محمد بوعـيدة

في زمن تتدفق فيه المعلومات بلا توقف، وتتنافس فيه آلاف الرسائل الرقمية على أعيننا كل ثانية، برز مفهوم «اقتصاد الانتباه» ليصف واقعاً جديداً، إذ لم يعد الانتباه البشري مجرد حالة ذهنية، بل أصبح المورد الأندر والأكثر قيمة في السوق الرقمي.

كما لم يعد التحدي في إنتاج المحتوى، بل في القدرة على جذب انتباه المستهلك والاحتفاظ به وسط ضجيج لا يهدأ.

هذا التحول العميق يفسر الكثير من استراتيجيات الشركات التكنولوجية وتصميماتها التي تهدف إلى إبقاء المستخدم مشدوداً لأطول وقت ممكن.

فما هو اقتصاد الانتباه؟ببساطة، هو نظام يرى أن انتباه الإنسان سلعة نادرة تتسابق المؤسسات الإعلامية والتجارية والاجتماعية على اقتناصها، إذ لم تعد المنافسة تدور حول المال فقط، بل حول الوقت والتركيز الذهني.فحين تقضي ساعات على تطبيق معين أو تتفاعل مع إعلان ما، فأنت في الواقع تدفع بأثمن ما تملك وهو انتباهك.

كأبسط مثال على ذلك، عندما يتكرر إعلان لعبة على هاتفك، في البداية تجده قصير المدة ويعطيك خيار الرفض بسرعة، ثم تطول مدته وتطول مدة تأخر ظهور خيار الرفض، مع ملاحظة أن الإعلان دائماً يعطيك صورة الخسارة على الرغم من سهولة الفوز، مما يحفزك على الاشتراك لتثبت أنها لعبة سهلة الفوز، فإذا رفضت الاشتراك، يعطيك فرصة اللعب لدور واحد بدون اشتراك، فإذا لعبت ستجد نفسك مستغرقاً فيها على الرغم من ظهور علامة الرفض، وهنا تحديداً أنت وقعت في الفخ حقيقة، حتى وإن لم تشترك في اللعبة.

فالقيمة لا تتوقف عند الوقت، بل تمتد إلى البيانات التي تولدها أثناء استخدامك، والتي تُغذي خوارزميات تلك المنصات لتخصيص المحتوى والإعلانات بشكل أكثر دقة، مما يزيد من قدرتها على جذب المزيد من الانتباه… والمزيد من الأرباح.

ويعود أصل الفكرة إلى الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل «هربرت سيمون»، الذي قال في سبعينيات القرن الماضي: «ندرة المعلومات تؤدي إلى وفرة الانتباه، ووفرة المعلومات تؤدي إلى ندرة الانتباه».

هذه الجملة قالها «سيمون» في السبعينات، فكيف بنا الحال في عالم غارق بالمعلومات؟، حيث أصبح الانتباه هو العملة الحقيقية.وقد مر اقتصاد الانتباه بعدة مراحل في تطوره: قبل الإنترنت: كانت المنافسة محدودة بين الصحف والتلفزيون والراديو.

المرحلة الرقمية الأولى: بدأت الحرب على «عدد النقرات».

المرحلة الحالية: المنصات الرقمية تتنافس على «المشاركة المستمرة»، عبر أدوات مثل التمرير اللانهائي، والإشعارات الفورية، والتفاعل السريع، وكلها مصممة لاستغلال علم النفس البشري.

ما يجعلنا نتساءل عن أهمية اقتصاد الانتباه؟ والتي يمكن أن نوجزها بأنه يشكل قيمة اقتصادية ضخمة، إذ إن الانتباه يحدد قيمة الإعلانات، وبالتالي قيمة الشركات التقنية الكبرى، إنه الوقود الذي يُشغّل مليارات الدولارات في السوق الرقمي.

إلى جانب تأثيره على صناعة المحتوى، فهو دفع المنتجين نحو المحتوى السريع والجذاب، ولو على حساب العمق والجودة، وأصبحت الإثارة والسطحية أدوات لضمان الانتشار.

وعلى الرغم من أهمية اقتصاد الانتباه في هذا الوقت، إلا أنه يواجه عدة تحديات معرفية واجتماعية، أبرزها تشتت التركيز والصعوبة في الحفاظ على الانتباه العميق.

بالإضافة إلى الإدمان الرقمي، ما يعني الحاجة المستمرة لتفقد الهاتف والتفاعل، وهذا يدخلنا في متلازمة الخوف من فقدان الهاتف والتي تُعرف بـ«النوموفوبيا» (Nomophobia)، وهي الخوف والقلق الشديد من الابتعاد عن الهاتف المحمول أو فقدانه أو عدم القدرة على استخدامه، وتؤدي هذه الحالة إلى أعراض مثل الذعر عند نفاد البطارية، والقلق المستمر، والإدمان، والانعزال الاجتماعي.

وهذا يدفع إلى الاستقطاب الفكري، إذ إن الخوارزميات تفضل المحتوى الذي يثير المشاعر القوية، المعتمدة على العاطفة دون العقل، مما قد يعزز الانقسامات والتطرف، ويكون هذا واضحاً في تفاعل الجمهور والتعليقات.

إن فهمنا لاقتصاد الانتباه هو الخطوة الأولى نحو استعادة السيطرة على أغلى ما نملك، وفي عالم تتنافس فيه المنصات على كل دقيقة من يومنا، تصبح إدارة الانتباه مهارة حيوية للفرد الواعي الذي يسعى للحفاظ على تركيزه وعمقه الفكري وسط هذه العاصفة الرقمية.

شاركها.