خالد بن سالم الغساني
في أحد لقاءاته عبر قناة الميادين، طرح الإعلامي كمال خلف، سؤالًا مُباشرًا وبالغ الأهمية على أحد ضيوفه؛ وقد جاء السؤال على النحو التالي: هل يحق لحكومة مُؤقتة، في ظل غياب برلمان منتخب، أن تبرم اتفاقيات قد تكون مصيرية للأمة السورية؟!
هذا السؤال الأهم من بين كل الأسئلة الأخرى، في ظل ما يجري اليوم على الساحة العربية خاصة، وما يصدر من عناوين وأخبار عن إعادة رسم خارطة ما يسمى بالشرق الأوسط، في ظل غياب كامل من قبل الأنظمة العربية الرسمية، عن كل ما يجري من قبل سلطات الكيان المحتل، من القتل والتدمير والتهجير والتجويع للشعب الفلسطيني، السؤال الذي يبدو للوهلة الأولى قانونيًا أو إجرائيًا، هو في جوهره سؤال عن معنى الشرعية، وعن حدود التفويض الشعبي في زمن التمزق والضياع السياسي الذي تعيشه سوريا.
إن هذا السؤال وفي هذه المرحلة الدقيقة من تأريخنا العربي، قد جاء على خلفية ما يقوم به الرئيس السوري المؤقت، من تغييرات سياسية، وإلغاءات تاريخية ارتبطت بالهوية السورية، والمكانة التي تبوأتها سوريا وعرفت بها في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ثم يأتي بناءً على ما يتردد عن قيامه، وباسم ما يسمى بـ”الحكومة المؤقتة”، بإبرام مجموعة من الاتفاقيات مع إسرائيل، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام جدل عميق حول مفهوم الدولة والتمثيل ثم المصلحة الوطنية.
وقبل كل شيء وأي شيء آخر، فإنَّ مثل هذه الخطوة، لا يمكن أن تُفهم بمعزل عن السياق الأوسع الذي أنتج من أقدم عليها؛ فالسؤال الجوهري الذي ينبغي طرحه قبل الحديث عن مضمون الاتفاقيات هو: كيف جاء الشرع إلى السلطة؟ ومن أوصله إلى هناك؟ ثم كيف سقط النظام الوطني السابق وبعد حرب تكالبت عليه خلالها كل قوى الشر والعدوان، وتآمرت للإطاحة به، ثم بعد الانتصارات الباهرة التي أحرزها وبدأ أنه قد استعاد سيطرته على كل مفاصل البلد؛ ببساطة يتفاجأ العالم بسقوط النظام دون أية إشارات أو مقدمات لذلك السقوط المريب؟!
هل كانت العملية بمجملها، جزءًا من المخطط السياسي الذي أُريد لسوريا أن تنزلق إليه بعد سنوات من الحرب والتفكيك؟!
هذا سؤال مشروع ويفرض نفسه بقوة بعد قراءة كل الوقائع التأريخية والميدانية، فليس خافيًا على أحد أن الفوضى السياسية والفراغ المؤسسي، اللذين أعقبا الأزمة السورية، وفّرا بيئة خصبة لظهور قوى ومشاريع مرتبطة بأجندات خارجية، بعضها يسعى لإعادة تشكيل الخريطة السورية بما يتلاءم مع مصالح إقليمية ودولية، لا مع الإرادة الوطنية. وفي ضوء ذلك يصبح توقيع مثل هذه الاتفاقيات مع إسرائيل ليس تجاوزا قانونيا فقط؛ بل خطوة مدروسة في سياق إعادة هندسة سوريا الجديدة، وفق ميزان القوى التي رسمت وخططت وافتعلت الحرب، وما قبل الحرب.
في كل التجارب السياسية، وعلى مدى تاريخ الدول، تُقام الحكومات المؤقتة لسد فراغ حدث في السلطة، لتسيير شؤون البلاد وفي مرحلة انتقالية، بعد ثورات أو نزاعات أو انقلابات أو فراغ دستوري. ووظيفتها بطبيعتها هذه مؤقتة ومحددة، تتلخص في تهيئة الظروف لإعادة إنتاج الشرعية عبر انتخابات حرة أو حوار وطني شامل، لا أن تتصرف في قضايا مصيرية تمسّ هوية الأمة ومستقبلها.
الاتفاقيات الدولية، لا سيما تلك التي تتعلق بالسيادة أو العلاقات مع دول أو كيانات، وخاصة الدول العدوة أو الكيانات المحتلة واللاشرعية، لا تندرج ضمن صلاحيات سلطة انتقالية؛ بل تحتاج إلى تفويض واضح من الشعب، وإلى مصادقة برلمان منتخب أو جهة تمثيلية دستورية، وأي تصرف خارج هذا الإطار يُعد تجاوزًا للشرعية والتفافًا على إرادة الأمة.
الأمر الأكثر خطورة حين يتعلق ذلك بالكيان المحتل، العدو التاريخي الذي ما زال يحتل أرضًا سوريةً، ويمارس سياسات عدوانية بحق الشعبين السوري واللبناني، والشعب الفلسطيني داخل الأراضي العربية المحتلة. إنّ أي اتفاق يُبرم معه خارج الإرادة الشعبية السورية لا يمكن أن يُفهم إلّا باعتباره خطوة تطبيعية من طرفٍ غير ذي صفة، طرفٍ لا يمكن أن يبرأ من أن وصوله إلى السلطة لم يأت إلّا بشروط، وهذه هي أهم تلك الشروط: التطبيع مع العدو ومنح شرعية سياسية لكيانٍ محتل وغير شرعي، وما زال في حالة حرب مع سوريا وشعبها، وهي خطوة إن تمت تُشكِّل انتهاكًا أخلاقيًا ووطنيًا؛ لأنها تتجاوز الإجماع الشعبي الراسخ منذ عقود، حول الموقف من الاحتلال والعدو، وتضرب عرض الحائط بذاكرة وطنية ممتدة، من القنيطرة إلى الجولان مرورًا بالقضية المركزية الأولى؛ قضية فلسطين.
وما يُثار حول الشرع واتفاقياته مع إسرائيل، لا يمكن اعتباره سوى امتداد لمسارٍ مرسومٍ بعناية أوصله إلى موقعه الحالي؛ حيث تلوح ملامح وظيفته الأولى في مشروع سياسي أوسع، عنوانه التطبيع والتسليم لإسرائيل؛ فالرجل جاء وفُرِضَ على رأس حكومة مؤقتة، ودخل كأحد الفاتحين ليس لمجرد إدارة شؤون الناس وحسب؛ بل ليُنجز ما عجزت عنه مراحل سابقة، وهو كسر الموقف السوري الثابت من العدو، وإعادة صياغة الوعي الوطني وفق منطق الهزيمة والقبول بالأمر الواقع. ولعلّ قراراته الأخيرة التي ألغت رموز الذاكرة الوطنية السورية من إحياء حرب أكتوبر 1973 التحريرية إلى يوم الشهيد وسائر المناسبات التي تُجسِّد روح المقاومة والانتماء ليست إلّا جزءًا من هذا المسار الممنهج لإعادة كتابة التاريخ الوطني وتطويعه بما يخدم أجندة التطبيع.
بذلك يتضح أنَّ المسألة تكشف عن مهمة مُحدَّدة أُنيطت بشخصٍ جاء إلى السلطة عبر قنوات لا تمتّ للشرعية الشعبية بصلةٍ، غايتها تهيئة المناخ لسلامٍ مفروض على الأمة السورية من خارج إرادتها.
إنَّ السؤال الذي طرحه الإعلامي كمال خلف عبر برنامجه “دوائر القرار”، لا يقتصر على من يوقع الاتفاقيات؛ بل يتعداه إلى من يمتلك الحق الحقيقي في التمثيل وإصدار القرارات باسم الأمة؛ ففي غياب الشرعية الشعبية والمؤسساتية، لا يمكن لأي جهة وخاصة حكومة مؤقتة أن تتخذ قرارات مصيرية تمس مستقبل سوريا، ولا سيما مع العدو التاريخي الذي يحتل جزءًا من أرضها.
الأُمَّة السورية وحدها هي صاحبة الحق في رسم علاقاتها مع الآخرين، وأي تجاوز لهذا الحق، مهما كانت الأذرع الرسمية أو الظروف، لا يُعد إلّا انتهاكًا صارخًا لإرادة الشعب وهويته الوطنية.