بعد شهر من الهجوم الإسرائيلي على قطر، تُواصل دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، العمل على تعزيز قدراتها الدفاعية من خلال اتفاقية الدفاع المشترك، التي وجّه قادة الدول الست بتفعيلها خلال قمة استثنائية، منتصف سبتمبر الماضي، إثر الهجوم.
وجاءت قرارات الاجتماع الاستثنائي لمجلس الدفاع الخليجي المشترك (وزراء الدفاع)، والذي عُقد بعد قمة في الدوحة تهدف في مجملها إلى دمج القدرات والمقدرات في توحيد للجغرافيا العسكرية للدول الست، بما يؤدي إلى رسم خارطة دفاعية حدودها من الخليج شرقاً إلى البحر الأحمر غرباً، ومن بحر عُمان وبحر العرب جنوباً إلى حدود الجوار الشمالية كحدود موحدة للنشاط العسكري الدفاعي الموحد، بما يبدأ من الرصد والإنذار وحتى التصدي والدفاع بقيادة موحدة.
ويرى خبراء عسكريون وسياسيون تحدثوا لـ”الشرق”، أن العمل الدفاعي الموحد لا ينفصل عن أهمية الاتفاقيات الثنائية للدول الخليجية مع قوى خارجية رغم أنها لا ترقى إلى الدفاع المشترك مع الأطراف الغربية.
واعتبر الخبير العسكري السعودي فيصل الحمد، أن الاتفاقيات الثنائية لدول الخليج مع قوى خارجية يمكن أن تنقل القدرات الدفاعية إلى “قدرة ردع” مثل الاتفاقية السعودية الباكستانية التي وقعت الشهر الماضي، ورآها المستشار السياسي البحريني أحمد الخزاعي بأنها “اتفاقية توازن استراتيجي”، بينما وصفها الخبير العسكري الدكتور عبد المحسن الشمري بـ”المظلة النووية”.
القدرات الذاتية
في ظل التطورات الأمنية المتسارعة بالمنطقة، تطرح تساؤلات حول حجم القدرات الدفاعية لدول الخليج ونوعية هذه القدرات، وفرص تنويع عقيدتها العسكرية بالاستعانة بمصادر جديدة، ومدى انسجام ذلك مع الاتفاقيات والتحالفات القائمة وتوجهاتها المستقبلية، في ظل طبيعة منظومة التسليح في الخليج التي يغلب عليها الطابع الغربي، مع بعض الاستثناءات الشرقية التي لجأت إليها دول عدّة.
وتعتمد “قوة الردع” في المنظومة الخليجية بشكل رئيسي على مظلة التصنيع الغريبة خصوصاً الولايات المتحدة، وفقاً للخبير العسكري السعودي فيصل الحمد، الذي أشار إلى أن دول الخليج تمتلك منظومات دفاع جوي متقدمة مثل باتريوت (PAC-3) وثاد (THAAD)، التي تتسم بقدراتها على اعتراض الأهداف الجوية داخل وخارج الغلاف الجوي، إلى جانب إسطول جوي متطور يضم مقاتلات أميركية متعددة المهام مثل (F-16، وF-15، وF-18)”.
وأشار الحمد إلى الحضور الأوروبي في القوة الجوية الخليجية من خلال طائرات “Eurofighter Typhoon”، و”رافال” (Rafale) الفرنسية المقاتلة.
بدوره، قال الدكتور عبد المحسن الشمري، وهو ملحق عسكري كويتي سابق، إن الإمكانيات والتقنيات الرقابية للمنظومة الخليجية تعتمد على منظومات غربية هي الأخرى متمثلة في الرادارات طويلة المدى للإنذار المبكر، ومن أبرزها المحمولة جواً بنظام “أواكس” (AWACS) مثل طائرات “Boeing E-3 Sentry” الأميركية (المستخدمة من قبل السعودية والإمارات)، وطائرات “GlobalEye” السويدية (في الإمارات).
كما تضم منظومة الإنذار المبكر الخليجي، وفقاً للشمري، رادارات أرضية ثابتة ومتحركة طويلة المدى مثل أنظمة “AN/FPS-132” التي يُمكنها رصد الصواريخ الباليستية من مسافات تتجاوز 4800 كيلو متر.
اختراقات شرقية وشراكة تكميلية
ولأن الاتفاقيات الثنائية لدول الخليج مع الدول الغربية تتقدمها الولايات المتحدة كانت وراء سيادة السلاح الغربي في المنظومة العسكرية الخليجية، لفت الخزاعي إلى بروز الموقف الروسي من الهجوم الإسرائيلي على قطر خصوصاً خلال الاجتماع الاستراتيجي لدول الخليج مع الجانب الروسي الذي صادف أن يكون موعده المقرر مسبقاً بعد أيام من استهداف الدوحة.
وقال الخزاعي إن “روسيا أبدت استعداداً متزايداً للتعاون الأمني مع دول الخليج، وأدان الطرفان الهجوم بأشد العبارات، واعتبروه انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، واعتداءً سافراً على سيادة دولة قطر، مؤكدين أن مثل هذه الأفعال تتطلب موقفاً دولياً حازماً وإجراءات فعالة لردع إسرائيل”.
وفي مقابل الموقف الأميركي من الاعتداء، رأى الخزاعي أن “الموقف الروسي، الذي اتسم بالوضوح والحدة، يفتح الباب أمام احتمالية تطوير التعاون الأمني بين موسكو ودول الخليج، خصوصاً في ظل شعور متزايد بالحاجة إلى تنويع الشراكات الاستراتيجية وعدم الاعتماد الحصري على الولايات المتحدة”.
وأوضح أن “روسيا، التي تمتلك قدرات عسكرية متقدمة ونفوذاً سياسياً في ملفات إقليمية حساسة، قد تُشكل شريكاً تكميلياً في بناء منظومة ردع متعددة الأبعاد، خاصة إذا ما تم توظيف هذا التعاون في مجالات مثل الدفاع الجوي، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، والتنسيق السياسي في المحافل الدولية”.
وفي هذا الإطار، لفت الحمد إلى سوابق اختراقات تسليح شرقي في المنظومة الخليجية، بدأت مبكراً حينما أبرمت الكويت صفقة مع الاتحاد السوفييتي في أواخر سبعينيات القرن الماضي، حصلت خلالها على منظومة الصواريخ المدفعية “2K92 Luna-M FROG-7” بمدى 70 كيلو متر، والمعروفة باسم الراجمات، وهو ما شكّل في تلك الفترة خطوة غير تقليدية لتنويع مصادر السلاح وتعزيز الردع ضد التهديدات الإقليمية.
وأشار الحمد إلى أن “السعودية نجحت في ثمانينيات القرن الماضي في الحصول على صواريخ باليستية غير نووية من الصين، لتشكل عنصر ردع استراتيجي مستقل في خطوة أكدت توجهها إلى تنويع مصادر التسليح”، لافتاً إلى أن دولة الإمارات تُشغّل حالياً منظومة الدفاع الجوي الروسية “Pantsir” قصيرة المدى، كما تمتلك السعودية والإمارات مسيرات مسلحة من الصين”.
التوسع في التسليح
فيما لفت الشمري إلى أن السعودية بدأت التعاقد مع موسكو عام 2017 على شراء منظومة “S-400” الدفاعية ثم استبدلتها بمنظومة “THAAD” التي كانت الولايات المتحدة ترفض بيعها للمملكة قبل أن توافق بعد بدء مفاوضات بين الرياض مع موسكو بشأن “S-400″، حيث تسلّمت الرياض أول دفعة من منظومة “THAAD” مؤخراً.
وأشار الشمري إلى أن تنوع التسليح في المنظومة العسكرية الخليجية رغم نسبته القليلة، إلا أنه يؤسس لفتح الباب أمام التوسع مع تطوير وتنويع الاتفاقيات مع الجميع.
وفي هذا السياق، عاد الخزاعي إلى ما بدأه عن الموقف الروسي واحتمالية تطور الاتفاق الأمني بين موسكو ودول الخليج، قائلاً إن “هذا الاحتمال يظل مشروطاً بقدرة دول الخليج على الموازنة بين علاقاتها التقليدية مع واشنطن، والانفتاح على شركاء جدد دون الدخول في محاور متضادة”.
وأضاف الخزاعي متسائلاً: “هل يمكن أن يتحول الموقف الروسي من مجرد إدانة دبلوماسية إلى شراكة أمنية فعلية؟ وهل تعمل دول الخليج فعلاً على إعادة تشكيل خريطة تحالفاتها بما يخدم أمنها الجماعي؟”.
ورأى أن هذه الأسئلة باتت أكثر إلحاحاً اليوم في ظل التصعيد الإسرائيلي الأخير، معتبراً أنها “تستدعي نقاشاً استراتيجياً يتجاوز ردود الفعل إلى إعادة صياغة مفهوم الردع الخليجي في بيئة دولية متغيرة”.
ردع وتوازن استراتيجي
بينما شدّد الخزاعي على ضرورة استثمار الظرف الراهن خليجياً لتطوير الاتفاقيات مع الولايات المتحدة، مع إبقاء الباب مفتوحاً أمام تعزيز العلاقات مع روسيا، اعتبر الحمد أن الاتفاقية الدفاعية المشتركة بين السعودية وباكستان تمثل عاملاً جديداً “يعزز من قوة الردع الجماعي”.
وتابع الحمد: “نصت الاتفاقية على أن أي اعتداء على أحد البلدين يُعد اعتداءً على الآخر”، لافتاً إلى أن ذلك “يتيح بناء شبكة ردع أوسع تمتد من الخليج إلى جنوب آسيا، بما يخلق توازنات استراتيجية جديدة تسهم في تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي”.
من جانبه، أوضح الخزاعي أن الاتفاقية السعودية الباكستانية تعود جذورها إلى تفاهمات أمنية متبادلة منذ عقود لم تُفعل من قبل بشكل مؤسسي، على غرار الاتفاقيات الخليجية– الأميركية، لكنها تظل ورقة استراتيجية يمكن البناء عليها.
وعن أثر هذه الاتفاقية في حفظ أمن الخليج، أشار الخزاعي إلى أن ذلك يتوقف على مدى استعداد الطرفين لتحويلها إلى شراكة عملياتية، موضحاً أن باكستان رغم قربها الجغرافي والثقافي، لم تُدمج فعلياً في منظومة الردع الخليجي، وغالباً ما يُستدعى دورها في سياقات محدودة، مثل التدريب العسكري أو الدعم اللوجستي.
قوات مشتركة للتدخل السريع
ويستدرك الخزاعي: “مع ذلك، فإن امتلاك باكستان للسلاح النووي يمنحها وزناً ردعياً يمكن أن يُوظف سياسياً في حال تصاعد التهديدات الإقليمية، خصوصاً من أطراف غير تقليدية”.
وتابع: “لكن السؤال الأهم هنا: هل ترى دول الخليج في باكستان شريكاً استراتيجياً يمكن أن يُسهم في بناء مظلة أمنية متعددة الأبعاد، أم أن العلاقة ستظل محصورة في التعاون الثنائي غير المنظم؟”.
وأردف الخزاعي” “إذا كانت المصلحة الخليجية المشتركة تتطلب تنويع مصادر الردع، فهل يمكن تطوير هذه الاتفاقية لتشمل التنسيق الاستخباراتي، والدفاع الصاروخي، أو حتى إنشاء قوات مشتركة للتدخل السريع؟”.
وفي ظل التحديات المتصاعدة، من إيران إلى الجماعات المسلحة العابرة للحدود، فإن الاتفاقية السعودية الباكستانية قد تُشكل خطوة نحو بناء توازن استراتيجي أكثر استقلالاً، لا يعتمد فقط على الغرب، بل يُعيد تعريف الأمن الخليجي كمنظومة إقليمية ذات امتدادات آسيوية.
توسيع نطاق الرقابة الرادارية
الردع الذي يتجاوز حدود الخليج عبر الاتفاقيات والشراكات الأمنية، كما وصفه الخبير السعودي فيصل الحمد، يجد امتداده في الطرح الذي قدمه الخبير العسكري الكويتي عبد المحسن الشمري، الذي وضع هذا المفهوم في سياق جغرافي عسكري واسع يمتد على محيط المنطقة.
الشمري، المتخصص في المنظومة الرادارية وأنظمة الإنذار المبكر، أوضح أن “بناء قدرة فعّالة على الإنذار المبكر يستدعي دخول دول الخليج في اتفاقيات مع دول الجوار لمد نطاق الرقابة الرادارية عبر أراضيها، ومن أبرزها سوريا والعراق والأردن، وصولاً إلى نطاق إفريقي على الضفة الأخرى من البحر الأحمر، ما يعني صياغة منظومة متنوعة من الاتفاقيات المتكاملة لتشكيل مظلة دفاعية محكمة”.
كما شدد الشمري على أهمية المضي قدماً في مشاريع التصنيع العسكري المحلي وتوطين الصناعات الدفاعية، مشيراً إلى ما تقوده السعودية من اتفاقيات استراتيجية مع كبرى شركات التصنيع، وما تقوم به الإمارات في مسار مماثل.
وفي السياق ذاته، أكد الحمد أن “دول مجلس التعاون باتت تمتلك قاعدة متينة للردع العسكري، لكنها تسعى باستمرار إلى تعزيز قدراتها الدفاعية من خلال تنويع الشراكات وتوطين الصناعات الدفاعية وتعزيز التكامل الخليجي المشترك، بما يمنحها موقعاً أكثر ثباتاً في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية”.
غير أن الحمد يرى أن مشاريع الصناعات العسكرية الخليجية لن تحقق كامل أهدافها إلا بزيادة التنسيق في مجال التسليح المشترك، لافتاً إلى أن منظومة “درع الجزيرة”، التي تأسست قبل نحو 4 عقود، ما زالت تعتمد على القوات التي تخصصها كل دولة وفق احتياجات القيادة الموحدة.
وأضاف أن تباين العقائد العسكرية والتوجهات الاستراتيجية بين دول الخليج قد يحدّ من فعالية منظومة الدفاع الجماعي، إلا أن برامج التمارين المشتركة تحت مظلة “درع الجزيرة” أسهمت في رفع مستوى التنسيق الميداني بين القوات الخليجية.
وأكد البيان الصادر عن الاجتماع الاستثنائي لمجلس الدفاع المشترك في الدوحة مؤخراً هذه الرؤية، مشدداً على ضرورة المضي في العمل المشترك وتعزيز التنسيق العسكري المستمر.
الأمن الخليجي الجماعي
ولا يختلف الخزاعي مع الحمد حول سعي الدول الخليجية الدائم إلى تعزيز قدراتها الدفاعية، لكن الأول مجدداً على أهمية الاستفادة خليجياً من كل تلك الظروف والمعطيات في إعادة تطوير الاتفاقيات مع الولايات المتحدة للوصول بها إلى نموذج يحقق مظلة أمنية صلبة، والاستفادة عسكرياً من الاتفاقيات بوضعها الحالي.
وأشار الخزاعي إلى إمكانية الاستفادة من الاتفاقيات القائمة حالياً، مشيراً: “في هذا السياق، يبرز التفاعل مع الحلفاء الدوليين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، كعامل يمكن أن يتحول من مجرد تواجد عسكري إلى شراكة استراتيجية في بناء منظومة ردع خليجية، لكن هذا التحول يتطلب أن تُربط المصالح الخليجية بالمصالح الأميركية عبر الحوار الأمني والدبلوماسي، بحيث لا تُفهم حماية المصالح الأميركية على أنها منفصلة عن أمن الخليج، بل جزء منه”.
وتابع: “نحن أمام لحظة نضج سياسي تسمح بإعادة صياغة مفهوم المصلحة الخليجية المشتركة، بما يتجاوز الحسابات القُطرية الضيقة نحو رؤية أمنية جماعية”.
وختم الخزاعي بالقول: “يجب ألا تُقرأ التهديدات من زوايا وطنية منفردة تعيق بناء قدرة ردع حقيقية، وهذا هو التحدي الذي تواجهه دول المجلس اليوم. فالاعتداء الإسرائيلي على قطر أعاد طرح مفهوم الأمن الجماعي كضرورة استراتيجية لا يمكن تجاهلها”.