تعهدت الصين بتعزيز الاكتفاء الذاتي في مجال التكنولوجيا وتنمية السوق المحلية خلال السنوات الخمس المقبلة، في إطار مساعيها لحماية اقتصادها من “الضغوط الخارجية”، وذلك، قبيل اللقاء المرتقب بين الرئيسين الصيني شي جين بينج والأميركي دونالد ترمب، ووسط تصاعد قيود واشنطن على صادرات التكنولوجيا إلى بكين.
وقال بيان للجنة المركزية للحزب الشيوعي صدر بعد الجمعة، بعد اجتماعات استمرت 4 أيام، إن البلاد ستسعى البلاد إلى “زيادة كبيرة”، في قدراتها على الاكتفاء الذاتي في العلوم والتكنولوجيا، كما ستعمل على الحفاظ على حصة الصناعة التحويلية في الاقتصاد عند مستوى “معقول”، في إطار الجهود لبناء نظام صناعي حديث، وفق ما نقلت “بلومبرغ”.
وجاءت الخطوط العريضة الأولية للخطة الخمسية الجديدة عشية جولة جديدة من المحادثات التجارية مع الولايات المتحدة، التي تتهم بكين باستخدام ممارسات “غير عادلة” للهيمنة على قطاعات التصنيع المتقدمة مثل السيارات الكهربائية، وتصدير الفائض الإنتاجي.
وتشير هذه الخطوط إلى استمرار اعتماد الصين على الإنتاج الصناعي والصادرات كمحرك للنمو، وهو نموذج من المرجح أن يبقى مصدر توتر جيوسياسي.
وقال دانكن وريجلي، كبير الاقتصاديين المختصين بالصين في شركة Pantheon Macroeconomics، إن البيان يعكس “تمسكاً مضاعفاً بنموذج يعتمد على التصنيع المتقدم باعتباره العمود الفقري للاقتصاد”، مضيفاً أن الصين ستواصل الاعتماد على الطلب الخارجي لدعم النمو، في حين سيبقى الطلب المحلي ضعيفاً نسبياً.
وأشار محللو جولدمان ساكس إلى أن تصريحات المسؤولين التي عكست عزم الحكومة على تحقيق أهداف النمو للعام بأكمله “تشير إلى احتمال تحقيق نتائج أفضل قليلاً من توقعاتهم السابقة”، التي حددت نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي عند 4.9% هذا العام.
تكثيف التركيز على التكنولوجيا
وقالت “بلومبرغ” إن تركيز الصين المتصاعد على التكنولوجيا يعتمد على الاستراتيجية التي أُطلقت عام 2020، حين أعلنت الصين خطتها الخمسية السابقة عقب الولاية الأولى للرئيس الأميركي دونالد ترمب.
ومنذ ذلك الحين أصبحت هذه الجهود أكثر إلحاحاً مع سعي واشنطن إلى ما تسميه “فك الارتباط الاستراتيجي” مع الصين، مستهدفة قطاعات أوسع تمتد من أشباه الموصلات إلى الصناعات الدوائية، وفرض عقوبات على عدد متزايد من الشركات الصينية.
وقال آرثر كروبر، الشريك المؤسس لشركة Gavekal Dragonomics، إن قادة الصين تبنوا نموذج نمو قائم على العرض “مهووس بالتكنولوجيا”، مضيفاً: “قالوا إن كل مشكلاتنا الإنتاجية، والدخل، والنمو، وغيرها ستحل ببساطة عبر الاستثمار الضخم في تكنولوجيات المستقبل”.
وأضاف: “يشبه هذا إلى حد ما أولئك الذين يعتقدون اليوم أن الذكاء الاصطناعي سيحل جميع المشكلات الاقتصادية بفضل سحر الإنتاجية”.
التركيز على التصنيع رغم العقوبات
وقالت “بلومبرغ”، إن الصين تواصل الدفع نحو التصنيع، رغم ارتفاع الرسوم الجمركية الأميركية واعتراضات الشركاء التجاريين على تدفق الصادرات الصينية.
وشكلت الصادرات الصافية نسبة متزايدة من نمو الاقتصاد في السنوات الأخيرة، بينما تراجع الإنفاق الاستهلاكي.
وخلال مؤتمر صحافي الجمعة، عقب الاجتماع، قال وزير التجارة وانج وينتاو إن على الصين أن تعزز جهودها لتوسيع الواردات، مضيفاً: “يجب أن ننسق بشكل أفضل بين الواردات والصادرات، ونعزز التنمية المتوازنة بين الجانبين”.
توازن حذر بين الأمن والتنمية
وقالت “بلومبرغ” إن لهجة البيان بدت “أكثر اعتدالاً”، في القضايا الأمنية مقارنة بإصدار عام 2020، إذ وردت كلمة “الأمن” 15 مرة فقط مقابل 22 مرة في البيان السابق، كما أعيد استخدام عبارة “التمسك بالتنمية الاقتصادية كمحور رئيسي” بعد غيابها اللافت في النسخة الماضية.
وقال كريستوفر بيدور، نائب مدير أبحاث الصين في Gavekal Dragonomics إن صانعي السياسة في الصين يحاولون تحقيق “توازن صعب بين التنمية والأمن، وتشير بعض العبارات في الوثيقة إلى أن الكفة قد تميل قليلاً نحو التنمية”.
الإنفاق المحلي
ومع تزايد الرياح المعاكسة للتجارة، ستحتاج الأسر الصينية إلى زيادة الإنفاق للمساعدة في امتصاص فائض الطاقة الإنتاجية وكسر موجة الانكماش القياسي.
ودعا اقتصاديون ومسؤولون أجانب، بينهم وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت، بكين إلى استغلال الخطة لتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي وتحفيز الإنفاق الأسري.
لكن البيان تبنّى نبرة حذرة بشأن الإنفاق الحكومي على الرفاه الاجتماعي، مؤكداً أن الحكومة ستعمل ضمن “حدود إمكانياتها” لتحسين البرامج الأساسية، رغم تعهدها بتكثيف الجهود لتحسين مستوى المعيشة.
كما تعهدت الوثيقة بـ”تعزيز التنمية عالية الجودة لقطاع العقارات”، مؤكدة التزام الحكومة باستقرار هذا القطاع الحيوي المرتبط بثروة الأسر الصينية.
وفي إشارة إلى إدراك صانعي القرار أهمية الإنفاق الأسري، وردت كلمة “الاستهلاك” أربع مرات في البيان الجديد، مقابل مرة واحدة فقط في بيان 2020.
وقالت ميشيل لام، كبيرة خبراء الصين في “سوسيتيه جنرال”، إن “ما يهم حقاً هو مدى جدية التنفيذ”، مشيرة إلى رفع معاشات التقاعد كمثال، وأضافت أن النبرة المتحفظة تجاه الإنفاق الاجتماعي “قد تعكس قيوداً مالية”.
آفاق النمو على المدى المتوسط
ويتوقع معظم الاقتصاديين أن يتباطأ النمو في السنوات المقبلة، وكرر البيان هدفاً ضمنياً يشير إلى معدل نمو سنوي متوسط يبلغ نحو 4.5% خلال العقد المقبل، بحسب لاري هو، كبير اقتصاديي الصين في مجموعة ماكواري.
وتشير التقديرات الحكومية السابقة إلى أن الاقتصاد الصيني في طريقه لتحقيق نمو سنوي متوسط قدره 5.5% خلال الفترة الخمسية الحالية المنتهية في 2025.
وتكمن التحديات في ضعف الإنفاق الاستهلاكي المحلي الذي لم يتجاوز نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي، وهو مستوى شبه ثابت منذ عام 2019 قبل جائحة كورونا التي عطلت مسار التحسن.
ويرى هو وزميلته يوشياو زانج أن نموذج النمو الثنائي للصين القائم على التصدير والدعم المحلي، سيستمر إلى أن تتراجع الصادرات مرة أخرى، وعندها ستركز بكين على الطلب الداخلي لتحقيق أهدافها التوسعية.
وقالا إن “توقيت هذا التحول يعتمد بدرجة أقل على الخطة الخمسية التي تُعد في بكين، وأكثر على السياسات التي تُتخذ في واشنطن”، في إشارة إلى تأثير القيود التجارية الأميركية المحتملة على قدرة الصين في التصدير.
واعتبرت “بلومبرغ” أن الاجتماع كشف عن مدى اتساع حملة مكافحة الفساد التي يقودها الرئيس شي جين بينج، إذ حضر الاجتماع 168 فقط من أصل 205 أعضاء في اللجنة المركزية، وهو غياب لافت لم يفسّره البيان الرسمي.
