اجتمع الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والسوري أحمد الشرع في قاعات الكرملين بالعاصمة موسكو، أكتوبر الجاري، في لقاء وصف بالمهم كونه الأول منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر عام 2024.
واعتبر البعض الدعوة الروسية واللقاء تعبيراً عن صفحة جديدة أراد الكرملين فتحها في علاقاته مع سوريا الجديدة، لكن تساؤلات كبيرة برزت بشأن طبيعتها وشكلها المستقبلي، بدءاً من الاتفاقات الجديدة المحتملة، ومصير الرئيس المخلوع، والدور الروسي في إعادة الإعمار، وكيفية تقاطع تعاون روسيا مع الاتفاقيات الجديدة بين دمشق وعواصم أخرى، لا سيما العربية منها.
ومع تأكيد بوتين على حرص موسكو على دعم سوريا في مرحلة ما بعد الحرب وإعادة الإعمار، لفت الرئيس الروسي إلى أن العلاقات مع دمشق اتسمت طيلة الثمانين عاماً بطابع ودي استثنائي، ليشدد في الوقت ذاته على أن موسكو كانت على الدوم تسترشد بأمر واحد، وهو مصالح الشعب السوري.
بدوره، أكد الشرع مضي بلاده قدماً نحو إعادة ضبط العلاقات مع روسيا.
خلف الأبواب المغلقة
وبعد محادثات خلف الأبواب المغلقة، لم تكشف السلطات الروسية فحوى كامل وتفاصيل النقاشات والملفات بين جدران الكرملين، ولم تتحدث رسمياً عن إبرام أي اتفاقيات محتملة مع الحكومة السورية الحالية، وإنما اكتفت بإعلان على لسان نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك، الذي حضر ضمن الوفد الروسي المحادثات بين بوتين والشرع في الكرملين، أكده في تصريح خاص لـ”الشرق”.
وقال نوفاك: “اتفقنا على استئناف عمل اللجنة الحكومية الروسية السورية المشتركة لتطوير التعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين، وستعقد اجتماعاً في وقت قريب وبظروف جديدة، واتفقنا على تحديد قائمة المشاريع الاستثمارية التي سيتم تنفيذها في الفترة القريبة، وهذا مرتبط ليس فقط بالمشاريع الاقتصادية، بل بمجال التعليم والصحة والثقافة والرياضة أيضاً، أي في نطاق واسع من مجالات التعاون بين البلدين”.
وفي سياق حديثه عن العلاقات الروسية السورية، شدد نوفاك لـ”الشرق” على استعداد بلاده للدعم والمشاركة في إعادة إعمار سوريا، مضيفاً: “قبل أن نتحدث عن الاتجاهات التي سنطورها في إطار التعاون بين البلدين، أود لفت الانتباه إلى أنه في القرن الماضي، خلال حقبة الاتحاد السوفيتي، طورت البلدان علاقاتهما التجارية والاقتصادية بشكل نشط، والعلاقات السياسية كذلك، واليوم تمر سوريا بمرحلة التعافي، وهي بحاجة لإعادة إعمار البنية التحتية بما في ذلك الطاقة، الإسكان والبنية التحتية المجتمعية، والبنية التحتية للنفط والغاز، وروسيا مستعدة للدعم والمشاركة في جهود إعادة الإعمار، وقد نوقش هذا بشكل مفصل خلال اجتماع بوتين والشرع”.
اللقاء الأول بين بوتين والشرع
ووصف الكرملين محادثات 15 أكتوبر بين بوتين والشرع بـ”اليوم المهم للعلاقات بين البلدين”، فقد بدأت موسكو، مع تولي الشرع سدة الحكم في دمشق، بإقامة اتصالات عمل مع مسؤولين سوريين تدريجياً، متجنبة أي خطوات سريعة أو مفاجئة. إذ بدأت بزيارات متبادلة بين مسؤولي البلدين، وتمت دعوة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى روسيا في يوليو.
وحينها، أعلن الجانبان لأول مرة عن مراجعة للاتفاقيات بين موسكو ودمشق، وقررا مواءمة الإطار القانوني للتعاون الثنائي مع الظروف السياسية الجديدة.
وفي سبتمبر، أجرى الوفد الروسي، برئاسة نائب نوفاك، جولة جديدة من المحادثات في دمشق، تم الإعلان خلالها عن النية المشتركة لفتح “صفحة جديدة” في العلاقات الثنائية.
وأشارت الخارجية الروسية بدورها إلى أن جدول الأعمال الثنائي مع دمشق يشمل طيفاً واسعاً من قضايا التعاون الروسي السوري، كما يناقش موضوع الوجود العسكري الروسي في سوريا، بما في ذلك إعادة تنظيم المنشآت العسكرية الروسية المحتملة، مشددة على أن جميع هذه القضايا والاتصالات تجرى “خلف أبواب مغلقة”.
مراجعة العقود القديمة
وترى المحللة السياسية إيلينا سوبونينا وجود حاجة ملحة لمراجعة العقود الموقعة في السابق، مشيرة في الوقت نفسه إلى تبلور واقع جديد رغم الحرص على تطوير العلاقات بين موسكو ودمشق، وهو التقليل من الوجود الروسي على كافة الأصعدة في سوريا.
وأضافت لـ”الشرق”: “هناك حاجة ملحة لمراجعة عقود قديمة، وجزء منها سيستمر والبعض الآخر لا، وبعد محادثات بوتين والشرع، تم الإعلان عن مجالات مهمة للتعاون، بدءا من النفط والغاز ونهاية بالسياحة، فمشاريع التعاون، القديمة والجديدة، بين البلدين موجودة على طاولة المحادثات، لكن في الوقت نفسه، نفهم أن الوجود الروسي في سوريا سيقل، وهذا واقع جديد، فلن يكون هناك الحضور الاقتصادي والعسكري مثلما كان في السابق”.
وتتابع قائلة: “اللقاء بين بوتين والشرع يشير إلى رغبة متبادلة بالحفاظ على التعاون بين الجانبين وتطويره، خاصة أن الحكومة الجديدة في سوريا تفهم ضرورة تنويع علاقاتها الخارجية، وموسكو بدورها تفهم أن بقائها في الشرق الأوسط مرتبط ببقائها في سوريا”.
منشآت روسية عسكرية
ومنذ سقوط نظام الأسد، ظل مصير الوجود العسكري الروسي في سوريا محل انشغال العالم، وسط تساؤلات عن القرار السوري النهائي بشأنه.
والآن وبعد الزيارة رفيعة المستوى، يترجم المتابعون تصريحات الرئيس السوري بشأن الالتزام بالاتفاقيات السابقة مع روسيا، على أنه قرار إيجابي بالنسبة لموسكو، يؤكد عدم خسارتها لموطئ قدم لها في الشرق الأوسط من خلال وجودها في سوريا.
وقبلها أكد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف اهتمام الجانب السوري بالإبقاء على القواعد العسكرية الروسية في البلاد، مع إمكانية تحديث مهامها بما يتناسب مع الظروف الجديدة.
وشدد الخبير والمحلل العسكري الروسي العقيد فاسيلي فاتيجاروف، في حديث مع “الشرق”، على أهمية حفاظ روسيا على قواعدها في سوريا، محذراً من أن خسارة روسيا لمكانتها في حوض البحر المتوسط ستكون “بمثابة كارثة”.
وقال: “لا شك أن وجود قواعد عسكرية في سوريا مهم جداً لروسيا، فوجودنا في منطقة البحر المتوسط مهم جداً، لا سيما أن روسيا تضع نصب عينيها مهام وطنية معينة، من بينها تطوير الأسطول الحربي الروسي، حيث يتوجب علينا بحلول 2030 – 2035 أن نصبح ثاني أكبر أسطول عالمياً بعد الولايات المتحدة”.
وأضاف: “القاعدة الروسية في طرطوس السورية هي قاعدة صيانة، أي لخدمة السفن وصيانتها، ومع ذلك لا توجد أي ضمانات في هذه المحادثات بأن تبقى هذه القاعدة لفترات طويلة.. فجميع الأمور قد تتغير”.
وتابع فاتيجاروف: “في الوقت الراهن، أعلن الشرع الالتزام بجميع الاتفاقيات مع روسيا، ونحن نصدقه، ونستند إلى الأفعال وليس الأقوال، ونرى أن لا أحد يطردنا من سوريا، وندرك أن خسارة القواعد في حوض البحر المتوسط يعني كارثة لروسيا، لكن لدينا بعض أدوات التفاعل والضغط، فنحن ملتزمون بالمصالح الروسية، لكننا نأخذ في الاعتبار مصالح الشعب السوري ونعتز بالحكومة السورية”.
القواعد مقابل إعادة الإعمار
من جانبه، أعرب الخبير في المجلس الروسي للعلاقات الدولية كيريل سيميونوف عن ثقته في أن إبقاء القواعد الروسية في سوريا أمر محسوم، مرجحاً إمكانية تغيير مهامها ووظائفها بحسب ما يتطلبه الوضع الجديد.
وقال لـ”الشرق”: “في الوقت الراهن روسيا مستعدة للعمل في إعادة إعمار وتطوير البنية التحتية والطرق والموانئ والسكك الحديدية، لكن هناك الكثير من الأسئلة التي تطرح، بشأن من سيمول، والقضايا الأمنية”.
وأضاف: “روسيا مهتمة بإبقاء وجودها في منطقة الشرق الأوسط، والمهم هو الوضع الاستراتيجي، بما في ذلك القواعد العسكرية التي من الممكن تغيير مهامها ووظائفها، مثل تحويلها إلى مراكز لوجستية لمساندة إفريقيا، لكن في الوقت نفسه تبقى القواعد منشآت استراتيجية يمكن استخدامها لأغراض عسكرية في حال الضرورة، مثل محاربة تنظيم داعش في حال ظهوره مجدداً”.
ويرى سيميونوف أن “هذا الأمر مهم للشرع أيضاً، حيث من الضروري بالنسبة له إيجاد توازن داخل بلده، ونحن نرى كيف ينعكس التأثير الخارجي على سوريا، ويحاول المضي قدماً نحو مصالح شعبه، وهو يعول بنسبة معينة على الدعم الروسي”.
ويقول إن بعض الدول فوجئت بقرار الشرع في هذا الخصوص، ومن بينها تركيا، التي بحسبه كانت تأمل في أن تغادر روسيا من سوريا.
وأوضح قائلاً: “لم يتوقع أحد مثل هذه الخطوات من قبل الشرع, ربما توقع الأتراك بأن القواعد العسكرية الروسية ستبقى، وأن تكون المساومة على هذا الأمر مختلفة تماماً، بما يعني ابتزاز روسيا بقواعدها، واليوم يجري الحديث عن أمور أخرى، وكان من غير المتوقع أن يرتكز الحوار على إبقاء روسيا، فقد كانت تركيا تعتقد أن روسيا ستخرج من سوريا”.
الجنوب السوري وممر داوود
وجاءت تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف والإدانات الروسية الرسمية للغارات الإسرائيلية على أهداف داخل سوريا لتظهر أن روسيا تسعى إلى حماية نوع من النفوذ والقدرة على ضبط إيقاع الجنوب السوري، وأنها كانت وما زالت داعمة لوحدة وسلامة وسيادة الأراضي السورية، ورافضة لأي دعوات انفصالية.
ويرى الدبلوماسي الروسي السابق فيتشيسلاف ماتوزوف أن قبول الحكومة الروسية طلب إرساء تواجدها في الجنوب السوري سيعرقل الخطط الإسرائيلية لإنشاء ما يعرف بـ”ممر داوود”.
و”ممر داوود” تصور استراتيجي يُنسب إلى بعض الأوساط الإسرائيلية، ويهدف إلى إنشاء ممر بري يمتد من الجولان السوري المحتل إلى إقليم كردستان العراق، مرورًا بمناطق جنوب وشرق سوريا، إذ يبدأ المسار المقترح من مرتفعات الجولان المحتلة، ويمر عبر القنيطرة ودرعا والسويداء، ويمتد شرقًا عبر البادية السورية إلى معبر التنف على الحدود السورية العراقية الأردنية، لينتهي عند معبر البوكمال على نهر الفرات، متصلًا بإقليم كردستان.
ويرى مراقبون أن المشروع يستهدف تعزيز النفوذ الإسرائيلي في سوريا والعراق عبر ممر بري استراتيجي، إذ سيربط إسرائيل بإقليم كردستان لتسهيل التعاون الأمني والاقتصادي، ويتسبب بإضعاف سوريا والعراق عبر تفتيت الجغرافيا السياسية، وتمكين بعض الأطراف الكردية والدرزية من إنشاء كيانات شبه مستقلة تحت حماية إسرائيلية.
وقال ماتوزوف لـ”الشرق”: “ما قرأته من تصريحات للشرع في وسائل الإعلام بشأن طلبه من روسيا نشر قوات روسية لمساعدة سوريا في استقرار الوضع على الحدود مع إسرائيل أمر مهم، وسيعني أننا في حال وافقنا على طلب كهذا، سنفسد خطط إسرائيل الرامية إلى إنشاء ممر داوود في الجزء الجنوبي من سوريا على طول الحدود مع الأردن والعراق، وعزل الدروز وإقامة دولة علوية مستقلة، واعتقد أننا وجدنا لغة مشتركة مع الشرع، ونتحرك في طريق صحيح”.
ويضيف: “لم تعلن السلطات الروسية قرارها علناً بعد، لكن علينا ألا ننسى أن وجودنا في سوريا تراجع، بينما توسعت تركيا، العضو في حلف الناتو، أكثر في سوريا”.
وذهب الخبير والمحلل العسكري الروسي العقيد فاسيلي فاتيجاروف إلى الأمر نفسه، إذ قال لـ”الشرق” إن “وجود قوات روسية في الجنوب السوري سيكون بمثابة ضمان لوقف زحف إسرائيل نحو احتلال سوريا، فبعد فرار الأسد وقواته، تقدمت الدبابات الإسرائيلية، خاصة في الجولان، وكان الأمر ملحوظاً جداً، ولا أعتقد أن إسرائيل تفكر بالخروج”.
الطاقة السورية والخبرة الروسية
في ملف الطاقة، صرح نائب رئيس الحكومة الروسية ألكسندر نوفاك بأن روسيا مستعدة للعمل في حقول النفط السورية، قائلاً: “هذا بالتأكيد أحد الاتجاهات، تعمل الشركات الروسية في سوريا منذ فترة طويلة في حقول النفط، وهناك حقول تحتاج إلى تطوير، وهناك حقول متوقفة، وهناك حقول جديدة، ونحن مستعدون للمشاركة”.
ويرى المحلل بالصندوق الوطني لأمن الطاقة والخبير في الجامعة المالية التابعة للحكومة الروسية إيجور يوشكوف أن التعاون الاقتصادي، بما في ذلك بمجال الطاقة، سيكون مرتبطاً بشكل وشروط التعاون بين موسكو ودمشق.
ويقول في حديث مع “الشرق”: “بوسع روسيا تطوير قطاع الغاز عبر بناء خطوط أنابيب الغاز والنفط، فنحن في روسيا ننتج السلسلة الكاملة لخطوط الغاز والنفط بما في ذلك للحفر والإنتاج وتخديم الحقول وبناء خطوط الأنابيب الرئيسية، وقبل بدء الحرب، كانت سوريا تتمتع باكتفاء ذاتي في الغاز والنفط، رغم أنها لم تكن يوماً لاعباً رئيسياً في سوق النفط العالمية”.
وأضاف أن “بوسع روسيا المساعدة بخبرتها في الحقول البرية، والعمليات الاستكشافية، وأعمال الحفر واستخراج الغاز، لكن السؤال الأساسي يتعلق بكيف ستدفع سوريا ثمن ذلك؟”.
ولا يستبعد يوشكوف أن تكون المحادثات الأخيرة بين بوتين والشرع تطرقت إلى فكرة مقايضة معينة، تساعد بموجبها شركات روسية في إعادة إعمار مجمع الوقود السوري والمحطات الكهربائية والخدمات بمجال الطاقة، مقابل الإبقاء على القواعد الروسية هناك”.
وفيما يتعلق بردود فعل محتملة من دول غربية على اتفاقية للتنقيب الروسي عن الغاز في المياه الإقليمية السورية، يقول يوشكوف: “لا أعتقد أن الدول الغربية ستمانع التحركات الروسية، بل أعتقد أن الأمر ينطوي على منافسة مع تركيا المهتمة بإبقاء تصدير موارد الطاقة من سوريا عبر السوق التركية أو إلى أسواقها، كما كان الحال في السابق، فرغم قلة حجمها، إلا أن دوائر الأعمال في تركيا كان تحصد أرباحاً من هذا الأمر”.
مصير بشار الأسد
أفادت تقارير إعلامية بأن الشرع خلال زيارته لموسكو سيطلب تسليم الرئيس المخلوع بشار الأسد الذي فر إلى روسيا في ديسمبر، لكن الكرملين رفض التعليق على الأمر.
وسبق ذلك تذكير على لسان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بأن وجود الرئيس السوري السابق وأفراد أسرته في روسيا يرجع إلى “أسباب إنسانية بحتة”، موضحاً أن “الأسد كان مهدداً بالتعرض لعنف جسدي”.
ورأى البعض في الغرب سقوط نظام الأسد بمثابة “هزيمة لموسكو”، وانقسمت آراء المحللين والخبراء الروس بشأن مناقشة ملف “تسليم الأسد” للسلطات السورية الجديدة خلال اجتماع بوتين والشرع.
ويرجح فاتيجاروف عدم مناقشة هذه المسألة إطلاقاً، وأن الحديث بشأنها اقتصر على وسائل الإعلام قبيل زيارة الشرع إلى موسكو، وكانت موجهة أكثر للداخل السوري.
أما سوبونينا فتعتقد أن الشرع تطرق إلى هذه القضية خلف الأبواب المغلقة، وقالت: “أنا متأكدة أن الشرع تطرق إلى الموضوع، وما هو أكيد كذلك أن روسيا لن تسلم الأسد وعائلته، لأن الأمر يتعلق بمبادئ الرئيس بوتين، فقد قدم له لجوءاً إنسانياً، وروسيا تتفهم مطالب الشعب السوري بهذا الخصوص ولماذا تتحدث عنه الحكومة الحالية، لكن مع طي صفحة الماضي، ستكون روسيا على استعداد لتقديم مساعدات إنسانية لسوريا وشعبها”.
تاريخ الاتفاقيات العسكرية بين روسيا وسوريا
أخذت الاتفاقيات العسكرية شكلاً أكثر وضوحاً بعد بدء التدخل الروسي في الحرب السورية يوم 30 سبتمبر عام 2015، إثر إعلان النظام السوري السابق طلب الدعم العسكري رسمياً من موسكو.
وكان أول اتفاق عسكري بين البلدين خلال فترة الحرب قد وقع قبل ذلك بعدة أيام فقط، وهو اتفاق منح الجزء العسكري من مطار اللاذقية (مطار حميميم)، كقاعدة عسكرية للروس، ويتضمن إعفاءات جمركية وضريبية وحصانات واسعة للأفراد والممتلكات الروسـية.
وفي 18 يناير 2017، تم التوقيع على اتفاق مكمل للاتفاق السابق، فصّل الحصانات والاختصاص القضائي، وحدّد الممتلكات الممنوحة للاستخدام في حميميم.
وفي 18 يناير 2017، أُبرمت اتفاقية منحت روسيا حق استخدام مركز الإمداد الفني البحري في طرطوس كـ”قاعدة عسكرية بحرية” لمدة 49 عاماً (حتى 2066)، مع إمكانية التمديد التلقائي لـ25 عاماً أخرى، علماً بأن القوات الروسية كانت تتواجد في مركز الإمداد البحري منذ ما قبل الحرب السورية.
وتشير المعلومات إلى أنه بدأ في العام 1971 من خلال موافقة الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد على إقامة “الاتحاد السوفيتي” قاعدة إمداد بحري بالقرب من ميناء طرطوس، وذلك بعد عام واحد من تسلمه الحكم.
ويسمح اتفاق طرطوس، وفقاً لمعلومات نشرتها وسائل إعلام مقربة من الحكومة الحالية، بوجود 11 سفينة حربية في وقت واحد ضمن المرفأ، كما إن الحصانة التي تمنح للقواعد والعسكريين الروس تقضي بأن السلطات السورية لا تملك الحق بملاحقة أي من الجنود الروس المتواجدين على أراضيها لأي سبب كان، وأن تفتيش القاعدتين الروسيتين في حميميم وطرطوس ممنوع على دمشق إلا بعد الحصول على موافقة القائد العام للقوات الروسية في سوريا.
اتفاقيات الفوسفات
في الشق الاقتصادي، تبرز اتفاقية استثمار الفوسفات، التي أعلنتها وسائل إعلام روسية في يونيو 2017، حيث دخلت الاتفاقية بين المؤسسة السورية و”STNG Logestic”، وهي شركة تابعة لـ “ستروي ترانس غاز” حيز التنفيذ بعد مصادقة الرئيس السابق بشار الأسد عليها في 23 أبريل من العام نفسه.
وهي اتفاقية تقوم أولاً على تنفيذ أعمال صيانة للمناجم وتقديم خدمات الحماية والإنتاج والنقل، وكان من المقرر أول الأمر أن يتم التصدير عبر ميناء “سلعاتا” في لبنان، لكنه تحول لاحقاً إلى ميناء طرطوس.
وتشير معلومات منشورة بوسائل إعلام روسية إلى أن 31.5% من هذه الشركة مملوكة للملياردير الروسي جينادي تيموشينكو، الذي يوصف بأنه من المقربين من بوتين، وحصلت الشركة قبل سنوات على حقوق استغلال مناجم فوسفات الشرقية وخنيفيس في تدمر.
وعلى الرغم من عدم الكشف عن تفاصيل الاتفاق إلا أن معلومات متداولة تقول إن مدة العقد 50 عاماً، وبطاقة تبلغ حوالي 2.2 مليون طن سنوياً واحتياطي مُقدَّر 105 ملايين طن، على أن تقسم الأرباح بواقع 70% للشركة الروسية و30% للجانب السوري.
ويعد مجمع الأسمدة في حمص المكون من 3 معامل تخصصية في إنتاج أسمدة “سوبر فوسفات يوريا نترات الأمونيوم”، من بين الاتفاقيات الاقتصادية الأكثر أهمية بين شركتي “إس تي جي”، وشركة “ستروي ترانس غاز”، مع الحكومة السورية في زمن النظام السابق، والتي تقضي باستثمار مجمع الأسمدة لمدة 40 عاماً، تبدأ بتنفيذ أعمال عمرة كاملة (صيانة وتجديد)، للمعامل الثلاث قبل البدء بالتوجه إلى الإنتاج.
وبحسب المعلومات المتداولة عن العقد فإن نسبة تقاسم الأرباح كانت بواقع 65% للمستثمر الروسي و35% لدمشق.
اتفاقيات اقتصادية
كما تشمل الاتفاقيات الاقتصادية عقداً بين دمشق وشركة “سيوز نفتي غاز ” Soyuzneftegaz، يعود للعام 2012، بهدف استكشاف النفط البحري ضمن المياه الإقليمية السورية، وهو عقد توقف بسبب الظروف الأمنية في سوريا حسبما نقل عن الشركة في العام 2015.
وفي مارس 2021، قالت صحيفة “الثورة”، السورية الرسمية إن وزارة البترول والثروة المعدنية وقعت عقدين مع شركتي كابيتال ليميتيد (Capital Limited) وايست ميد عمريت (East Med Amrit) الروسيتين”.
ومنح الاتفاق شركة كابيتال حق التنقيب عن النفط في البلوك البحري رقم (1)، ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة لسوريا وبمساحة 2250 كيلومتراً مربعاً تمتد من مقابل سواحل مدينة طرطوس حتى الحدود البحرية مع لبنان، ولمدة 25 عاماً قابلة للزيادة 5 سنوات إضافية.
وأوضحت الصحيفة أن العقد الموقع مع شركة “كابيتال ليميتيد” جاء بعد توقيع عقد استكشاف في البلوك (2)، الممتد من شمال طرطوس إلى جنوب بانياس بمساحة 2190 كيلومتراً، مع شركة إيست ميد عمريت”.
ورغم الحديث عن قيام الحكومة السورية الجديدة، في يناير 2025، بفسخ العقد مع شركة “أس تي جي إنجينيرينج” الروسية، المشغلة لميناء طرطوس، إلا أن الرئيس التفنيذي للشركة الروسية دميتري تيفونوف أكد لوكالة “رويترز” أن الشركة لا تزال تدير الميناء، وأن أحداً لم يبلغهم بإلغاء العقد، لافتاً إلى أن أمراً كهذا يتطلب إجراءات طويلة وبيروقراطية.
ويعود هذا الاتفاق إلى العام 2019، ويقضي باستثمار الشركة الروسية 500 مليون دولار في تحديث ميناء طرطوس وتوسيعه.
روسيا والطاقة في سوريا
على الجانب السوري، يرى الخبير في شؤون الطاقة رياض نزال أن “روسيا من أقدم الجهات التي استثمرت في قطاع الطاقة السوري، إذ يبدأ تاريخها في هذا السياق من شركة تكنو إكسبورت، وبشكل حصري هي من نفذت عمليات المسح الكامل للجغرافية السورية من حيث النفط والمعادن، وحتى أوائل الثمانينات كانت المشرف الوحيد كطرف أجنبي في قطاع الطاقة في سوريا”.
ويقول نزال لـ”الشرق”: “بعد ذلك بدأت الشركات الغربية بالتوافد إلى السوق السورية، وقبل العام 2010 كانت هناك مناقصات لحقوق (تاك نفط – سيوز غاز) للتنقيب والاستثمار في دير الزور، ومع بدء الحدث السوري بدأت الشركات الغربية بالانسحاب وبقيت الشركات الروسية، ومن ثم وفدت الشركات الإيرانية، لكن العقود التي وقعت خلال الحرب لم تكن جدية في أعمال الاستكشاف والبحث عن حقول واحتياطيات جديدة، أو من ناحية الاستثمار، وذلك نتيجة العقوبات التي كانت مفروضة وشلت القطاع بشكل كامل، وكذلك الوضع الأمني، إضافة إلى أن الشركات التي دخلت لم تكن ذات خبرة كبيرة، مثل شركة سيوز نفط التي لم تكن تمتلك أي خبرة في الحفر العميق في البحار والمحيطات حين توقيع العقد مع دمشق”.
ويضيف نزال: “روسيا لديها اهتمام كبير باستثمارات الغاز في سوريا، ليس لاحتياجاتها، إذ دخلت على خط الاستثمار مثل خط الغاز العربي الذي وصل قبل العام 2011 إلى منطقة دير عطية، جنوب حمص، والذي كان من المفترض أن ينقل الغاز العربي عبر تركيا إلى السوق الأوروبية”.
ويقول الخبير السوري: “كان التدخل الروسي قائماً على محاولة موسكو حصر تجارة الغاز مع أوروبا على الشركات الروسية، وقد حاولت موسكو الدخول إلى منتدى شركات الغاز شرق المتوسط من خلال شركة نوفا تيك، عبر استثمارها في البلوك 4 والبلوك 9 في لبنان، حيث وقعت عقوداً مشتركة مع شركات غربية، إلا أن روسيا انسحبت مع بداية الحرب الأوكرانية من المنتدى، وباعت الشركة المذكورة حصصها في الاستثمارات لشركة قطر للغاز”.
ويرى نزال أن إعلان الرئيس السوري الالتزام بالاتفاقيات مع روسيا سيواجه تحديات كبيرة، أولها العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، والتي يمكن أن تعرقل تنفيذ هذه العقود نتيجة المشاكل السياسية بين المجموعة الغربية وموسكو.
ويقول: “لدى الأوروبيين مشكلة في عودة روسيا للاستثمار في سوريا، وهذا ما قد يتسبب بتجميد أو شل أي سيولة مالية، أو معدات يمكن أن يحتاج الروس لاستخدامها في الاستثمارات هناك، كما أن طبيعة العقود الموقعة بين دمشق وموسكو تحتاج لمراجعة لكونها كانت ذات صفة احتكارية، تبدأ من طول المدة الممنوح على أساسها الاستثمار، والتي تتراوح بين 25 و50 عاماً، ومع إعادة هيكلة قطاع الطاقة في سوريا حالياً، والتحول إلى نمط الشركات القابضة، فإن العقود الموقعة مع أي طرف لا بد أن تكون شفافة وتراعي مصالح الدولة، وعليه لا بد من مراجعة هذه العقود ومراجعة خبرة الشركات التي منحت هذه العقود والمساحات الواسعة التي منحت لها ولا بد من التأكد من قدرتها على تحسين الاحتياطي، ناهيك عن كون بعض العقود الموقعة مع روسيا محكومة بظرف الحرب، ولا يمكن البناء عليها”.
ويشدد الخبير في شؤون الطاقة على ضرورة توافر “الليونة السياسية في مناقشة واقع العقود الحالية مع روسيا، لتجنب الدخول في منازعات واللجوء إلى التحكيم الدولي لتحديد أماكن الامتيازات وطبيعة العقود، لأن طريق التحكيم طويل، ويمكن أن يجمد أو يعيق حركة قطاع الطاقة السورية والذي يطلب منه الكثير حاليا، وبالتالي لا بد من الوصول إلى حلول وسط مع المستثمر الروسي لكونها الطريقة الأفضل للاعتماد على قطاع الطاقة في تمويل عمليات إعادة الإعمار والتنمية في سوريا”.
التنصل من الاتفاقيات الدولية
من جانبه، يؤكد الباحث في الشأن السياسي الدكتور غازي عبد الغفور، في حديث مع “الشرق”، أن “التنصل من الاتفاقيات والمعاهدات بين الدول ليس بالسهولة التي يتوقعها البعض أو يتمناها، إلا أن ذلك لا يعني الإبقاء على الاتفاقيات التي وقعها النظام السابق كما هي”.
وأوضح عبد الغفور أن “الأسباب والمعادلة، التي وقعت على أساسها تلك الاتفاقيات، كانت مصالح روسيا مقابل ضرب الثورة السورية بكل السُبل العسكرية و الدبلوماسية بهدف حماية الأسد و تثبيته في الحكم، أما اليوم و بعد أن سقط نظام الأسد، سقط بذلك الشق الثاني من المعادلة، ومن المنطقي أن يتم تعديل هذه الاتفاقيات المجحفة بحق سوريا، وأن تعاد صياغتها لتصبح قاعدتها ومتنها هي المصالح المشتركة بين سوريا وروسيا”، واستدرك قائلاً: “لكن من الضروري أيضاً ألا نستبق الأحداث، وأن يتم انتظار نتائج الزيارة في القادم من الأيام”.
وعن ردود أفعال الجماهير تجاه زيارة الشرع إلى العاصمة الروسية، قال عبد الغفور لـ”الشرق”: “هناك من نظر إلى الزيارة بعين عاطفته، وهناك من حكم عليها بعين الواقعية السياسية ولغة المصالح، وهذا هو المنطق، فالعلاقات بين الدول لا تصاغ عاطفياً بل تحددها وتحكمها الواقعية السياسية ولغة المصالح، مع الإشارة إلى الفرق الجوهري بين ترميم العلاقات السورية – الروسية الذي يختلف كلياً عن العلاقات السورية – الإيرانية، لأن وضع المسألتين في ذات السياق يعد تسطيحاً للأمر، ولا تقوم المقارنة على أساس المكانة الدولية لروسيا وإيران، فحتى وإن عادت العلاقات مع طهران، وهذا ما استبعده لسنوات قادمة، فستكون بروتوكولية فاترة، إلا إذا حدث شيء ما في إيران، وهذا وارد جداً كما أرى”.
أسباب زيارة الشرع إلى موسكو
ويبدو السؤال الأهم، في رأي الكاتب والمحلل السياسي إبراهيم الشير، هو ما يتعلق بأسباب زيارة الشرع إلى روسيا، ويجيب قائلاً: “الوجود الإسرائيلي في الجنوب واحد من أهم الأسباب التي تدفع الشرع للبحث عن مساعدة روسية في هذا الملف بعد أن وجد أن الأميركي غير جاد بتقديم أي مساعدة جادة في هذا الملف، إذ تحتاج دمشق إلى وجود قوات مراقبة روسية في الجنوب، تمنع إسرائيل من التمدد أكثر، لأن المحافظات الجنوبية مهددة في ظل عدم التوصل إلى اتفاقية أمنية جديدة مع الجانب الإسرائيلي حتى الآن”.
ويعتقد الشير، في حديثه مع “الشرق”، أن تركيا، بوصفها الجهة التي فتحت قنوات الاتصال بين دمشق بصورتها الجديدة وروسيا، “مجبرة على أن تقبل بإعطاء حصة للروس في الداخل السوري، وعلى أساس فهم أن الاتفاقيات التي وقعت من قبل النظام كانت بهدف تثبيته ومنع سقوطه، لكن حالياً يجب أن تكون الاتفاقيات والالتزام بها قائماً على أساس مصلحة الشعب السوري”.
ويقول: “على هذا الأساس، يبدو أن تعديل الاتفاقيات ضرورة وطنية، وإذا ما بقيت الاتفاقيات على حالها، تكون الحكومة الحالية في طور استنساخ أسباب النظام السابق في الإبقاء عليها، بمنطق أن تثبيت أركان الحكم مقدم بالنسبة لها على المصلحة الوطنية”.