ذكرت دراسة علمية أن العلماء تمكنوا من تحديد مسار عصبي في أدمغة ذكور الجرذان يستهدفه تأثير العقاقير المهلوسة، وهو ما قد يفسر كيف تسهم هذه المواد في تقوية الذاكرة وتخفيف أعراض الأمراض النفسية.

وأوضحت الدراسة التي أجراها باحثون من جامعة كنتاكي، ونشرتها مجلة eNeuro التابعة لجمعية علوم الأعصاب، أن النتائج تقدم فهماً جديداً للآليات العصبية التي تجعل من العقاقير المهلوسة أدوات واعدة في علاج الاضطرابات النفسية، رغم الجدل الواسع الذي يحيط بها.

وأجرى الباحثون تجارب على ذكور الجرذان لدراسة كيفية تأثير العقاقير المهلوسة على منطقة تُعرف باسم “الكلوستروم” في الدماغ، وهي منطقة غنية بالمستقبلات العصبية التي تتفاعل بقوة مع تلك العقاقير. وتهدف الدراسة إلى فهم العلاقة بين تنشيط هذه المنطقة وتأثير المهلوسات في تحسين الوظائف الإدراكية، أو الحد من الاضطرابات العقلية.

ووجد الباحثون أن تنشيط الخلايا العصبية في منطقة الكلوستروم -طبقة من المادة الرمادية في الدماغ- حين تكون تحت تأثير العقاقير المهلوسة، يعزز الروابط العصبية الموجهة إلى منطقة أخرى تُعرف بـ”القشرة الحزامية الأمامية”، وهي منطقة مرتبطة بعدد من الأمراض النفسية مثل الاكتئاب والفصام واضطرابات القلق.

وبيّنت النتائج أن هذا التعزيز في الاتصال العصبي لا يحدث عندما تنشط الخلايا نفسها في الظروف الطبيعية من دون وجود العقار المهلوس.

التجارب الحسية

أكدت الدراسة أن هذا التفاعل العصبي قد يكون المفتاح لفهم السبب وراء التجارب الحسية القوية والمكثفة التي تصاحب ما يُعرف بـ”الرحلات الذهنية” خلال تناول المهلوسات.

ورأى الباحثون أن هذه التجارب القوية لا تقتصر على كونها ظاهرة مؤقتة، بل ربما تكون عاملاً محورياً في فاعلية العلاج النفسي باستخدام المهلوسات.

كما رأوا أن ما يجعل التجربة المهلوسة ناجحة في علاج بعض الاضطرابات النفسية، هي تلك اللحظات شديدة الرسوخ في الذاكرة التي تحدثها، وبحسب الدراسة فإن إحدى الأفكار المطروحة هي أن التجربة الغامرة والمليئة بالصور الذهنية والمشاعر العميقة، والتي يعيشها الأفراد أثناء تأثير المهلوسات، قد تكون ضرورية لتحقيق الفائدة العلاجية.

وأضافت الدراسة أن الخلايا العصبية يعتقد أنها تكون الذكريات من خلال تقوية اتصالاتها مع خلايا أخرى، ومن هنا يحتمل أن يكون هذا المسار العصبي المكتشف هو الآلية التي تعمل بها المهلوسات لتكثيف الذاكرة.

وتظهر النتائج أن العقاقير المهلوسة لا تقتصر على إثارة الهلوسات أو التجارب البصرية والوجدانية الغريبة، بل إنها قد تعمل بعمق على تعديل طريقة تواصل الخلايا العصبية في الدماغ.

ورأى الباحثون كذلك أن هذه الخاصية قد تفسر قدرة هذه المواد على مساعدة بعض المرضى في إعادة تنظيم أنماط التفكير والشعور لديهم، وهو ما يُعد هدفاً محورياً في علاج الاضطرابات النفسية المزمنة.

وعمل الفريق البحثي على تتبع النشاط الكهربائي للخلايا العصبية في منطقة الكلوستروم باستخدام تقنيات متقدمة تسمح بقياس التغيرات في شدة الإشارات العصبية أثناء التعرض للعقاقير.

ووجد العلماء أيضاً أن العقاقير المهلوسة حفزت نمطاً مميزاً من النشاط العصبي يتميز بتزايد قوة الاتصالات بين خلايا الكلوستروم والخلايا المسؤولة عن معالجة الانفعالات واتخاذ القرار في القشرة الحزامية الأمامية، مشيرين إلى أن هذا النشاط غير المعتاد ربما يمثّل البنية العصبية التي تقف وراء تلك التجارب الشعورية المكثفة المصاحبة للمهلوسات.

وتوصّل الباحثون أيضاً إلى أن هذا التأثير العصبي لا يحدث بشكل عشوائي، بل يعتمد على نوعية العقار المهلوس والجرعة المستخدمة، ما يشير إلى أن هناك توازناً دقيقاً بين التأثير العلاجي والجانب التجريبي من التجربة المهلوسة، فحين تتجاوز الجرعة مستوى معيناً، قد تتحول التجربة إلى اضطراب إدراكي أو خوف حاد، بينما تؤدي الجرعات المضبوطة إلى حالة من الانفتاح الذهني والاتصال العميق بالذكريات والعواطف.

وأوضح الباحثون أن النتائج الحالية لا تزال محدودة في نطاق التجارب الحيوانية، لكنها تفتح الباب أمام فهم أكثر دقة للكيفية التي يمكن من خلالها للعقاقير المهلوسة أن تعيد تشكيل الشبكات العصبية في الدماغ البشري، وقالوا إن الخطوة التالية في البحث ستتمثل في دراسة ما إذا كان هذا المسار العصبي نفسه يعمل بالطريقة ذاتها في أدمغة البشر، وما إذا كان مرتبطاً مباشرة بالتحسن السريري في حالات مثل الاكتئاب المقاوم للعلاج أو اضطراب ما بعد الصدمة.

ولفتت الدراسة إلى أن منطقة الكلوستروم، التي كانت تُعتبر سابقاً لغزاً من ألغاز الدماغ، تلعب دوراً محورياً في الربط بين التجربة الواعية والتغيرات العصبية العميقة التي تصاحب العلاج بالمهلوسات.

وقد ظل العلماء لعقود يحاولون تحديد الوظيفة الدقيقة لهذه المنطقة، إلى أن كشفت الأبحاث الحديثة عن ارتباطها بالإدراك الذاتي والوعي والمشاعر المعقدة، وهو ما يجعلها مرشحاً مثالياً لفهم تأثير المهلوسات.

استخدام المهلوسات

كما يعتقد الباحثون أن اكتشاف هذا المسار العصبي قد يمهد الطريق لتطوير أدوية جديدة تحاكي التأثيرات الإيجابية للمهلوسات دون التسبب في آثارها الجانبية أو حالات الهلوسة. فإذا تمكّن العلماء من استهداف الخلايا العصبية في الكلوستروم بطرق أكثر دقة، فقد يصبح بالإمكان تحفيز عملية تقوية الذاكرة أو تخفيف الأعراض النفسية بطريقة آمنة وغير مثيرة للجدل.

وأكدت النتائج أن فكرة استخدام المهلوسات في الطب النفسي لم تعد مثيرة للريبة كما كانت في الماضي، إذ بدأت الدراسات العلمية تكشف عن أسس بيولوجية واضحة لتأثيرها.

وأوضحت أن التجربة المهلوسة ليست مجرد حالة من الهروب من الواقع، بل عملية عصبية معقدة تعيد تشكيل شبكات التفكير والانفعال داخل الدماغ، مما يساعد المرضى على التعامل مع الصدمات النفسية وإعادة تنظيم مشاعرهم.

الباحثون أكدوا كذلك على ضرورة التعامل مع هذه النتائج بحذر علمي، إذ أن الطريق ما زال طويلاً قبل اعتماد المهلوسات بشكل رسمي كعلاج آمن وفعال، لكنهم أشاروا إلى أن ما توصلوا إليه يضع لبنة أساسية في فهم العلاقة بين التجربة الواعية والنشاط العصبي، وهو مجال لا يزال غير مكتشف بالكامل.

وشدد الباحثون على أن البحث المستقبلي يجب أن يركز على دراسة كيف تتفاعل المهلوسات مع مناطق أخرى في الدماغ، مثل الحصين المسؤول عن الذاكرة طويلة الأمد، واللوزة الدماغية المرتبطة بالعواطف، فهذه التفاعلات قد تفسر سبب قدرة المهلوسات على تحفيز التفكير العميق والشعور بالتحرر النفسي الذي يبلغ عنه العديد من المرضى بعد جلسات العلاج بها.

وتبرز الدراسة أهمية الجمع بين علم الأعصاب التجريبي والطب النفسي الإكلينيكي لفهم أفضل لظواهر طالما اعتبرت غامضة، فبينما تستخدم المهلوسات منذ قرون في طقوس دينية وشعائر روحية، فإن البحث العلمي الحديث بدأ الآن فقط يوضح كيف يمكن لتلك التجارب أن تكون لها أسس عصبية محددة تسهم في الشفاء.

ونبّه الباحثون إلى أن التجارب التي أجريت على الجرذان ليست سوى بداية، إذ تمثّل نموذجاً أولياً يمكن من خلاله اختبار فرضيات حول المرونة العصبية وتأثير المهلوسات على تكوين الذكريات.

ويأمل الباحثون أن تسهم هذه النتائج في بناء فهم أعمق للعلاقة بين الذاكرة، والوعي، والشفاء النفسي.

وأكدت الدراسة أن الكشف عن هذا المسار العصبي بين الكلوستروم والقشرة الحزامية الأمامية يمثّل خطوة مهمة نحو فك شفرة كيفية عمل المهلوسات داخل الدماغ، وتدعو إلى مزيد من البحث لفهم كيف يمكن استغلال هذا الاكتشاف في تطوير علاجات جديدة تحاكي الفوائد العلاجية للمهلوسات من دون آثارها الجانبية المثيرة للجدل.

شاركها.