المخرج والمؤلف الإيطالي باولو سورنتينو هو اسم كبير في عالم السينما المعاصرة.
عرفه عشاق السينما حين حصل على الأوسكار والجولدن جلوب والبافتا، وكل جائزة ممكنة، عن فيلم The Great Beauty عام 2013. وعرفته الجموع حين عرضت رائعته The Hand of God عام 2021، على منصة نتفليكس.
ولسورنتينو أعمال أخرى جيدة، أقدم من هذين الفيلمين، وعدد من المسلسلات التليفزيونية الشهيرة، معظمها تتناول حياة رجال الدين والسياسة، هو واحد من أغزر الفنانين الكبار إنتاجاً خلال السنوات الماضية.
في العام الماضي صدر لسورنتينو فيلمه المثير للجدل Parthenon الذي حاول أن يستعيد فيه روح The Great Beauty، ولكنه مني بخيبة أمل غير متوقعة.
هذا العام عاد سورنتينو بفيلم جديد، مختلف، هو La Grazia الذي شهد عرضه الأول في مهرجان فينيسيا الأخير، ويعرض حالياً في مهرجان الجونة الثامن.
لقاء الأنواع
يبدو La Grazia وكأنه لقاء بين أعمال سورنتينو السينمائية “الجمالية”، وأعماله التليفزيونية السياسية، وعنوان الفيلم نفسه كلمة إيطالية ملتبسة تعني “النعمة” بمعناها الكاثوليكي والفلسفي، كما تعني “العفو القانوني السياسي”، والمعنيان يحاول الفيلم أن يجسدهما، بنجاح حيناً، وتشوش أحياناً.
مثل The Great Beauty يدور la grazia حول رجل في الفصل الأخير من حياته يتأمل خيبات وأشواق حياته، ولكن الفارق هنا أن الرجل هو رئيس جمهورية إيطاليا! والطريف أن الممثل الذي يؤدي الدور واحد: الرائع توني سيرفيللو (الذي شارك أيضا في بطولة The Hand of God).
يبدأ la Grazia بعناوين على الشاشة، عبارة عن اقتباسات طويلة من الدستور الإيطالي خاصة بتحديد صلاحيات وواجبات الرئيس، ننتقل بعدها مباشرة إلى القصر الرئاسي لنتابع حياة الرئيس مارلانو دي سانتس، الذي تنتهي فترة ولايته بعد 6 أشهر، يرغب في تخطيهم بأمان ودون مشكلات، كما فعل خلال سنوات ولايته السابقة، وكما فعل طوال حياته تقريباً.
لقد كان دي سانتس قاضياً كبيراً، يعد من أهم رجال وأساتذة القانون في البلاد، وقد عاش حياة عادية جرداء تقريباً، حتى إنه يقول عن نفسه دائماً: “أنا أكثر موضوع ممل يمكن أن نتحدث عنه”!
وهنا يبرز السؤال الذي واجه سورنتينو: كيف تصنع فيلما مشوقاً عن شخصية مملة؟!
عائلي أم سياسي؟
يسير الفيلم في خطين متوازيين يحاول سورنتينو جاهداً أن يربط بينهما: حياة دي سانتس العائلية “الجرداء”، ومهامه السياسية المملة، باستثناء حدث واحد مهم في كل منهما.
فيما يخص حياته العائلية فهو أرمل لديه ابنة ذكية ومحبة هي دوروتيا (آنا فيريزتي) مساعدته ومستشارته الأولى، وابن اسمه ريكاردو مؤلف موسيقي قرر أن ينتقل من تأليف الموسيقى الكلاسيكية إلى الموسيقى الشعبية، وكل مشكلة دي سانتس (التي تبدو افتعالاً درامياً محضاً) هي أن زوجته، حب حياته، قد خانته ذات يوم بسبب إهماله لها، وهو الآن، على عتبة الموت، يسعى لمعرفة هوية عشيقها العابر.
فيما يتعلق بعمله، فإن القضية الكبرى التي يتعين عليه حسمها قبل تركه للمنصب هي التوقيع (أو رفض التوقيع) على قانون “الموت الرحيم”، وفيما تحثه ابنته على امتلاك الشجاعة لتوقيعه، فإن صديقه بابا الفاتيكان (الذي أصبح من أصل إفريقي هنا) يحذره من التوقيع عليه، وهو، كعادته، متردد، يزن كل شيء بميزان الذهب، الذي لا يصلح دائما لاتخاذ القرارات المصيرية: إذا وقع القانون سيطلقون عليه قاتل، وإذا رفض سيتهمونه بتعذيب المرضى. هكذا يخبر ابنته التي ترفض منطقه.
التحرك في الفراغ
على مدار ساعتين وعشر دقائق، يتحرك الفيلم جيئة وذهاباً بين حيرة دي سانتس وتساؤلاته عن حياته، وروتين يومه السياسي، “يقولون أن الروتين يبطئ حركة الأشياء، ولكن هذا بالضبط هو الهدف منه”، هكذا يقول دي سانتس في أحد المشاهد.
ولكن هذا، مرة أخرى، قد يصلح في السياسة، ولكن ليس في الفن، وLa Grazia يتحرك جيئة وذهاباً، ببطء وبالحركة البطيئة Slow Motion أحياناً، حركة ذات معنى وهدف حيناً، وبلا معنى أحياناً، ومثل رائد الفضاء الذي يتحرك بفعل انعدام الجاذبية دون هدف، يبدو الفيلم كذلك أحياناً، ويبدو دي سانتس نفسه كذلك، في مشهد خيالي بالقرب من نهاية الفيلم.
لحظات من الجمال
سورنتينو صانع ماهر للجمال السينمائي، بإمكانه أن يحول الشاشة إلى امرأة جميلة تضج بالحياة والحيوية، وحين يمزج هذه الصور باختياراته الموسيقية المناسبة يصبح التأثير مضاعفاً.
ولكن هنا لا يوجد سوى القليل من هذه اللحظات الحالمة المتسامية في مشاهد متباعدة منفصلة: مثل استقبال دي سانتس لرئيس دولة أخرى (البرتغال) غلبه السن والإجهاد في المطر والريح، يتعثر بالحركة البطيئة، رائد الفضاء ينظر إلى دموعه الطائرة مع انعدام الجاذبية، أيضاً بالحركة البطيئة.
الروبوت الذي يسبق الرئيس ورجاله أثناء سيرهم في الشارع، أحد المشاهد شبه السوريالية العجيبة. نعم، هناك لمحات من سورنتينو متناثرة، ولكنها لا تشكل وحدة موضوعية متماسكة.
هالني في الفيلم أيضاً الخلط بين المفهوم القانوني لما يطلق عليه Euthanasia أو “القتل الرحيم”، الكلمة المشتقة من اليونانية من كلمة “يو” (جيد) و”ثانوس” (الموت)، يقصد بها تقنين القتل الطبي للحالات الميؤوس منها، التي يتألم فيها المريض من دون توقف، ولا يوجد أي أمل في بقائه حياً، أو يفقد كل حواسه، ويدخل في غيبوبة لا خروج منها.
السيد دي سانتس الذي لا يفهم هذه المسألة جيداً يدخل في اختبار أخلاقي عندما يرقد حصانه المفضل محتضراً متألماً من دون أمل في شفائه أو منع الألم عنه، ويرفض الرئيس أن يسمح لمساعديه بقتل الحصان المسكين.. وعندما يتخذ القرار أخيراً يكون الحصان قد مات بالفعل.
خلط الطب بالقانون
ولأن دي سانتس رجل قانون لا طب، لم يجد سورنتينو أمثلة درامية لموضوع “القتل الرحيم” سوى حالتين هما أبعد ما يكون عن معناه الطبي: زوجة تفاخر بأنها قتلت زوجها مع سبق الإصرار والترصد لأنه “مريض” نفسياً، إذ يضربها ويشك فيها، ويحول حياتها إلى جحيم، وهي تحبه (حباً مرضياً أيضاً، على ما يبدو) ولا تستطيع الانفصال عنه، ولذلك تقتله “رحمة به” وترى أنها لم ترتكب إثماً ما.
الحالة الثانية لزوج يقتل امرأته المصابة بالألزهايمر في نوبة غضب مفاجئة، بالرغم من أنه ترك عمله لرعايتها، نادم على فعلته، ويرغب في الموت، وهو معلم محبوب ومحترم وسط سكان مدينته الصغيرة، ويطلبون له العفو، باستثناء امرأة واحدة ترى أنه مخادع.
الاثنان قضيا بضعة سنوات في السجن، وهناك اقتراحات برفع استكمال مدة العقوبة عنهما، والحالتان تقدمان للرئيس للعفو (أو رفض العفو)، ومن ثم المعنى القانوني لعنوان الفيلم. ولكن، كما هو واضح، هناك فارق كبير بين الحالتين والـ Euthanasia حسب التعريفات القانونية المختلفة لها.
بالمناسبة القصتان طريفتان، وتستحقان صنع عمل درامي عنهما، خاصة حين نفاجأ بالقرارات التي اتخذها القاضي دي سانتس تجاههما.
ولكنهما مختلفان عن قضية “الموت الرحيم” التي تشغل برلمانات ودساتير العالم ومؤسساته الطبية والدينية والقانونية حالياً!
وبالرغم من أن الفيلم يصور كواليس عمل أكبر سياسي في البلد، لكن حديث السياسة خافت هنا وخجول بشكلٍ لا يكاد يسمع، وباستثناء مشروع “الموت الرحيم” ذي الطبيعة الطبية والقانونية أكثر من السياسية، فهناك “فراغ” سياسي في الفيلم.
محاولات للعمق!
من ناحية ثانية لا تخلو قصة دي سانتس العائلية من تصدعات درامية هي الأخرى، لسانتس صديقة عمر مخلصة تعمل كصحفية فن وثقافة، هي الوحيدة التي تعرف سر الزوجة الراحلة، وترفض البوح باسم العشيق لدي سانتس، وعندما تكشف عنه أخيراً، تكون المفاجأة مدوية، هذه أيضاً قصة طريفة، ولكن ليس واضحاً لماذا استيقظت الآن، وما يربك الأمر أكثر أن دي سانتس يشك في صديق عمره، وزير العدل، وليس مفهوماً أيضا لماذا يقرر أن يواجهه بشكوكه الآن فقط، بعد كل هذه السنوات!
من الواضح أن القصة مضافة لإعطاء عمق لشخصية دي سانتس. في النهاية نحن أمام دراما شخصية، تكون فيها الشخصية الرئيسية هي محور الأحداث والـ”ثيمة” الأساسية للعمل. ولكن La Grazia موزع بين عدة “ثيمات” وأنواع، ولا يركز في موضوع واحد.
ربما كان هذا جيدا مع عمل مثل The Great Beauty أو The Hand of God اللذين يتسمان بالبانورامية في تصوير الأماكن والأزمنة والناس، والـ”ثيمة” الأساسية فيهما هي روما وإيطاليا ما بعد 2008 في The Great Beauty، والثمانينات ومدينة نابولي في The Hand of God.
هذا الأسلوب لا يصلح في La Grazia، حيث يوجد شخصية واحدة وقراراتها هي موضوع الفيلم، وليس عيونها التي نرى العالم من خلالها كما في الفيلمين المذكورين.
يحاول سورنتينو أن يخلق شخصية مثيرة للتعاطف والاهتمام (رغم كونها مملة باعتراف صاحبها)، ولذلك، مثلاً، يجعل دي سانتس يدخن طوال الوقت رغم كونه يعيش برئة واحدة، وهو يحب البيتزا (الخطيرة على قلبه) وموسيقى “الراب” المرحة (رغم أن الجميع يلقبه بـ”الخرسانة المسلحة” بسبب جموده وبروده!
لا يخلو الفيلم من حيوية سورنتينو وصوره المبدعة المعتادة، ولكن هناك القليل من ألوانه وتكويناته وحسه الاستثنائي بالموسيقى.
هناك شيء مجهد ومفتعل في هذا العمل، كما لو أنه مجرد مشروع طموح لم يكتمل.
*ناقد فني