حسن الستري
دعت الحكومة مجلس النواب لإعادة النظر في مشروع قانون يهدف لمواجهة ظاهرة تأجير العقارات المخصّصة لأغراض سكنية عائلية على غير هذه الفئة، مبيّنةً أن مشروع القانون المقترح لا يحقق ضرورة تشريعية فعلية، ويتعارض مع المبادئ المستقرة في قانون إيجار العقارات القائم، كما يخلو من الضوابط القانونية والدستورية اللازمة لفرض جزاء إداري ويُرتب آثاراً قانونية قد تمسّ بحقوق الأفراد المكفولة بموجب الدستور.
ويتألف مشروع القانون المقترح فضلاً عن ديباجته من مادتين، أضافت أولاهما فقرة جديدة برقم (و) إلى المادة (6) من القانون رقم (27) لسنة 2014 بإصدار قانون إيجار العقارات قانون إيجار العقارات، تنص على أنه: «في حال ثبوت مخالفة استخدام العين المؤجرة لغرض السكن العائلي في أغراض أخرى غير هذا الغرض تفرض غرامة إدارية على المؤجر متى ثبت علمه بالمخالفة، وفي حال انتفاء علمه بها تفرض هذه الغرامة على المستأجر المخالف الذي ثبت ارتكابه لهذه المخالفة.
وتحدد مقدار الغرامة وضوابط تطبيقها وإجراءات تحصيلها بقرار من البلدية أو الأمانة المختصة بعد موافقة الوزير المعني بشؤون البلديات، على ألا يزيد مقدار الغرامة على مجموع أجرة العقد السنوية. ويكون لموظفي البلدية أو الأمانة المختصة الذين يصدر بتحديدهم قرار من الوزير بالاتفاق مع الوزير المعني بشؤون البلديات صفة مأموري الضبط القضائي وذلك للتحقق من تطبيق أحكام هذه الفقرة والقرارات المنفذة لها، وضبط وإثبات كل ما يقع من مخالفات وفقاً لأحكامها».
ويهدف القانون لمواجهة ظاهرة تأجير العقارات المخصّصة لأغراض سكنية عائلية على غير هذه الفئة، رغم إصدار الجهات المختصة القرارات الإدارية بمنع تسجيل هذه العقود وفقاً لأحكام القانون، وذلك من خلال فرض غرامة مالية في حال ثبوت مخالفة استخدام العين المؤجرة لغرض السكن العائلي في أغراض أخرى غير هذا الغرض.
وفيما أعربت عن تقديرها للأهداف التي يرمي إليها مشروع القانون المقترح، غير أنها أبدت في شأنه الملاحظات التالية:الملاحظة الأولى: افتقاد مشروع القانون المقترح للضرورة التشريعية من المبادئ المستقرة في التشريع أن إصدار القوانين يجب أن يستند إلى حاجة حقيقية وضرورة واضحة لا يمكن معالجتها إلا بالقانون، بيد أن المشرع بموجب المادة السادسة من قانون إيجار العقارات قد أنشأ في كل بلدية مكتباً أو أكثر يسمى «مكتب تسجيل عقود إيجار العقارات يختص بتسجيل عقود إيجار العقارات الخاضعة لأحكام هذا القانون، بغرض حماية حقوق الأطراف المتعاقدة المؤجر والمستأجر» وضمان تنفيذ الالتزامات المنصوص عليها في العقد، والحد من الآثار السلبية التي تنشأ عن تغيير الغرض من استخدام العين المؤجرة، خاصة تغيير غرض استخدام العين المؤجرة الغرض السكن العائلي إلى السكن الجماعي.
ونصت الفقرات (ج)، و(د)، و(هـ) من هذه المادة على أنه لا يجوز تسجيل عقود الإيجار التي لا تتضمن الغرض الذي تستخدم فيه العين المؤجرة، كما لا يجوز تسجيل عقود الإيجار التي يكون محلها عقارات سكنية لغير غرض السكن العائلي، إلا بموافقة البلدية أو الأمانة المختصة، ووفقاً للضوابط التي تحدد بقرار منها بعد موافقة الوزير المعني بشؤون البلديات.
وإنفاذاً لذلك صدرت قرارات ضوابط تسجيل عقود إيجار السكن الجماعي الواقع في محافظات المملكة، ومنها على سبيل المثال قرار رقم (1) لسنة 2023 بشأن ضوابط تسجيل عقود إيجار السكن الجماعي الواقع في محافظة العاصمة، والذي أوجب تسجيل عقد إيجار السكن الجماعي، وأناط بأمانة العاصمة (البلدية في القرارات المثيلة) التحقق من عدم مخالفة الضوابط المنصوص عليها في هذا القرار بما يهدد سلامة شاغلي السكن وصحتهم وأرواحهم، ونظمت المادتان (6) و(7) من هذا القرار التدابير التي يجوز اتخاذها عند ثبوت المخالفة، أو إذا ثبت استعمال مبنى كسكن جماعي بعقد إيجار غير مسجل، حيث يجوز شطب تسجيل عقد إيجار السكن الجماعي، أو تصحيح الأوضاع خلال مدة مناسبة تحددها البلدية، كما يجوز أن يُطلب من هيئة الكهرباء والماء قطع خدمات الكهرباء والماء عن المبنى.
وبالتالي فإن القرارات الصادرة بشأن ضوابط تسجيل عقود إيجار السكن الجماعي الواقع في محافظات المملكة جاءت لتحقق الغاية من عملية تسجيل عقود الإيجار خاصة عقود إيجار السكن الجماعي، وحددت ضوابط التسجيل وأناطت بأمانة العاصمة والبلديات الأخرى مهمة التحقق من عدم مخالفة الضوابط، ولها أن تجري تحقيقاً فيما تتلقاه من بلاغات أو شكاوى جدية، للتحقق من ارتكاب أي مخالفة لأحكام هذا القرار، وحددت التدابير التي يجوز اتخاذها عند ثبوت المخالفة أو عند اتخاذ سكن جماعي غير مسجل على النحو الوارد بنصوص هذه القرارات.
وبذلك فقد جاءت المعالجة التشريعية من خلال هذه القرارات بتنظيم إداري مرن دون الحاجة إلى تدخل تشريعي جديد، ومشروع القانون المقترح على هذه النحو يمثل ازدواجية تشريعية غير مبررة، ولا تتوافر فيه شرط الضرورة التشريعية، الذي يُعد أحد الأسس الجوهرية التي يقوم عليها سن القوانين أو تعديلها، لا سيما أنه لا يوجد قصور فعلي أو فراغ تنظيمي يستدعي هذا التدخل، وبانتفاء الضرورة التشريعية يغدو إصدار مشروع القانون المقترح متعارضاً مع المبادئ المستقرة التي تقضي بأن يكون اللجوء إلى التشريع هو الوسيلة الأخيرة بعد استنفاد جميع البدائل التنظيمية والإدارية المتاحة، فإذا تبين أن تلك البدائل تكفي لتحقيق الأهداف المرجوة، فإن الركون إليها يكون أولى وأجدى من اللجوء إلى تعديل تشريعي، لا سيما وأن فرض الغرامة الإدارية كما هو مقترح يستوجب ضبطاً دقيقاً في الأحكام وتحديدًا دقيقا في المخالفات والجزاءات، وهو ما لا يتوافر في مشروع القانون المقترح.
الملاحظة الثانية: تعارض مشروع القانون المقترح مع المبادئ المستقرة في قانون إيجار العقارات يتضمن قانون إيجار العقارات منظومة متكاملة لتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، ومن أهم سماتها، أن القانون يسري على جميع عقود الإيجار المدنية للعقارات المؤجرة للسكن أو لغيره، وقد ألزم القانون في المادتين (4) الفقرة (ج) و(24) منه، بتحديد الغرض الذي تستخدم فيه العين المؤجرة في العقد، وباستعمال العين المؤجرة وفقاً لما تم الاتفاق عليه، أو بحسب الغرض المعدة له، ورتب الجزاء على مخالفة هذا الالتزام بأن جعله من الأسباب التي يجوز فيها للمؤجر أن يطلب إخلاء العين المؤجرة وفقاً للمادة (38) البندان (4) و(9) من هذا القانون، كما أن أي نزاع ينشأ عن تطبيق أحكام هذا القانون ينعقد الاختصاص فيه للمحكمة الكبرى المدنية، وفقاً للمادة (5) منه، أي أن سلطة توقيع الجزاء تعود للقضاء لا للإدارة.
ومشروع القانون المقترح يخرج عن هذا الإطار القانوني المستقر، حيث إن أي نزاع ينشأ عن تطبيق أحكام قانون إيجار العقارات المختص قضاء بنظره المحكمة الكبرى المدنية، فهي صاحبة الاختصاص بالفصل فيه، ومن ضمن المسائل التي تختص بها، النزاع بشأن تحديد الغرض الذي تستخدم فيه العين المؤجرة، ومخالفة استخدام العين المؤجرة لغرض السكن العائلي في أغراض أخرى باعتبار ذلك من النزاعات الناشئة عن تطبيق أحكام هذا القانون وبالتالي فإن فرض غرامة إدارية على المؤجر أو المستأجر حال ثبوت ارتكابهما لهذه المخالفة بما يمثله ذلك من جزاء مالي إضافي يجب أن يُفصل فيه قضائيا، وأن يكون المنوط به فرض هذا الجزاء هو السلطة القضائية وليس عبر سلطة إدارية تنفيذية.
كما أن الجزاء الوارد في مشروع القانون المقترح الغرامة الإدارية قد تصل إلى مجموع أجرة العقد السنوية لا يعد غرامة تنظيمية فحسب، بل هو جزاء مالي جسيم يتخذ طابع العقوبة ويجب أن يخضع لضوابط دقيقة لأن طبيعته تقترب من العقوبة، خصوصا إذا كان جسيم الأثر، وبالتالي، فإن فرض عقوبة ذات طابع جزائي من خلال قرارات إدارية دون الرجوع إلى القضاء، بعد مخالفة لمبدأ عدم جواز توقيع الجزاء إلا بحكم قضائي وفقاً للمادة (20) من دستور مملكة البحرين، كما أن إسناد سلطة فرض هذا الجزاء وتحديد مقداره وضوابط تطبيقه بقرار من البلدية أو الأمانة المختصة، يتعارض مع طبيعة عقد الإيجار المدنية، فضلاً عن عدم إتاحة الطعن القضائي على القرار الصادر بالغرامة الإدارية مما يخل بمبدأ الحق في التقاضي، وذلك كله يجعل هناك تعارضاً بين مشروع القانون المقترح وبين المبادئ المستقرة في قانون إيجار العقارات الحالي ولا ينسجم من الأهداف التي تغياها المشرع من خلال هذا القانون.
الملاحظة الثالثة: افتقاد مشروع القانون المقترح للضوابط الموضوعية لتطبيق الجزاء الإداري إن الجزاءات الإدارية، ومنها الغرامات الإدارية، تخضع لضوابط قانونية ودستورية دقيقة تهدف إلى حماية الحقوق والحريات، وضمان العدالة والشفافية في العمل الإداري. ومن ثم، فإنه حينما يقترح فرض غرامة إدارية يجب أن يتم الالتزام بهذه الضوابط، ومن ذلك، مبدأ شرعية الجرائم والجزاءات الإدارية، ومبدأ التناسب بين الجزاء والمخالفة، وتوافر ضمانات العدالة الإجرائية، ومشروع القانون المقترح خلا من الضوابط الموضوعية لفرض الغرامة الإدارية المقترحة.
فمشروع القانون المقترح يعتريه غموض في بيان المخالفة وغياب التحديد التشريعي الدقيق لها، فمن المقرر وفقاً للمبادئ الدستورية العامة أنه لا جريمة ولا جزاء إلا بنص قانوني محدد وواضح، وفي هذا الشأن نجد أن مشروع القانون المقترح قد جاء بصيغة فضفاضة غير منضبطة عند تعريف المخالفة، فالمخالفة التي يترتب عليها الجزاء الإداري (الغرامة الإدارية) لم تحدد على وجه الدقة والوضوح، إذ اكتفى بالنص على “في حال مخالفة استخدام العين المؤجرة لغرض السكن العائلي غير هذا الغرض…” دون بيان دقيق لماهية هذه الأغراض المحظورة. أو المعايير التي يمكن من خلالها تمييز الاستخدام السكني العائلي عن غيره، وهو ما يفتح الباب أمام تقدير متفاوت غير منضبط من قبل السلطة الإدارية عند التطبيق، ويجعل المخالفة محل الجزاء غير محددة تحديدا دقيقا، وهذا الغموض يتعارض مع مبدأ الشرعية القانونية الذي يوجب أن تحدد المخالفات والجزاءات بصورة يقينية لا تحتمل التأويل أو التوسع، وهو ما يخل بمبدأ المشروعية ويؤدي إلى انعدام الأمان القانوني.
كما أن مشروع القانون المقترح يخالف مبدأ التناسب بين الجزاء والمخالفة، فقد نص على أن الغرامة الإدارية يمكن أن تصل إلى “ألا يزيد مقدار الغرامة على مجموع أجرة العقد السنوية”، وهي عقوبة جسيمة من الناحية المالية. ولم يضع أي معايير موضوعية لبيان متى تفرض الغرامة بكامل هذا الحد الأقصى، أو تخفض، أو تضاعف عند التكرار، مما يجعل الجزاء غير متناسب في كثير من الأحوال مع المخالفة، لا سيما وأن المخالفة قد تكون بسيطة أو مؤقتة أو تم تصحيحها لاحقاً. كما أن ترك تحديد مقدار الغرامة الإدارية وضوابط تطبيقها للسلطة الإدارية دون أن يلزمها القانون بأي معايير موضوعية أو نسبية للتقدير، يمثل تفويضاً تشريعياً غير منضبط، يخل بمبدأ تدرج القواعد القانونية، إذ يجب أن يرسم القانون بنفسه الإطار العام للجزاء، ويبين الحد الأدنى والأقصى ومعايير التدرج بينهما. ومشروع القانون المقترح بهذا الوصف لا تتوافر فيه الضوابط والمعايير اللازمة لتقدير مقدار الغرامة الإدارية.
ومشروع القانون المقترح خلا من ضمانات العدالة الإجرائية، حيث لم يتضمن أي ضمانات تتعلق بإجراءات فرض الغرامة الإدارية، كإجراء تحقيق، أو إخطار المخالف، أو منحه فرصة للرد أو التصحيح قبل توقيع الجزاء، أو تمكينه من التظلم والطعن، وذلك مما يتعارض مع الضمانات الدستورية المقررة في شأن الجزاءات التأديبية والإدارية، وحق كل شخص في الدفاع عن نفسه أمام جهة محايدة. وبعد هذا إخلالا جوهريا بالحق في المحاكمة العادلة وضمانات الدفاع، مما يجعل الجزاء الإداري المفروض معيباً في جوهره وقابلا للإبطال.
ومشروع القانون المقترح يتسم بغموض في تكييف المسؤولية بين المؤجر والمستأجر، حيث ربط فرض الغرامة على المؤجر “متى ثبت علمه بالمخالفة”، وعلى المستأجر “حال انتفاء العلم بالمخالفة لدى المؤجر”، دون بيان معايير الإثبات ولا إجراءات التحقق من العلم أو الجهل، وتوزيع المسؤولية على هذا النحو دون معايير واضحة لإثبات العلم بالمخالفة يخل بمبدأ اليقين القانوني ويخلق تضاربا في المسؤولية. فرغم أن مشروع القانون المقترح ميز من حيث الأصل بين المؤجر والمستأجر بحسب العلم بالمخالفة، إلا أنه لم يضع معياراً موضوعياً لإثبات علم المؤجر كما لم يبين الجهة المختصة بالفصل في هذا النزاع، ولا عبء الإثبات أو وسائله، وهو ما يفتح بابا واسعا للتقدير الشخصي والنزاع القانوني بين الطرفين، وقد يؤدي إلى تحميل أحدهما جزاء لا يستحقه. وعليه، فإن مشروع القانون المقترح يخل بمبدأ المسؤولية الشخصية عن المخالفة، ويُقر مسؤولية غير منضبطة في غياب قواعد الإثبات والتمييز، ما يفقد النص عدالته واستقامته التشريعية.
وقد تناول مشروع القانون المقترح حكماً جديداً يقضي بمنح موظفي البلدية والأمانة المختصة صفة مأموري الضبط القضائي وقد خلا قانون إيجار العقارات من أي نص يقرر الفعل الإجرامي، والمخالفة الواردة هي استخدام العين المؤجرة لغرض السكن العائلي في أغراض أخرى غير هذا الغرض، وتلك مخالفة للالتزام تعاقدي ولا تشكل جريمة جنائية حتى تتحقق الضرورة من النص على صفة الضبطية القضائية لضبطها كجريمة جنائية، ومن جانب آخر يمكن عند الحاجة منح الضبط القضائي بقرارات فردية وفقاً لنص المادة (45) الفقرة الثالثة من قانون الإجراءات الجنائية، دون الحاجة لإضافة نص عام جديد في مشروع القانون المقترح، مما يجنب الازدواجية والتداخل التشريعي.
وعليه، فإن مشروع القانون المقترح بصيغته الحالية لا يستوفي الضوابط الموضوعية للجزاء الإداري. ويشوبه القصور في أركان المشروعية والتناسب، والتحديد، والعدالة الإجرائية.