يُخيّل للمرء أنه تخلص من ماضيه، وأن ما انقضى من أيام لم يعد له سلطان عليه، وهو غارق في لجّة الحاضر، محاط بالانشغالات اليومية، وبالطموحات المستقبلية.
غير أن الحقيقة أبعد من ذلك. فالماضي يترصّدنا ويزداد نفوذه اتساعاً رغماً عنا. هذا ما يحاول التركيز عليه الفيلسوف الفرنسي شارل بيبان في كتابه ” العيش بسلام مع الماضي”، فكل لحظةٍ نحياها تسارع إلى الالتحاق بالماضي، الذي لا يكفّ عن التضخّم كالشراع تدفعه ريح خفيّة من خلف” بحسب الكاتب.
شارل بيبان، هو أحد أكثر الكتّاب الفرنسيين في مجال العلوم الإنسانية ترجمة في العالم. وهو يستدعي في كتابه الصادر حديثاً، كل ما انتجته الفلسفة والآداب في هذا المجال، وما رسّخته علوم الأعصاب التي فتحت آفاقاً جديدة للفهم، والتي تؤكد وجود الماضي فينا، بشكل مدهش، “كما تفعل وجوه موتانا حين تزورنا في أحلامنا”.
فكيف يشتغل هذا الماضي في رؤوسنا؟ ومن أين يستقي كل هذه السطوة؟ وهل الأمر حتمي إلى هذه الدرجة؟
الذاكرة هي السبب
بداية يركز الكاتب على أن ما يقصده لا يعني العيش في الماضي، بمخلفاته التي لا نستطيع الفكاك من أثرها، بل برفقته وبجواره، حزيناً كان أم سعيداً، بنجاحاته وبإخفافاته. يُغرقنا أحياناً في “حنين شجيّ أو مرارة كئيبة” على حد سواء. ولا يتم ذلك سوى بواسطة الذاكرة، كما يعرف الجميع.
لكن الذي لا يعرفه الكثيرون، هو أن الذاكرة ليست مخزناً للذكريات فقط، و”لا تشبه بأيّ حال بيانات محفوظة على قرصٍ صلب”. إنها شيء حيّ يمكن التحكّم به. “فإذا كان ماضينا صنع منّا ما نحن عليه اليوم، فإننا لسنا محض نتاج له، ولا سبب يدعونا لأن نتركه يتصرّف بنا كما يشاء”.
إنه اكتشاف جديد، بدأت بوادره مع الفيلسوف الفرنسي برجسون، الذي وضع مفهوم الذاكرة في صميم تفكيره الفلسفي. كما برهن من خلال مقولة “أنا أتذكّر إذن أنا موجود” على أنها هي من تُعرّفنا، وتمنحنا الإحساس بالوجود والاستمرار عبر الزمن.
إنها أداة فعّالة توجّهنا نحو المستقبل، ومصفاة تسمح لنا بانتقاء ما نحتاج إليه للفعل والعمل. حتى الأحلام تعبّر عن هذا الغليان الداخلي للذكريات، عندما يتحرّر العقل من الانشغال بالواقع. وأبرز مثال يمنحه لنا مرضى الزهايمر، فالجميع يواجهون صعوبة في تذكّر الماضي، لكنهم في الوقت نفسه عاجزون عن التطلّع إلى المستقبل. وهذا دليل على أن “الذاكرة والقدرة على توقّع المستقبل متلازمتان”.
إعادة تشكيل الماضي
رسّخت العلوم المعرفية والعلاج النفسي، بالتجربة والبرهان، هذا التصوّر الجديد للذاكرة ، فغيّرت جذرياً الطريقة التي ننظر بها إليها. فالذاكرة ليست أرشيفاً خامداً، بل “قارّة حيّة ما زالت تنتظر من يغامر باكتشافها”. كذلك فإن الذاكرة ليست على وتيرة واحدة. هناك ذاكرة التذكّر، وتغتني بتجاربنا الحياتية، مثل أوّل امتحان نجحنا فيهـ، أو وفاة أحد الوالدين. وهناك ذاكرة العادة، التي تنتج عن بذل الجهد والإرادة، كالدروس التي نحفظها حتى تترسّخ فينا.
وبالتالي نحتفظ بالماضي بطرائق مختلفة، الشيء الذي يجعل استرجاعه، “قد ينيرنا أو يضللنا، يدفعنا إلى الأمام أو يقيّدنا، وذلك عبر هذه المستويات المختلفة من الذاكرة”.
في أعماق الوعي، تختبئ كنوز وندوب، أفراح منسية وآلام لم تندمل بعد، يمكن استعادتها أو إعادة تشكيلها بفضل التقدّم الكبير في علوم الدماغ. أظهر العلم أن عملية التذكّر تمرّ عبر شبكات عصبية، لا تسمح باسترجاع آلي للماضي، بل تعيد بناء الذكريات وتجدّدها، فنحن نتأثر بما نعيشه وبحالتنا النفسية الراهنة.
كلّ مرة نستعيد فيها ذكرى، تتغيّر تفاصيلها “بما عشنا بعد ذلك، وبحسب السياق الحالي، وبحسب حالتنا العاطفية”. هنا يتداخل الخيال مع الذاكرة، ما يجعل الفصل بينهما صعباً. وهكذا تصبح الذاكرة عملية ديناميكية تجمع بين الواقع والتخييل.
يقول الكاتب: “نحن مقتنعون أحياناً بأن الأمور حدثت بطريقة معينة، لكنها في الحقيقة ثمرة خيالنا، لا ذاكرتنا وحدها.” وهكذا لم يعد التدخّل في ماضينا ضرباً من الخيال العلمي، من خلال ما سُمي بأسلوب “إعادة تثبيت الذاكرة”.
حلوى مارسيل بروست الشهيرة
تجسد هذه الإعادة بقوة مبهرة رواية “البحث عن الزمن المفقود” لمارسيل بروست، وهي الرواية التي جدّدت روح السرد الروائي العالمي وشكله في العمق. يصف بروست كيف يمكن لإحساس بسيط – كطعم حلوى المادلين المغموسة بالشاي – أن يوقظ في النفس موجة من السعادة الغامرة، ويعيد إلى الوعي ذكريات بعيدة من الطفولة.
فالإدراك الحسّي، وخصوصاً الرائحة والطعم، التي يسميها “أرواحاً متمرّدة”، يمتلك قدرة فريدة على استدعاء الماضي المخفي في أعماق الذاكرة.
غير أن استعادة الذكرى تتطلب جهداً واعياً وتأملاً عميقاً في التجربة الأولى، التي يجب أن تليها تجارب أخرى من النوع نفسه، حتى تنكشف معانيها. هكذا يصبح الإحساس خيطاً يقود إلى إعادة بناء الزمن المفقود، وسط أنقاض الأشياء. ولكل منا حلوى “مادلين” خاصة به، تعيده إلى زمن غابر من حياته.
مثال ثان استقاه الكاتب من الفن السابع هذه المرّة، وتحديداً من فيلم المخرج الذي غادرنا السنة الماضية، ديفيد لينش “Mulholland Drive”، حيث تفقد البطلة ريتا ذاكرتها بعد حادث سير، فتتوه في المدينة، وتختار اسمها الجديد من ملصق فيلم، لأنها لا تتذكر اسمها الحقيقي.
لقد فقدت ذاكرة التذكر، لكنها لم تفقد ذاكرة العادة، مثل القراءة، والرد عن الأسئلة، وكل ما هو عمل إجرائي. هكذا يصوّر ديفيد لينش كيف أن الذاكرة هي ما يشكّل الهوية، وأن نسيان الماضي يعني فقدان الذات.
هذا يدل على أن ما توصّل إليه العلم، جرّبه الأدباء والفلاسفة والسينمائيون والمغنّون من قبل في أعمالهم.. أدركوا الدور الجوهري للذاكرة وللنسيان في تكوين شخصيّتنا. كما لو أنهم امتلكوا خاصية السيطرة على أسرارها وتطويعها بفضل التخييل.
فلماذا لا يقوم بها أي شخص؟ بمعنى أن يداري آثار الماضي ويراوغه، ما دام لا يستطيع التخلص منه. يلاحظ الفيلسوف الفرنسي، أن الغالبية تسعى إلى دفنه بتوظيف آليات ما يسميه “استراتيجية التجنّب”، مثل التناسي العمد، والإفراط في الشرب، والإغراق في العمل.
اعتماد الخطوة الجانبية
يقول الكاتب:”علينا أن نتملك إرثنا من خلال استقبال كل ما شكّلنا، بطريقة تقودنا إلى التعبير عن فرادتنا”. ما يعني أن التحرر من قيود الماضي الموجع، يستوجب تقبّل إرثنا وفهمه. إنه تحرّر قائم على تخييل الإيجابي فيها، ثم اتخاذ “خطوة جانبية” تسمح برؤية جوهره بوضوح. إنها خطوة تمنحنا الحرية كي نشكّل هويتنا الفريدة، دون أن نفقد جذورنا ونمحي ماضينا.