عن ذلك، وهذه مهمة القيادات الاستراتيجية بالأساس، تحتاج الدولتان لتحديد مجموعة من “الردود المتناسبة”، في حدود مهام القوات وإمكانيتها للرد على أي أعمال عدائية مستقبلاً. فمن الأصوب أن تكون لدى القوات مهام تصدي واضحة، وسيناريوهات تفصيلية لأي مواجهات محتملة.
كم ستوفر القدرات الجوية وقدرات الدفاع الجوي، بيئة عمل شديدة التعقيد لأي محاولة لاستهداف المملكة جواً، ويبقى أن تحدد السعودية وباكستان إمكانية استقدام قدرات صاروخية بمديات طويلة أو متوسطة، لموازنة التهديدات أو لتوفير أدوات للقتل الخشن إذا تطلب الأمر.
هذه العمليات قد تستغرق بضع سنوات من التدريب المشترك ووضع الخطط وتنفيذ المناورات وتأمين أماكن القوات المشتركة- حال تقرر تمركزها- وتحديد صلاحيات القيادة والسيطرة، وتنفيذ المهام. وهي كلها إجراءات واجبة لضمان تغيير ملموس في معادلة الدفاع بين الدولتين الموقعتين على المعاهدة.
هل يتوسع التحالف السعودي- الباكستاني خليجياً؟
اكتسبت باكستان زخماً وثقة متزايدتين، بعد مواجهتها الأخيرة مع الهند، خاصة مع بروز قدراتها العسكرية لتطويع أحدث أساليب القتال الحديثة، واستخدام أسلحة صينية الصنع لمواجهة أسلحة هندية وروسية وفرنسية. وبعد توقيع الاتفاقية ظهرت أسئلة على الساحة حول الخطوة التالية لاتفاقية الدفاع المشترك.
سعودياً، كان التساؤل عن إمكانية نشر طائرات باكستانية- صينية الصنع، لتعمل على أراضي المملكة، سواء عبر تدريبات مشتركة، أو القيام بأعمال قتالية إذا استدعى الأمر تواجداً عسكرياً باكستانياً على أراضي المملكة. غير أن خطوة مثل هذه قد تواجه رفضاً واضحاً من واشنطن، إذ تتخوف الولايات المتحدة من أن وجود أسلحة صينية على أراضي الخليج، قد يعرض التقنيات الأميركية المنتشرة هناك لمستويات واسعة من الأخطار، منها احتمالية جمع بيانات تقنية سرية عبر الأسلحة الصينية، عن الأنظمة الأميركية المنتشرة في الخليج، خاصة أنظمة الدفاع الجوي، إذ تنشر واشنطن مجموعة من أبرز منجزاتها التقنية في هذا المجال في القواعد الأمريكية بالخليج.
الزخم الذي فجره الاتفاق السعودي- الباكستاني، جعل الساحة الخليجية عرضة لتكهنات متنوعة، منها احتمالات أن تقدم دولة قطر على توقيع اتفاقية دفاع مشترك مع باكستان هي الأخرى. لكن الشاهد أن نموذج العلاقات المتجذرة بين السعودية وباكستان، تضرب جذوره عميقاً عبر عقودٍ بين البلدين، وليس في المجال العسكري فقط، بل في مجالات اقتصادية وسياسية وأمنية عديدة، وهو ما تفتقر إليه قطر.
أما الإمارات، فلديها أولويات مختلفة بالكامل، فهي تركز على تعزيز التجارة والاستثمار، وهو مسار يؤثر فيه بشده أو قد يجهضه، بناء شراكات أمنية على هذا المستوى، وهي اتفاقيات دفاعية قد تدفع الإمارات لتوترات، وربما صراعات ومواجهات مع الهند وإيران، باعتبارهما دولتين على خلاف عميق مع باكستان.
يأتي ذلك بينما نجحت الإمارات في خلق شراكة استراتيجية مع الهند، وتفاهمات مهمة مع إيران، لذلك فمن غير المتوقع أن تضحي أبو ظبي بهذه المحاور الأكثر اتساقاً مع رؤيتها الاقتصادية وطموحها.
ورغم أن قطر تعاني من الضربة الإسرائيلية التي أربكت الحسابات، لكن الدوحة التي تعتمد بشكل شبه كامل على الولايات المتحدة كضامن أمني، تعتقد أن واشنطن سوف تضع حداً للتصرفات الإسرائيلية.
المظلة الأميركية.. هل تراجعت ثقة الخليج في موقف واشنطن؟
حين دوت الانفجارات في قلب العاصمة القطرية الدوحة، جراء الضربة الإسرائيلية على قيادات حماس، تردد هذا الدوي في الخليج كله، وبدا أن شرخاً واضحاً في الثقة بين دول مجلس التعاون وواشنطن قد ظهر وقد يزداد، رغم أن كل دولة في المجلس تبدي مستوى مختلفاً من القلق حيال جدية واشنطن في الدفاع عنها.
ومن المرجح أن تبدأ دول خليجية في الاستثمار المكثفة لتنويع قدرات الدفاع، خاصة مع الفوائض المالية التي قد تمكنها من توسيع شراكتها العسكرية، سواء على مستوى الجيوش، أو على مستوى الصناعات العسكرية. ويمكن تصور المبادئ التي قد تتحرك على أساسها بعض دول الخليج بحثاً عن قوة أخرى إلى جانب القوات الأميركية.
وتحتاج دول الخليج لأربع محددات خلال بحثها عن خيارات موازية للوجود الأميركي، أولها أن تلك الدولة المختارة للشراكة تمتلك بالفعل قدرات عسكرية كافية، ويمكن نقل بعضها إلى الخليج، خاصة قوات الدفاع الجوي والقوة الصاروخية والقوات الجوية.
أيضاً، تحتاج دول الخليج إلى دولة تمتلك صناعات دفاعية متطورة، يمكنها تلبية بعض احتياجات قطاع الدفاع الخليجي. فضلاً عن ذلك، لا بد أن تكون لدى تلك الدولة قرار سياسي مستقل، وفي الوقت نفسه متوافق مع واشنطن، كي لا تصطدم محاولات البحث عن شريك أمني مواز للولايات المتحدة، بالرفض الأميركي.
وأخيراً، أن يكون لدى هذه الدولة، مساحة لمشاركة ونقل تكنولوجيا التصنيع العسكري إلى الخليج.
“منظومة الردع الخليجي”.. هل تكفي وحدها؟
وعلى الرغم من أن دول مجلس التعاون الخليجي تمتلك مجموعة من أحدث الأصول العسكرية في المنطقة، إلا أنه من غير المرجح أن تكفي هذه القدرات على أرض الواقع في معالجة الفجوة الأمنية التي كشفتها الضربة الإسرائيلية على الدوحة. رغم أن فكرة “مظلة الردع الخليجي المشتركة”، قد تكون فعالة، لكن لمعالجة الشواغل السياسية والمعنوية خاصة لرجل الشارع في الخليج.
وبدأت دول مجلس التعاون مبكراً فكرة العمل الدفاعي المشترك، ورغم الإعلان عن الهياكل الأساسية للقوات المشتركة من درع الجزيرة إلى مركز العمليات البحري الموحد، وأكاديمية الدراسات الاستراتيجية والأمنية، وقرار ربط مراكز عمليات القوات الجوية والدفاع الجوي للدول الخليجية. رغم هذه الإجراءات، إلّا أن الواقع العملي أكد أن الفجوة الأمنية لا تزال قائمة.
وتنص اتفاقية الدفاع المشترك لدول مجلس التعاون على أن “أي اعتداء على أي منها هو اعتداء عليها كلها، وأي خطر يتهدد إحداها إنما يتهددها جميعاً”. ورغم وجود الاتفاقية التي تضم بنوداً واضحة حول “تأمين التعاون العسكري” واستخدام دول المجلس “القوة العسكرية لدر الاعتداء وإعادة الشرعية والأمن والسلام”.
وعلى الرغم من تلك البنود، إلّا أن الاجتماع الطارئ عقب الهجوم الإسرائيلي على الدوحة لم يقرر تفعيل أي من هذه البنود على أرض الواقع، بل كان الهدف إظهار قدرة دبلوماسية وسياسية على حشد المجتمع العربي والإسلامي خلف دولة قطر المعتدى عليها.
خيارات الدفاع الخليجي المشترك.. خطوات جماعية واجبة
وتمتلك دول الخليج باستمرار مجموعة واسعة من الأصول العسكرية من بين الأحدث في المنطقة، لكن هذا لم يحقق الردع الكافي، بحيث يجعل استهداف عاصمة دولة خليجية، مسألة يمكن تنفيذها، بل والاعتراف بها والتهديد بتكرارها من جانب تل أبيب. ولا تنقص الدول الخليجية الأطر القانونية والتفاهمات السياسية ولا اتفاقيات الدفاع المشترك، كما لا تفصل بينهما أي موانع طبيعية.
ويمكن القول إن دول مجلس التعاون الخليجي تواجه باستمرار تهديدات أمنية مشتركة، مهما تقاطعت مصالح الدول في بعض الأوقات، إلا أن التهديدات الجدية الحالية قد تدفع الخليج إلى ما هو أبعد من الدعم السياسي المباشر لدولة قطر.
تحتاج دول الخليج إلى تنفيذ عدة إجراءات بالتوازي لتوفير مظلة أمان خليجية مشتركة. ومن المرجح أن تكون البداية من أنظمة الرادار والكشف المبكر عن العدائيات. خاصة أن العبء الراداري الذي كان منصباً بشكل رئيس على متابعة التحركات الإيرانية، قد توسع وأصبح من الواجب متابعة عمليات التسلل الإسرائيلية من أجواء سوريا والعراق لتنفيذ ضربات محتملة على الأراضي الخليجية.
ويمكن لدول الخليج أن تعتبر بناء الربط المشترك لأنظمة الإنذار المبكر، اللبنة الأولى لتوفير القدرة العسكرية جواً، خاصة مع عدم وجود مجال بحري أو حدود برية مشتركة مع التهديد الإسرائيلي الجديد.
وتعد الخطوات العسكرية لتعزيز الدفاع المشترك الخليجي كثيرة، لكن من أهمها تنفيذ عمليات استطلاع مشتركة على الاتجاهات التي من المتوقع أن تأتي منها تهديدات جوية أو صاروخية. هذا الجهد المشترك سوف يتأسس على أرضية التفاهمات العسكرية المشتركة بين القوات الجوية لدول الخليج الست، والاستفادة من تشابه الإمكانيات العسكرية لها، لتغطية مساحة شاسعة من الأراضي المفتوحة من الجو والبر معاً.
وقد تدفع الضربة الإسرائيلية، على المدى المتوسط، دول الخليج للتفكير في حل المعضلة الديموغرافية أيضاً. فدول الخليج محاطة بثلاث كتل سكانية كبرى، هي مصر وإيران وتركيا، ومع الأخذ في الاعتبار التراجع الواضح للقوة الإيرانية، وكونها طرفاً غير موثوق به خليجياً باعتباره التهديد التقليدي، تبقى قوتان هما مصر وتركيا كحلفاء محتملين لإكمال شبكة الدفاع.
وفي هذا الإطار تتميز تركيا بصناعات عسكرية ناهضة مع تركيز كبير على نطاق المسيرات والدفاع الجوي والقدرات الصاروخية، لكن ينقصها القرب الجغرافي، وكذلك المصالح التركية التي كثيراً ما تقاطعت مع مصالح بعض، أو كل دول الخليج خلال السنوات الماضية. لكن تظل أنقرة رقماً فاعلاً وحليفاً دفاعياً مطروحاً، خاصة مع علاقتها الجيدة مع واشنطن في ظل حكم ترامب، وكذلك وجودها كثاني أكبر قوة عسكرية في حلف الناتو.
بالمقارنة تبقى مصر كعمق استراتيجي كبير لدول الخليج، فلديها قوات مسلحة مدربة ذات خبرة، بالإضافة إلى وزن ديموغرافي هائل، فضلاً عن كونها دولة حليفة استراتيجية للولايات المتحدة، مما قد يقلل حساسية واشنطن تجاه التحركات الجديدة.
بخلاف تركيا، تمتلك مصر قرباً جغرافياً شديداً مع أكبر الدول الخليجية وأكثرها قدرة مالياً وعسكرياً، وهي السعودية، وهناك بالفعل تدريبات مشتركة أجرتها القوات الجوية والبحرية للبلدين على مدار سنوات طويلة، لذلك لن تبذل جهداً كبيراً في توحيد المفاهيم في حال تم التوجه نحو هذا المسار.
وتبدو الضربة الإسرائيلية، وكأنها صفحة جديدة في مشهد التوازنات الجيوسياسية والعسكرية في المنطقة برمتها، وقد تنجح محاولات دول الخليج في بناء قدرات ذاتية وبالشراكة مع الحلفاء، لتحقيق ردع للتهديدات الإسرائيلية التي لم يتم كبحها حتى الآن.
*زميل الأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والاستراتيجية، ورئيس معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع، والأستاذ الزائر بالأكاديمية العسكرية الملكية ببروكسل.