اخبار تركيا

تناول مقال للكاتب والإعلامي التركي توران قشلاقجي، أهمية الجولة الخليجية التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الكويت وقطر وسلطنة عُمان، مبرزاً أبعادها السياسية والاستراتيجية بوصفها أكثر من مجرد زيارات بروتوكولية.

هذه الجولة تمثل، وفق الكاتب التركي، تحولاً في رؤية أنقرة لعلاقاتها مع الخليج من إطار التعاون الاقتصادي إلى شراكة أمنية وجيوسياسية متعددة المستويات، تسعى من خلالها تركيا إلى ترسيخ حضورها في توازنات الشرق الأوسط الجديد.

ويشرح قشلاقجي كيف تعكس الزيارات الثلاث رغبة تركيا ودول الخليج في بناء منظومة إقليمية مستقلة عن الاستقطابات الدولية، قائمة على الثقة والمصالح المشتركة، في ظل التوترات المتصاعدة في غزة ولبنان واليمن. وفيما يلي نص المقال الذين نشرته صحيفة القدس العربي:

لم تكن جولة الرئيس رجب طيب أردوغان، الخليجية التي شملت الكويت وقطر وعُمان على مدى ثلاثة أيام، مجرد سلسلة من الزيارات، بل هي بمثابة بيان دبلوماسي يُعيد تعريف الرؤية الإقليمية لتركيا. فهذه الجولة تمثل خطوة لتحويل علاقات أنقرة مع عواصم الخليج، التي تمتد لسنوات طويلة، إلى شراكة استراتيجية. وربما الأهم من ذلك، أنها تمثل مرحلة جديدة في مسعى الشرق الأوسط نحو توازن متعدد الأقطاب.

كانت الكويت المحطة الأولى لأردوغان، فالأمير الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، الذي تولى الحكم في ديسمبر 2023، كان قد زار أنقرة فور تسلمه مهامه، وها هو أردوغان الآن يرد الزيارة. وتُعد الكويت منذ الغزو العراقي رمزا لـ”دبلوماسية التوازن”، قوية اقتصاديا، متحفظة سياسيا، لكنها تبدي رغبة واضحة في فتح صفحة جديدة مع تركيا. زيارة أردوغان للكويت لا تعيد صياغة العلاقات الثنائية في إطار الاستثمار فحسب، بل ضمن مفهومي الثقة والاستقرار الإقليمي أيضا.

أما العلاقات بين قطر وتركيا، فلم تعد تُفسَّر ضمن قواعد الدبلوماسية التقليدية، فبين البلدين “روح تحالف” متينة، والاتفاق الدفاعي الموقع عام 2014، وتمركز القوات التركية في الدوحة خلال أزمة الخليج عام 2017، وقاعدة خالد بن الوليد العسكرية، كلها رموز لهذه الشراكة، ولغاية اليوم، تم توقيع 117 اتفاقية بين البلدين، وهذا الرقم ليس مجرد إحصاء على الورق، بل دليل على أن تركيا وقطر لا تتشاركان المصالح فحسب، بل تتقاسمان المصير نفسه، وقد وصفت الصحافة القطرية هذه الزيارة بأنها منعطف استراتيجي في صداقة تمتد 60 عاما، لأن القضية لم تعد اقتصادية فقط، بل تتعلق بـ”بناء المستقبل معا”.

كما أن الصداقة الشخصية بين الرئيس أردوغان وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني تلعب دورا بارزا في ترسيخ هذه العلاقة الخاصة. وكانت سلطنة عُمان المحطة الأخيرة في جولة أردوغان الخليجية. فالثقة المتبادلة التي بدأت بزيارة السلطان هيثم بن طارق إلى تركيا في نوفمبر 2024، تنتقل اليوم إلى مستوى اقتصادي واستراتيجي أوسع. لطالما كانت عُمان وسيطا هادئا، لكنه فعّال في أزمات المنطقة، ولهذا فهي تجد انسجاما طبيعيا مع أسلوب الدبلوماسية التركية. وقد تناولت محادثات مسقط ليس فقط قضايا التجارة، بل أيضا تنسيق جهود الوساطة الدبلوماسية، لأن تركيا، شأنها شأن عُمان، لا تسعى إلى “تأجيج الأزمات”، بل إلى إيجاد الحلول.

إن قراءة هذه الزيارات من زاوية التعاون الاقتصادي وحده ستكون قاصرة. فالمنطقة تشهد اهتزازا جديدا في منظومة الأمن، بسبب السياسات العدوانية الإسرائيلية، فبين غزة ولبنان وسوريا واليمن، يمتد طوق النار، ما يجعل دول الخليج نفسها عرضة للتهديد، وهنا تظهر الاستجابة الدبلوماسية التركية، إذ تتحرك أنقرة سياسيا وعسكريا لبناء هيكل أمني جماعي في المنطقة، وهذه ليست مجرد شعارات، بل استراتيجية لها تطبيقات ميدانية ملموسة.

وكان العنوان غير المعلن، لكن الأهم في الجولة، هو غزة. فاستمرار وقف إطلاق النار، وإعادة الإعمار، وتنسيق المساعدات الإنسانية تشكل أولويات أنقرة، وعندما تتحد القوة المالية الخليجية مع خبرة تركيا في الدبلوماسية الإنسانية، لا ينتج عن ذلك مجرد “آلية للمساعدة”، بل نموذج تضامن جديد قائم على الضمير الإنساني. هذا النموذج يضع في مواجهة دبلوماسية الغرب البراغماتية رؤية خارجية أخلاقية الطابع. تجدر الإشارة إلى أن هذه الجولات كانت مقررة أصلا عام 2024، لكنها تأجلت بسبب الهجوم الإسرائيلي على إيران. واليوم، يُعاد إحياؤها ضمن سلسلة من الاتصالات التي تخطط تركيا لتوسيعها لتشمل السعودية والإمارات أيضا، في إطار شبكة استراتيجية جديدة.

وفي ظل إعادة تشكل النظام الدولي، تمثل هذه الشراكة المتعددة المستويات بين تركيا ودول الخليج أحد الأعمدة الأساسية التي ستحدد مستقبل الشرق الأوسط. فأنقرة لم تعد تنظر إلى الخليج كـ”شريك تجاري بعيد”، بل كـ”جغرافيا أمنية مشتركة”. وفي تلك الجغرافيا، ستكون تركيا، إلى جانب شركائها الخليجيين، أحد أهم الفاعلين في النظام العالمي الجديد.

شاركها.