اخبار تركيا
تناول تقرير للكاتب والسياسي التركي ياسين أقطاي، أزمة الشرعية في النظام العالمي المعاصر من خلال تحليلٍ فكري وسياسي لمظاهرها في عدد من السياقات، بدءًا من صمود نظام الأسد في سوريا وصولًا إلى الإبادة في غزة.
ويستعرض أقطاي الكيفية التي ما تزال بها القوى الكبرى، رغم فقدانها الأخلاقي والقانوني، تحتفظ بشرعيتها بفضل القوة لا العدالة. كما يسلّط الضوء على محكمة غزة في إسطنبول بوصفها تعبيرًا عن محاكمة الضمير الإنساني للنظام الدولي الذي تخلّى عن مسؤولياته.
وفيما يلي نص المقال الذي نشرته صحيفة يني شفق:
سعت الجلسة الافتتاحية لمنتدى غازي عنتاب الذي عُقد تحت عنوان “إلى أين يتجه العالم الإسلامي؟ إلى الإجابة على سؤال “هل فقد النظام العالمي شرعيته؟” فبعد حرب الإبادة في غزة أصبحت شرعية النظام العالمي أكثر عرضة للنقاش. غير أن حصر ما نعيشه وأزمة النظام العالمي في سياق الشرعية فحسب قد لا يكون دقيقا. فالشرعية لا تتعلق باستخدام القوة القسرية، بل بمدى قبولها واعتراف الآخرين بها.
“هل فقد النظام العالمي شرعيته؟”
في الواقع، بينما نناقش قضية الشرعية بهذه الطريقة، بل ونعلن بسهولة نهاية شرعية النظام العالمي، فإن الوقائع التي نعيشها تكشف لنا أن القوى التي يُقال إن شرعيتها قد استُنزفت تمامًا ما تزال تحظى باحترام واسع. فهل نغفل شيئاً ما؟ أم أننا نبحث عن الشرعية في المكان الخطأ أو ندّعيها حيث لا ينبغي؟
قد يكون من الأنسب أن نسلك نهجاً أكثر عملية في تأمل طبيعة الشرعية وأسسها وتقلباتها من خلال عدة مشاهد. المشهد الأول يتمثل في المسار الذي سلكه نظام الأسد (الأب والابن) في سوريا، مع حكمهما الإجرامي الذي استمر ستين عاماً وأذاق الشعب خلالها الويلات.
فقد توفرت جميع الشروط التي تكفي لفقدان أي دولة شرعيتها داخليًا وخارجيًا: فالنظام الذي قتل أكثر من مليون من مواطنيه، وهجّر نحو خمسة عشر مليونًا آخرين، وحوّل سجونه إلى مراكز للتعذيب والمعاملة اللاإنسانية، وفي الوقت ذاته كان عصابة مافيا تصدر سمّ المخدرات الذي ينتجه محليًا إلى العالم أجمع. ورغم ذلك، ظل الأسد يتمتع بشرعية التحدث باسم سوريا في الأمم المتحدة حتى أيامه الأخيرة. بل إن صمود الأسد في الحكم طوال أربعة عشر عامًا، رغم كونه منبوذًا عالميًا في كل مرحلة، دفع الجميع — من جامعة الدول العربية إلى منظمة التعاون الإسلامي، وعدد من الدول الأوروبية — إلى التسابق لإعادة العلاقات معه.
لقد استعاد الأسد شرعيته ليس بتغيير مواقفه أو ممارساته المنافية للأخلاق والقانون، بل عبر إظهار قدرته على البقاء وعدم السقوط فحسب. لم يكن أحد يتوقع سقوطه في 8 ديسمبر. وعندما قُدر لهذا السقوط أن يحدث انكشفت فجأةً كل الأبعاد والوجوه اللاشرعية لهذا النظام التي سجلها التاريخ. وفي المقابل، تحول أحمد الشرع زعيم هيئة تحرير الشام، الذي كان يخوض كفاحًا شعبيًا ضد مجرم الحرب الأسد، من زعيم تنظيم مدرج على قائمة “الإرهاب” من قِبل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، إلى رئيس بلد في غضون أيام قليلة. فما الذي منح الشرعية للأسد أو سلبه إياها لاحقاً؟ وما الذي منح أحمد الشرع، الشرعية التي كان يستحقها ويفتقر إليها؟
المشهد الثاني من أفغانستان: فطالبان كانت تُعدّ منظمة إرهابية لا تمتلك أي شرعية، إذ كانت تحارب الولايات المتحدة التي تُعتبر القوة الأكثر شرعية في العالم ومصدر منح الشرعية وحلفاءها كافة. ولكن بعد أن خاضت حربًا استمرت عشرين عامًا ضد القوى “الشرعية” بأساليب وُصفت بأنها غير الشرعية، نجحت في طرد الولايات المتحدة وحلفائها من البلاد، وتم الاعتراف بها كقوة فعلية على الأرض. واليوم، رغم عدم اعترافهم الرسمي بها بعد، فإن الجميع يعلم أن القوة الشرعية الوحيدة في أفغانستان الآن هي طالبان.
أما المشهد الثالث، فيتعلق بكيفية إنهاء تركيا لاحتلال قره باغ الذي ظلّ معلقاً ثلاثين عامًا من قِبل المؤسسات الشرعية للنظام العالمي (الأمم المتحدة ومجموعة مينسك)، عبر دعمها لأذربيجان. وكذلك تدخل تركيا في ليبيا لإنهاء حالة الفوضى المستمرة هناك، وغير ذلك.
وإلى جانب كل ذلك، لدينا مشهد أخير يتمثل في وضع القادة الأوروبيين (بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، إلخ) والقادة العرب الذين كانوا يتجمعون حول ترامب في شرم الشيخ. فعند النظر إلى هذه الصور إلى أي مدى يمكننا القول إن الهيمنة الأمريكية، التي تمثلها “الترامبية” اليوم ـ بكل ما فيها من وقاحة وابتذال ـ قد فقدت شرعيتها؟ لا شك أن هذا الموضوع يتطلب مناقشات وتحليلات أكثر تعقيداً بكثير.
محكمة غزة
إنّ اعتراف الولايات المتحدة بإسرائيل رغم إدانتها من قبل المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، لا يزال واقعًا ملموسًا. ولو كان النظام العالمي يلتزم بادعاءاته، لما وُجدت دولة اسمها إسرائيل اليوم، وربما فُرضت عليها عقوبة الإبادة الجماعية نفسها التي فُرضت على ألمانيا في الهولوكوست، بل وربما أكثر.
إن النظام العالمي، الذي فقد التزامه العقلاني والقانوني والأخلاقي، لا يزال يحتفظ بشرعيته بحكم قوته الفعلية. لكن هذا لا يجب أن يمنعنا من محاكمته أمام محكمة القانون والضمير والعدالة. وإنَّ عقد هذه المحاكمة في إسطنبول يتناسب تماماً مع طبيعة القضية وتاريخها وروحها.
وانطلاقًا من هذا البعد الرمزي والروحي، نظّم عدد من القانونيين الدوليين ومنظمات حقوق الإنسان ومنصّات الإعلام المستقلة محكمة “غزة” في إسطنبول، كمبادرةٍ عالمية مستقلة للتحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها “إسرائيل” القاتلة في قطاع غزّة. وقد قدمت المحكمة، التي عُقدت لفترة طويلة في عدة بلدان، تقارير الأدلة المتعلقة بهذه الجرائم ضمن جلستها الختامية المنعقدة في جامعة إسطنبول.
وقد وثّقت “محكمة غزّة” في إسطنبول، على مدى أربعة أيام، ما لا يقل عن 250 جريمة إبادة ارتكبتها إسرائيل في القطاع، مع عرض الأدلة المفصّلة، والاستماع إلى الشهادات المباشرة من شهود العيان، وأخذ آراء الخبراء والمختصين. وهكذا كُشف النقاب بالتفصيل الكامل عن جميع جرائم إسرائيل ضد الإنسانية.
وأكد ممثلو منصة “عين الشاهد”، التي أسسها صحفيون بهدف توثيق شهادات سكان مناطق النزاع رقميًا، أهمية حماية هذه السجلات، وسلّموا الوثائق التي جمعوها إلى المحكمة.
وشدّد ممثل منظمة حقوق الإنسان “مظلوم در”، على أهمية توثيق ما حدث من خلال الشهادات الحيّة، قائلًا: “لقد شاهد الجميع ما جرى عبر شاشات التلفاز، ولكن أنتم تسجلون للتاريخ فحسب، بينما نحن شهود عيان”.
وقدَّم “الاتحاد الدولي للحقوقيين” 13 تقريرا مفصلا جُمعت على مدى 700 يوم إلى محكمة غزة بشأن الجرائم الإسرائيلية المرتكبة ضد المدنيين والصحفيين والمؤسسات في غزة.
إسرائيل.. مافيا الاتجار بالأعضاء البشرية
ومن أكثر القضايا الصادمة التي عُرضت في المحكمة مع الأدلة والشهادات، هي سرقة جميع الأعضاء الداخلية من الجثامين التي سلمتها إسرائيل لفلسطينيين اعتقلتهم أحياءً. ويعلم الجميع أن إسرائيل ليست دولة، لكن يجب فضح هذا الجانب من ممارساتها الإجرامية كعصابة مافيا تتاجر بالأعضاء البشرية
أما القضية الثانية فتتعلق بجعل إسرائيل الأراضي الزراعية في قطاع غزّة غير صالحة للزراعة، وردم آبار المياه بالتراب، ما أدّى إلى تجويع السكان وتعطيشهم بشكلٍ ممنهج، بهدف تعميق جريمة الإبادة على المدى البعيد. وهذان مجرد مثالين من بين 250 نوعًا من الجرائم التي تم توثيقها بالأدلة وتسجيلها رسميًا.
وقد عقدت “محكمة غزة”، التي تأسست كمبادرة مستقلة ومحكمة للضمير والإنسانية، أولى جلساتها الدولية في العاصمة البريطانية لندن، بعد عملية إعداد طويلة.
ويرأسها ريتشارد فولك، المقرر السابق للأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان في فلسطين، وتضم في هيئتها القيادية شخصيات بارزة أخرى مثل المقررين الأمميين السابقين مايكل لينك وهلال إلفر، إلى جانب كل من راجي الصوراني، وسوزان أكرم، وأحمد كوروغلو، وديانا بوتّو، وجميل آيدين، وبيني غرين.
كما تضم المحكمة بين أعضائها عددًا من الشخصيات المعروفة من مختلف أنحاء العالم، من بينهم:
إيلان بابيه، وجيف هالبر، وأسامة مقدسي، وأيهان جيتيل، وكورنيل ويست، وآفي شلايم، وناعومي كلاين، وأصلي بالي، ومحمود ممداني، وكريغ مخيبر، وحاتم بازيان، ومحمد كارلي، وسامي العريان، وفرانك بارات، وحسن جبارين، وويلي موتونغا، وفيكتور قطان، وفيكتوريا بريتين.
وبينما كانت جلسات “محكمة غزّة” مستمرة، أُقيمت على هامشها فعاليات ثقافية وفكرية متنوعة، شملت حوارات فكرية، ومحاضرات، وعروضًا موسيقية، ومعارض فنية. لقد كان تنظيمًا رائعًا، وفعالية ذكية ذات مغزى كبير، ويستحق كل من ساهم فيها التقدير والشكر الجزيل.
