دعت شهادة في جلسة مشتركة لمجلسي العموم واللوردات في بريطانيا بشأن استراتيجية المملكة المتحدة للأمن القومي فيما يخص الشرق الأوسط، الحكومة البريطانية إلى تحديد أدواتها ومواردها في المنطقة بوضوح، والاستثمار في الدبلوماسية من أجل تحويل ما وصفته بـ”المكاسب العسكرية الإسرائيلية” إلى اتفاقات مستدامة، والمساهمة في صياغة رؤية “إيجابية” لمستقبل الفلسطينيين، محذرة من أن غياب حل دائم في غزة، يعني عودة دائرة العنف.
وقالت الشهادة التي قدمها الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن، ويل تودمان في الجلسة التي تناولت أيضاً، زوايا أخرى من استراتيجية الأمن القومي تتعلق بالردع النووي، والتكنولوجي وكذلك، الصين، إنه في ظل منح استراتيجية الأمن القومي البريطانية منطقة الشرق الأوسط، أولوية ثانوية مقارنة بالمسرح الأطلسي، والموارد المحدودة، فإن المملكة المتحدة تواجه “تهديدات خطيرة” من الشرق الأوسط، عليها التعامل معها.
وحذر تودمان من أن الفشل في تقديم رؤية إيجابية للمستقبل للفلسطينيين، ستكون له تبعات بعيدة المدى، مضيفاً أنه “بدون حل دائم في غزة، سنشهد عودة للعنف، وتطرف أجيال في فلسطين وخارجها، وزيادة خطر موجات جديدة من الهجرة غير النظامية إلى أوروبا”، وفق قوله.
وأوضح تودمان أن الاستراتيجية “بحاجة إلى قدر أكبر من الصراحة بشأن التنازلات الناتجة عن تقليص الأولوية الممنوحة لمنطقة الشرق الأوسط، وأنه ينبغي أن تُعبّر بوضوح أكبر عن الأدوات التي يجب على المملكة المتحدة توجيه مواردها المحدودة نحوها في هذه المنطقة”.
ويل تودمان هو رئيس مكتب قسم الجغرافيا السياسية والسياسة الخارجية وزميل أول في برنامج الشرق الأوسط بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، وقدم شهادته في الجلسة التي عقدها مجلسا العموم واللوردات في 20 أكتوبر، حول استراتيجية الأمن القومي البريطاني، وجاءت مساهمته بشأن التغيرات في بيئة الأمن في الشرق الأوسط، وكيف من المرجح أن تؤثر هذه التغيرات على علاقات المملكة المتحدة في المنطقة.
وشارك في الجلسة روز جوتمولر، نائبة الأمين العام السابقة لحلف الناتو، والتي شغلت منصب وكيل وزارة الخارجية لشؤون مراقبة الأسلحة والأمن الدولي في الخارجية الأميركية سابقاً، والبروفيسورة ماريون ميسمر، باحثة أولى في برنامج الأمن الدولي في تشاتام هاوس؛ وكانت أيضاً المديرة المشاركة السابقة في مركز BASIC.
كما ساهم في الجلسة، أسوك موكيرجي، الممثل الدائم السابق للهند لدى الأمم المتحدة؛ ونائب المفوض العالي السابق للهند في المملكة المتحدة.
وأوصت شهادة تودمان بزيادة الدعم للبنان وسوريا للاستفادة من “فرصة نادرة” لتحقيق الاستقرار في هذه المنطقة، و”تجنب الحاجة إلى تدخلات أكثر تكلفة لاحقاً إذا فشلت هذه التحولات”.
ودعت إلى الإسراع في إتمام اتفاقية التجارة الحرة مع مجلس التعاون الخليجي لتمكين الشركات البريطانية من الاستفادة من الفرص الاستثمارية قبل أن توقع الأسواق الدولية الكبرى اتفاقيات مماثلة.
وحضت لندن على القبول بأن الصين ستستمر في لعب دور رئيسي في الخليج، ورغم ذلك، قال إن التعاون مع الحلفاء الغربيين المتشابهين في التفكير، يمكن بريطانيا والغرب من “تحديد الخطوط الحمراء للتعامل الصيني بهدف الحد من التهديدات التي تُشكلها الصين على أصول واستثمارات المملكة المتحدة في المنطقة”.
ما هي استراتيجية بريطانيا في الشرق الأوسط؟
وتنص استراتيجية الأمن القومي البريطاني بشأن الشرق الأوسط على التزام لندن بالمساهمة في تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة من خلال “حضورنا الدبلوماسي والإنساني والعسكري والاقتصادي، بما في ذلك إجمالي تبادل تجاري يبلغ 60 مليار جنيه إسترليني”.
وتقول إن “المنطقة على قدرٍ كبير من الأهمية بالنسبة لمجموعة واسعة من أولويات المملكة المتحدة، بما في ذلك التجارة والاستثمار والطاقة والعمل الإنساني، فضلاً عن كونها موطناً لمئات الآلاف من المواطنين البريطانيين. ومن ثم، فإن التهديدات التي تطال الأمن الدولي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تؤثر بشكل مباشر في مصالح المملكة المتحدة”.
وتؤكد المملكة المتحدة في استراتيجيتها “التزامها بأمن إسرائيل وسلامتها، وبتعزيز إقامة الدولة الفلسطينية في إطار حل الدولتين، إذ إن كلاً من الإسرائيليين والفلسطينيين يستحق العيش بسلام وازدهار وأمن. كما تعمل لندن على احتواء النفوذ المزعزع للاستقرار لإيران ومنعها من تطوير أسلحة نووية.
حرب غزة والمنطقة
وقال تودمان إن حرب غزة وآثارها الممتدة تهدد مصالح المملكة المتحدة، وأشار إلى أن إسرائيل نفذت ضربات في ما لا يقل عن ست دول في المنطقة، مما أدى إلى تغيير ميزان القوى الإقليمي.
وفيما اعتبر تودمان أن تبعات بعض هذه التغييرات “إيجابية”، فيما يتعلق بالإطاحة ببشار الأسد في سوريا، وإلحاق الضرر ببرنامج إيران النووي، إلا أن الضربة الإسرائيلية على الدوحة “دفعت بعض الحلفاء الرئيسيين للمملكة المتحدة في الخليج إلى اعتبار إسرائيل المتهورة/بلا ضوابط، على أنها التهديد الرئيسي لهم في المنطقة، مما يعرّض جهود التكامل الاقتصادي والسياسي الإقليمي للخطر”، وفق قوله.
وقال تودمان إنه “للمساعدة في استقرار المنطقة الأوسع وتأمين التجارة والاستثمارات البريطانية، ستحتاج المملكة المتحدة إلى دعم الجهود الرامية إلى إعادة وضع الضوابط والمساهمة في المبادرات التي تعزز التكامل الإقليمي”.
وشدد تودمان في هذا الإطار، على ضرورة تقديم رؤية إيجابية للمستقبل للفلسطينيين.
أمن الملاحة
وأشار الباحث إلى أن الأمن البحري يمثل مصدر قلق بالغ للمملكة المتحدة، إذ يُعد الشرق الأوسط أحد الشرايين الرئيسية للتجارة العالمية.
ولفت إلى أن هجمات الحوثيين على السفن التجارية والبحرية في البحر الأحمر وخليج عدن أدت إلى زيادة تكاليف الشحن، وتعطيل سلاسل الإمداد وإمدادات الطاقة، مما يهدد الأمن الاقتصادي وأمن الطاقة للمملكة المتحدة.
إضعاف إيران وخطر العقوبات
وحذر تودمان من أنه على الرغم من “الإضعاف التاريخي” الذي حدث لإيران، فإن طهران “تستخدم بشكل متزايد أدوات إلكترونية للتجسس ونشر المعلومات المضللة والهجوم على البنية التحتية الحيوية”، وفق قوله.
وأشار إلى أنه بعد تفعيل آلية العودة التلقائية للعقوبات من قبل الترويكا الأوروبية، وصلت علاقات المملكة المتحدة مع إيران إلى أدنى مستوياتها.
وحذر من أن الفشل في حل التوترات مع إيران سيزيد من خطر الهجمات غير المتكافئة على المملكة المتحدة.
واعتبر تودمان أن بعض الفاعلين في منطقة الشرق الأوسط “يفاقمون التهديدات التي تواجه المملكة المتحدة في مسارح إقليمية أخرى”.
“خصوم بريطانيا يعملون سوياً”
وقال إن خصوم بريطانيا “باتوا يعملون بشكل أوثق سوياً”، وأشار في هذا الإطار إلى أن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS جمع بيانات لتقييم الروابط الأمنية والاقتصادية والدبلوماسية المتنامية بين ما يسمى بمحور CRINK الذي يضم الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، ويشير اختصار CRINK إلى الأحرف الأولى من أسماء هذه الدول.
وفيما قال تودمان إن البيانات تؤكد أن هذا التجمع “لا يمثل محوراً حقيقاً”، إلا أنه اعتبر أن تعميق العلاقات الثنائية بين هذه الدول، “لا يزال يشكل تحدياً لمصالح المملكة المتحدة”.
وتابع: “كما زودت إيران روسيا بالصواريخ والطائرات المسيّرة لدعم غزوها لأوكرانيا، قدمت الشركات الصينية وقوداً صاروخياً لإيران. ومن المحتمل أن يكون التدخل المباشر للولايات المتحدة في حرب إيران قد ردع الصين وروسيا عن زيادة دعمهما العسكري لطهران بعد الحرب. ومع ذلك، ومع تطور الظروف، قد يختارون تعميق تعاونهم الأمني، مما سيزيد من التهديدات للمملكة المتحدة”.
تقليص الوجود البريطاني بالشرق الأوسط
وقال تودمان إنه على الرغم من “التحديات الأمنية” القادمة من الشرق الأوسط، فإن الحكومة البريطانية تقلص وجودها بالمنطقة.
وأشار تودمان في هذا الصدد إلى خطط البحرية الملكية لإخراج السفينة HMS Lancaster من الخدمة، وهي آخر سفينة حربية بريطانية في الخليج.
وقال إنه “مع عدم وجود سفن حربية لتحل محلها، ستكون قدرة المملكة المتحدة على تعزيز الأمن البحري وحرية الملاحة في الشرق الأوسط أقل”.
واعتبر أن تخفيض المساعدات البريطانية إلى المنطقة بشكل كبير “قوض قدرتها على الاستفادة من التطورات الإيجابية في المنطقة، بما في ذلك تهميش حزب الله في لبنان وتعزيز الانتقال الهش في سوريا”.
وقال إن هذه التخفيضات ستحد من قدرة المملكة المتحدة على “تشكيل مستقبل أكثر إيجابية للفلسطينيين”.
إيران وحرب الـ12 يوماً
وفيما يخص إيران، قال تودمان إنه رغم أن حرب الـ12 يوماً، ألحقت أضراراً بمنشآت إيران النووية، وقتلت العديد من كبار مسؤوليها العسكريين وعلمائها النوويين، وتركتها مكشوفة أمام هجمات إسرائيلية مستقبلية، إلا أن ذلك ربما أثبت لبعض أعضاء النخبة الإيرانية “ضرورة الإسراع نحو امتلاك القدرات النووية، وعززت طموحاتهم النووية”.
واعتبر أن الطريقة الوحيدة لاحتواء طموحات إيران هي “استئناف المفاوضات بشأن مستقبل برنامجها النووي واندماجها في الشرق الأوسط”.
وقال إن هناك فرصة بعد اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس لتعزيز المشاركة الدبلوماسية البريطانية في هذا الملف.
ورجح تودمان أن تدعم دول الخليج الجهود الدبلوماسية البريطانية بشأن إيران، مشيراً إلى ما اعتبره “تغير دراماتيكي في استراتيجيتهم تجاه إيران بشكل كبير خلال العقد الماضي”، وفق ما ذكره في الجلسة.
وأضاف أنه “بشكل عام، تفضل دول الخليج العربي الآن شرق أوسط مستقر على محاولات الهيمنة على خصومها في المنطقة. وبالتالي، على الرغم من أن إيران في حالة ضعف تاريخية، فإن دول الخليج العربي تريد رؤية إيران مندمجة في المنطقة بطريقة سلمية ومستدامة، فهم يرون أن ذلك هو السبيل الوحيد لتجنب الوقوع في تصعيدات مستقبلية”.
تعميق الشراكات البريطانية في الشرق الأوسط
وقال تودمان إنه يمكن للمملكة المتحدة أن تساهم في إنشاء هياكل أمنية متكاملة جديدة في الشرق الأوسط لتعزيز مصالحها الأمنية والاقتصادية بشكل متواز، تماشياً مع استراتيجيتها التي تنص على أن زيادة تعاونها في مجالي التجارة والأمن مع دول الخليج.
وقال إن دول الخليج تسعى إلى أن تصبح مراكز ربط رئيسية للاقتصاد العالمي. وأشار إلى أن التقدم في مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة مع مجلس التعاون الخليجي يعد أمراً إيجابياً في هذا السياق.
وأضاف أن المملكة المتحدة يمكنها أن تستفيد بمرونتها من توقف المحادثات المماثلة بين مجلس التعاون الخليجي وقوى كبرى أخرى مثل الاتحاد الأوروبي والصين والهند، من أجل تأمين اتفاق يُطلق نمواً كبيراً في التجارة.
وقال إن السعودية تعد شريكاً واعداً للمملكة المتحدة، ولكنه قال إن على الحكومة البريطانية أن تكون واقعية في أن تعميق علاقتها مع دول مثل السعودية لن يجعل هذه الدول أكثر ميلاً للوقوف إلى جانب المملكة المتحدة في النزاعات الإقليمية أو العالمية.
وأشار إلى أن السعودية ستستمر في الحفاظ على علاقاتها مع منافسي المملكة المتحدة الاستراتيجيين مثل روسيا والصين وإيران.
وقال إن السعودية ترى في الصين شريكاً استراتيجياً، إذ أنها أكبر مستهلك للنفط السعودي، ومنخرطة بعمق في العديد من القطاعات داخل السعودية، وقامت الصين باستثمارات عميقة ومتعددة الطبقات في سوق الطاقة المتجددة السعودي.
وفيما أشار إلى أن الصين لا تسعى إلى إزاحة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من الشرق الأوسط أو تكرار دورهم الأمني، إلا أن الروابط الاقتصادية العميقة للصين “تُضعف من نفوذ الغرب على السعودية”.
ورغم ذلك، قال إن مكاسب الصين في الخليج لا ينبغي أن تثني المملكة المتحدة عن تقديم عرض شراكة بديل “يُبرز قيمتها الفريدة”.
وقال إن بريطانيا تعد شريكاً أمنياً موثوقاً في الخليج، ولديها وجود عسكري مؤسسي وطويل الأمد، مضيفاً أن برامج التعليم العسكري البريطاني الاحترافية “تحظى بسمعة مرموقة، وتُرسخ علاقات طويلة الأمد”.
وأضاف أنه يمكن للمملكة المتحدة أن تكون شريكاً استثمارياً موثوقاً، بفضل الأطر التنظيمية التي توفر التوقعات والنزاهة المالية، كما أن القوة الناعمة البريطانية لا تزال تحظى بجاذبية مستدامة.
وذكر أنه “إذا تعاونت المملكة المتحدة بفعالية مع حلفائها المتشابهين في التفكير في الغرب، فستتمكن من توضيح الخطوط الحمراء للتعامل الصيني في الخليج والحد من التهديدات التي تُشكلها الصين على أصول واستثمارات المملكة المتحدة في المنطقة”.
