اخبار تركيا
ناقش مقال للكاتب والمحلل السياسي التركينيدرت إيرسانال،أبعاد “اتفاق وقف إطلاق النار” بين إسرائيل وحماس من زاوية جيوسياسية أوسع، مبيّناً أن جوهر الاتفاق لا يكمن في تفاصيله التقنية، بل في التحولات الاستراتيجية التي يرمز إليها.
يوضح الكاتب أن الاتفاق يمثل الحد الأدنى من المكاسب، لكنه يفتح الباب أمام إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة تحت إشراف الولايات المتحدة وبتسهيل من تركيا ومصر وقطر. كما يربط بين الهدنة الحالية ومشروع “ريفييرا” الذي تسعى واشنطن من خلاله إلى دمج القضية الفلسطينية في منظومة اقتصادية إقليمية شبيهة بـ”اتفاقيات إبراهيم”.
في المقابل، يرى الكاتب أن إسرائيل قبلت الاتفاق للحفاظ على موقع نتنياهو السياسي ولتفادي العزلة الدولية المتزايدة، في وقت بدأت فيه مكانتها العالمية تتآكل وتتحول من “حليف غربي استراتيجي” إلى عبء سياسي وأخلاقي على الغرب ذاته. وفيما يلي نص المقال الذي نشرته صحيفة يني شفق:
لا حاجة لتضييع الوقت في الغوص بتفاصيل بنود “اتفاق السلام” بين إسرائيل وحماس وآليات تنفيذها؛ فهناك حقيقتان قائمتان: أولاً، سيُنقذ وقف إطلاق النار أرواح المظلومين، وثانياً، ستصل المساعدات الإنسانية إلى الباقين. وهناك أيضاً عمليتان تجريان: تبادل الأسرى بالإضافة إلى انسحاب الاحتلال الإسرائيلي بشكل تدريجي. هذه هي المرحلة الأولى من الاتفاق.
لقد أدّت تركيا جميع مسؤولياتها الإنسانية، وساهمت بصدق وإخلاص في إنجاز هذا التفاهم، فجاءت سيرتها ناصعة. والسبب يكمن في الأسس الأخلاقية والإنسانية التي تستند إليها البنود المذكورة. وما عدا ذلك فهو ضجيج إعلامي لا طائل منه لملء برامج المساء التلفزيونية. يمكنكم النقاش حول حدود الانسحاب ومكان الإفراج عن الأسرى أو عدد الجنود الذين ينضمون القوة المشتركة، لكن ليست هذه هي القضايا الرئيسية. التحدي الحقيقي يتمثل في الجلوس على طاولة المفاوضات مع كوشنر وبلاير وديرمر، وحتى القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM)، وانتزاع فلسطين من أيديهم، هذا هو الإنجاز الحقيقي.
ما نقوله هو أننا بدأنا للتو، والنص الموقع يمثل الحد الأدنى من المكاسب. فالمنطقة بأكملها تنتظر مفاوضات أطول وأكثر تعقيداً. لا يوجد “حل جذريٌّ”، بل سيتم التوصل إليه بعد وقف إطلاق النار.
ودعوني أبدأ بما سأقوله في الختام: هناك الكثير من التحفظات، والشكوك، والمخاوف المطروحة، ومعظمها مبني على أسباب وجيهة، لكن احتمال نجاح هذه الخطة، أو بالأحرى، احتمالية “تفعيلها”، يبدو لي أكبر. وعلى المدى القصير، ستلتزم بها إسرائيل أيضاً. وإذا سارت الأمور على ما يرام، سيُفتح لتركيا مجال جيوسياسي جديد في المنطقة.
وإلا فالجميع، بما في ذلك أنقرة، يدركون أن هذا التوافق هش للغاية بوضعه الحالي، وأن ثقة أي طرف بالآخر معدومة تقريبًا. وهناك الكثيرون ممن يقولون بأنه حتى لو تم تنفيذ ما وُقِّع عليه، فإن الشروط الحيوية لضمان النتيجة النهائية وتحقيق الهدف الفلسطيني غير متوفرة..
في الواقع إن التصريح الرسمي لوزارة الخارجية التركية يرحب بالاتفاق ولكنه يؤكد أن السلام الحقيقي لن يتحقق إلا عبر حل عادل أساسه إقامة دولتين. وهذا هو معنى تصريح هاكان فيدان مساء الخميس: “إذا كان هذا الاتفاق سيعيدنا في النهاية إلى ظروف ما قبل 7 أكتوبر، فإن الحرب ستندلع مجدداً”، وهو محق تماماً في ذلك.
إذا ثبتت صحة هذا الشعور بانعدام الثقة، أي إن صحّ أن إسرائيل ستعود لاحقاً لخرق السلام، فلماذا تتوقف الآن؟ لماذا تتخلّى ـ على الأقل في الوقت الراهن ـ عن إعادة تشكيل الشرق الأوسط كما رسمته خرائطها التي عرضتها في الجمعية العامة للأمم المتحدة؟
كانت سياسات الشرق الأوسط خلال فترة ترامب الأولى تدار عبر “اتفاقيات إبراهيم”. حينئذ، لم يُعِر أحدٌ القضية الفلسطينية أي اهتمام، واعتُبرت قضية ثانوية وغير مهمة. وافترضوا أن القضية الفلسطينية ستُسحق تحت زخم تطبيع الدول العربية علاقاتها مع إسرائيل، دون أن تتمكن من الرد. لكن 7 أكتوبر جاء ليقول: “هذه المرة لن ينجح الأمر”.
وبما أن إسرائيل هي مصدر كلّ المشاكل في المنطقة، ولديها أجندة إقليمية خاصةً تتجاوز إطار «المخطط الرئيسي الدولي» — فإن انفجار قضية فلسطين مجددا شكّل ضغطًا قادرًا على تهديد المخطط بأكمله وتعريض جميع الخطط والحسابات للخطر.
لذلك، سارعت الولايات المتحدة وترامب إلى التوجه نحو فلسطين، رغبة في إخراج الملف من المشهد، وحل القضية بسرعة للعودة إلى الخطة الرئيسية، وتكييف الواقع الفلسطيني وفقا لها.
وبما أن الصيغة الأمريكية لتفعيل “اتفاقيات إبراهيم” لمنطقة الشرق الأوسط بأكملها تتمحور حول إنشاء نظام اقتصادي ضخم ورسم خارطة جيوسياسية من خلاله، فقد طرحت الولايات المتحدة هذا النموذج مجدداً عند معالجة ملف فلسطين. هذا هو مشروع “ريفييرا”. فسبب الرغبة في تسهيل هذه العملية العالقة يكمن هنا. وعندما يتم تطبيق اتفاقية القاهرة، سنرى أن صيغة الدعم الاقتصادي والاستثمار ستكون فعالة جداً.
ونتيجة لذلك، فإن جميع الدول، سواء رغبت في قيام دولة فلسطينية وإحلال السلام أم لا، ستتصادم مع واشنطن بشكل أقل بقدر التزامها بالمخطط الرئيسي.
لكن هل الخطة الرئيسية هذه سيئة؟ يجب ألا نتسرع في الحكم، لأنها لم تنضج بعد بالقدر الكافي لتقييمها، ولم تتضح أهدافها بعد، ولم يتم قياس ردود فعل المنافسين الجيوسياسيين بشكل كامل، ولا تزال فعاليتها موضع نقاش. ورغم ذلك، هناك بعض الدول القادرة على إنتاج دبلوماسية تحميها من المخاطر الجسيمة، وتركيا واحدة منها.
لنلقِ نظرة على تل أبيب أيضاً: إذا كانت إسرائيل ستلتزم بالسلام حقاً، فما السبب؟ وهل من المحتمل أن يقود نتنياهو البلاد إلى حرب أخرى، خاصة وأنه لا يستطيع البقاء سياسياً في الظروف العادية، وسيخسر سلطته؟
إذا أتى ترامب غداً إلى إسرائيل وألقى خطاباً يشيد فيه بنتنياهو أمام الكنيست، فإن أحد الأسباب لذلك هو تهدئة غضب الرأي العام اليهودي. ولا يُعرف مدى تأثير ذلك وكم سيستمر، ولكنه في النهاية دعم سياسي. وإذا كان ترامب ونتنياهو قد اتفقا على دعم سلطة بعضهما البعض، أي إذا كان اللوبي اليهودي المشؤوم سيقف وراء ترامب في انتخابات التجديد النصفي الأمريكية لعام 2026، وإذا كان البيت الأبيض سيحافظ على تحالفه مع تل أبيب حتى ذلك الحين، فهذا أيضاً حساب يتم أخذه بعين الاعتبار.
إن سبب قبول إسرائيل ونتنياهو لهذه الاتفاقية، وافتراض الالتزام بها، هو الحفاظ على مقاعد نتنياهو وشركائه في الائتلاف. وهناك احتمال آخر يعطي النتيجة ذاتها، وهو انفجار إسرائيل في مكان آخر. ويُشار إلى إيران مجددا كوجهة محتملة. أرى أن هذا احتمال متصاعد، لكني لست واثقا من مدى توافقه مع المخطط الرئيسي (الأمريكي). وإذا لم يكن متوافقاً، فلن تتمكن إسرائيل من شن هجوم حتى لو أرادت ذلك. والدليل هو اعتذارها عن هجوم الدوحة.
وهناك تفسير آخر لاحتمالية توقف حكومة تل أبيب عن الإبادة الجماعية وخططها تجاه الفلسطينيين، وهو أن نتنياهو لم يعد قادراً على تحمل الضغط المتزايد من العالم. وهذا هو مغزى نصيحة ترامب لنتنياهو في مكالمتهما الهاتفية يوم الثلاثاء الماضي: “لا يمكنك أن تحارب العالم كله”. في المقابل ثمة رأي معاكس يقول: “لقد ارتكب نتنياهو إبادة جماعية لمدة عامين متحديا العالم أجمع، فلماذا يتوقف الآن؟” لكن كلا التفسيرين لا يحققان القناعة الكاملة.
إن تراجع الامتياز العالمي لإسرائيل، وليس نتنياهو فحسب، إلى مستوى معين سيشكل مكسباً مهماً. يجب أن يكون هذا إحدى ثمار “الدرس” الذي استمر عامين، والذي أفسح المجال أمام “مناهضة الصهيونية” لكبح جماحها. فمن الواضح أن إسرائيل وامتيازاتها أصبحت عبئاً كبيرا يثقل كاهل الغرب.