فتح اللقاء الأول من نوعه بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والسوري أحمد الشرع، الأربعاء، في موسكو، الأبواب على مصراعيها، أمام حدوث اختراق في العلاقات الثنائية بين البلدين، بعد التعقيدات التي جابهتها بعد سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد.
ووصف خبراء روس لـ”الشرق” المباحثات التي شهدتها الزيارة بأنها “براجماتية”، مشيرين إلى أنها تناولت مجمل الملفات، بما في ذلك “بلورة إطار قانوني تعاقدي خاص بالقواعد العسكرية الروسية في سوريا”.
وقد أظهرت كلمات الترحيب التي تبادلها الجانبان، خلال جلسة المباحثات، رغبتهما في تجاوز عقبات الماضي والانطلاق نحو علاقات تقوم على أسس جديدة، مع الاستفادة من إرث العلاقات الراسخة بينهما منذ عقود، والتي أشار الرئيس فلاديمير بوتين إلى امتدادها على مدى ثمانين عاماً.
وحرص بوتين على إبراز حقيقة أن روسيا كانت تُراعي، على الدوام، في علاقاتها مع دمشق، مصالح الشعب السوري، ولم تكن تسعى إلى تحقيق مآرب ذاتية آنية.
الشرع، بدوره، أبرز حرص سوريا على الحفاظ على العلاقات مع روسيا، والتي وصفها بـ”التاريخية”، مشيراً إلى دور كبير تلعبه روسيا في تحقيق الأهداف السياسية لسوريا، دون أن يغفل أن سوريا الجديدة تستند في علاقاتها مع روسيا إلى الاستقلالية والحرص على وحدة أراضيها واستقرارها.
وجاءت مشاركة كبار المسؤولين الروس، بما في ذلك وزير الدفاع أندريه بيلوسوف، والخارجية، سيرجي لافروف، ومساعد الرئيس الروسي يوري أوشاكوف، ونائب رئيس الوزراء المسؤول عن ملف الطاقة، ألكسندر نوفاك، في هذه المباحثات، كدليل على استعداد موسكو لفتح كافة ملفات العلاقات الثنائية، بما في ذلك المعقد منها، للنقاش.
ملفات صعبة
لكن هذا لا يلغي حقيقة أن هناك الكثير من الملفات الصعبة التي قد تجعل من مهمة الشرع أمراً غير سهل، لاسيما وضع القواعد العسكرية الروسية في حميميم وطرطوس، ومسألة تسليم الرئيس السوري السابق بشار الأسد، وغيرها من القضايا.
على سبيل المثال، استبق لافروف زيارة الشرع إلى موسكو، بالإعلان أن بلاده منحت الأسد، وأفراد عائلته لجوءاً إنسانياً، ما يجعل من مسألة تسليمه أمراً غير مقبول بالنسبة إلى القيادة الروسية. ومع ذلك، فإن موسكو، التي لا تريد أن تخوض مناقشات بشأن مثل هذه القضايا، قادرة في المرحلة الحالية على تقديم عروض اقتصادية وتجارية واستثمارية جذابة، من شأنها أن تدفع دمشق إلى غض النظر في المرحلة الحالية عن قضايا لا تتمتع بالأولوية في حسابات الدول.
وكشف الناطق باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، النقاب أن الرئيس بوتين بحث مع نظيره السوري مصير القواعد العسكرية الروسية في سوريا، (دون إعطاء مزيد من التفاصيل)، فيما جاء في بيان رسمي أن المباحثات تناولت العلاقات الثنائية، وآفاق تطويرها في المجالات السياسية والتجارية والاقتصادية والإنسانية، إضافة إلى تطورات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط.
قطاع الطاقة
وبعد مباحثات استمرت زهاء ساعتين، أعلن نائب رئيس الوزراء الروسي المسؤول عن ملف الطاقة ألكسندر نوفاك أن الشركات الروسية تبدي اهتماماً بتطوير البنية التحتية للنقل وإعادة إعمار قطاع الطاقة في سوريا، وأعرب عن استعداد موسكو للمشاركة في تطوير حقول النفط هناك، وأكد أن روسيا وسوريا ستعقدان قريباً اجتماعاً للجنة الحكومية المشتركة للتعاون الاقتصادي والتجاري والعلمي والتكنولوجي.
وأجمع خبراء ومحللين سياسيين روس تحدثوا إلى “الشرق” على وجود إمكانية كبيرة لدى البلدين لتجاوز المسائل الحساسة في العلاقات الثنائية، والانطلاق نحو بناء علاقات جديدة قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة والرغبة في تطوير الروابط في مختلف المجالات.
التعاون العسكري
وفي هذا الخصوص، أكد رئيس تحرير مجلة “الدفاع الوطني” الروسية، إيجور كوروتشينكو، في حديث لـ”الشرق”، على وجود آفاق لتطوير التعاون بين روسيا وسوريا، في مختلف المجالات بما في ذلك المجال العسكري والتقني.
ولفت كوروتشينكو إلى أن القيادة السورية الجديدة تتمسك بنهج براجماتي من أجل تحقيق المصالح الوطنية، قائلاً إن مصلحة سوريا تقتضي تطوير العلاقات مع روسيا، لأن من شأن ذلك أن يساهم في تعزيز وضع سوريا في منظومة العلاقات الدولية وخلق توازن مع القوى الإقليمية التي لها مصالح في المنطقة.
واعتبر أن من شأن الفهم البراجماتي أن يؤدي إلى تأكيد وضع القواعد العسكرية في حميميم وطرطوس وبلورة الوثائق الخاصة بذلك مع القيادة السورية الجديدة.
وأوضح أن آفاق استئناف التعاون العسكري بين روسيا وسوريا تعتبر بين مواضيع البحث التي تجري بين الجانبين، ورأى أن إبداء المرونة في معالجة هذه القضايا، سوف تؤدي إلى التوصل إلى حلول تصب في مصلحة البلدين.
وقال إن مسالة التعاون العسكري بين البلدين تمس كذلك الأمن الإقليمي، مشيراً إلى ضرورة النظر إلى العلاقات الروسية – السورية من منظور واسع، لأن “روسيا مهتمة بتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط ككل، وعدم ظهور بؤر للتوتر والنزاعات، وبما يحقق مصالح كافة دول المنطقة”.
وأكد وجود أفق لإقامة علاقات متطورة مع سوريا، أسوة بالعلاقات القائمة بين روسيا والسعودية والإمارات وقطر.
مصير بشار الأسد
وبشأن مصير الأسد، استبعد كبير خبراء مركز دراسات الشرق الأوسط في معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية الروسي نيقولاي سوخوف، بشكل قاطع أي حديث بشأن إمكانية قيام موسكو بتسليم الرئيس السابق (بشار) الأسد، مبرزاً أن روسيا منحته حق اللجوء الانساني، قائلاً إن التراجع عن هذا الموقف يعني إلحاق ضرر كبير بسمعة روسيا.
في هذا السياق، شدد كورتشينكو على ضرورة إخراج المسألة المتعلقة بمصير الأسد من إطار العلاقات بين البلدين، انطلاقاً من المفهوم البراجماتي، وليس انطلاقاً من العواطف، مؤكداً على ضرورة أن لا تؤثر هذه المسألة على آفاق تطوير العلاقات بين روسيا وسوريا الجديدة.
واعتبر أن “صفحة الأسد انطوت في تاريخ سوريا، وليس هناك من ضرورة للعودة إليها”، وأن المهم حالياً هو تطوير العلاقات وعقد الاتفاقيات المشتركة.
ومن جهته، قال الخبير في المجلس الروسي للعلاقات الدولية كيريل سيميونوف، لـ”الشرق” إن الجانبين الروسي والسوري، تمكنا من خلق معادلة جديدة للعلاقات الثنائية تلبي مصالح الجانبين وتقضي بتجاوز مخلفات الماضي والقضايا الخلافية.
هل تتغير وظيفة القواعد الروسية؟
وأعرب سيميونوف عن اعتقاده بأن الجانبين فتحا صفحة جديدة في العلاقات الثنائية تقوم على أساس احترام المصالح المشتركة وتراعي وجود قواعد عسكرية روسية في الأراضي السورية، التي تشكل عاملاً هاماً للوجود الروسي في منطقة الشرق الأوسط، مشيراً إلى أن مهام هذه القواعد ووظائفها سوف تتغير انسجاماً مع الوضع الجديد.
وشدد سيميونوف على أن العلاقات بين دمشق وموسكو ستحافظ على طابعها الاستراتيجي في المرحلة الحالية، معرباً عن قناعته بعدم وجود خلافات من شأنها أن تعيق تطوير العلاقات الثنائية، بما في ذلك ما يشاع حول المطالبة بتسليم الأسد.
وذكّر أن روسيا “تتجاهل تماماً هذا الموضوع، وأن إثارته هنا وهناك تأتي لتلبية أغراض سياسية محلية في الداخل السوري”.
وتوقع سيميونوف أن تتطور العلاقات الثنائية بين البلدين في المجالات التجارية والاقتصادية والاستثمارية، لا سيما بعد إلغاء العقوبات المفروضة على سوريا، مضيفاً أن شركات النفط الروسية مستعدة للعمل في سوريا، في حال إبداء قدرة السلطات السورية على ضبط الأوضاع الأمنية هناك.
واعتبر أن الشركات الروسية قادرة على تنفيذ مشاريع ضخمة في سوريا تتعلق ببناء المحطات الكهربائية وبناء الطرق وإعادة إعمار البنية التحتية وغيرها.
“أولوية موسكو”
بدوره جانبه، أشار نيقولاي سوخوف، لـ”الشرق” إلى وجود عدد من المشكلات العالقة بين روسيا وسوريا، والتي بدون حلها “لا يمكن أن تسير العلاقات الثنائية إلى الإمام”، مؤكداً أن موسكو “تسعى، بالدرجة الأولى للحفاظ على القواعد العسكرية الروسية في الأراضي السورية”.
ولفت سوخوف النظر إلى أن هذه القواعد لها أهمية كبيرة تكتيكية واستراتيجية بالنسبة إلى الوجود الروسي في البحر الأبيض المتوسط، وللتواصل مع القارة الأفريقية، مشيراً كذلك إلى وجود قضايا مالية كـ”جزء من تركة الماضي”.
وأوضح أن معالجة قضية القواعد العسكرية الروسية في سوريا ترتبط أيضاً بمستقبل التعاون الاقتصادي والمساعدات الروسية لسوريا، بما في ذلك إمدادات الحبوب، والقمح ومشتقات النفط وإعادة تشغيل المصانع، التي بنيت بمساعدة الخبراء الروس، إضافة إلى إعادة اعمار البنية التحتية.
مباحثات “براجماتية”
وشدد سوخوف على أن المباحثات اتسمت بطابع براجماتي، وتركزت على بلورة إطار قانوني تعاقدي خاص بالقواعد العسكرية الروسية في سوريا والتوصل إلى اتفاقيات ثنائية في مجال التعاون الاقتصادي والتجاري.
وأعرب عن قناعته بأن روسيا تشكل لسوريا عاملاً هاماً للحفاظ على ميزان القوى بالنسبة للاعبين الإقليميين، بما في ذلك الاستفادة من قدرات موسكو لتحييد الدور الإسرائيلي عند الشروع في إعادة بناء القوات المسلحة السورية وتسلحيها من قبل روسيا.
وذكر أن اسرائيل تعمل على إعاقة وتعطيل إعادة بناء الجيش السوري في الوقت الراهن، مشيراً إلى أن تل أبيب أحبطت محاولات دول اقليمية لإعادة بناء القوات المسلحة السورية.
وفي إطار التعاون العسكري والتقني بين البلدين، قال سوخوف إن سوريا مهتمة بإعادة بناء قدراتها العسكرية، وتحديث قواتها المسلحة، وإعداد الكوادر، مشيراً إلى أن موسكو تظل في هذا المجال شريكاً أساسياً قادراً على تزويد سوريا بالتكنولوجيا العسكرية، وإعداد الكوادر وخدمة المعدات الحربية.
ووصف سوخوف زيارة الشرع إلى موسكو بـ”الإيجابية”، موضحاً أنها فتحت باب الحوار بين الجانبين، والذي بدونه لا يمكن استئناف العلاقات الثنائية، وتطويرها، وأشار إلى أن هذه الزيارة أظهرت كذلك أن “روسيا حافظت على وجودها في المنطقة”.
واختتم حديثه قائلاً: “موسكو قادرة على لعب دور الوساطة في تسوية النزاعات الإقليمية، وأنها تظل شريكاً لسوريا في هذه المرحلة الانتقالية”.