اخبار تركيا
استعرض مقال للكاتب والباحثة في الشأن التركي صالحة علام، قراءة تحليلية في قرار تنظيم حزب العمال الكردستاني المحظور بسحب عناصره من داخل الأراضي التركية إلى شمال العراق، وردّ الفعل التركي الرسمي والشعبي تجاه هذه الخطوة.
وترى الكاتبة في مقالها بموقع الجزيرة مباشر أن الانسحاب يكتسب طابعًا رمزيًا أكثر من كونه تحولًا حقيقيًا، إذ لم يشمل سوى عدد محدود من المقاتلين، بينما لا يزال الحزب يحتفظ بأسلحته الثقيلة ومعسكراته داخل الأراضي العراقية.
كما تناقش تعثر اللجنة البرلمانية التركية المكلفة بملف السلام، وفقدان الثقة بين أنقرة والحزب، إضافةً إلى التداعيات الإقليمية للانسحاب على العلاقات التركية العراقية وعلى ميزان القوى في شمال العراق وسوريا.
وفيما يلي نص المقال:
ترحيب الحكومة التركية بقرار حزب العمال الكردستاني الخاص بسحب قواتهجميعهامن داخل الأراضي التركية إلى شمال العراق أثار الدهشة والعديد من علامات الاستفهام، فإلى جانب المكان الذي تم اختياره من قبل قيادات الحزب للتمركز فيه خارج إطار الدولة التركية، ونقصد به كردستان العراق تحديدا، الملاصق للحدود التركية، الذي سبق أن تسبب في حدوث خلافات عميقة بين أنقرة من جهة، وكل من حكومتي بغداد وأربيل من الجهة الأخرى، فإن عملية الانسحاب المشار إليها هي في حد ذاتها مجرد عملية رمزية، حيث إن العدد الفعلي لعناصر الحزب التي تركت مواقعها بالمناطق الحدودية التركية وتوجهت إلى داخل إقليم كردستان بشمال العراق لم يتعدَ سوى بضع عشرات من حجم العناصر المسلحة المتمركزة في المناطق الجبلية على طول خط الحدود التركية الملاصقة لكل من العراق وسوريا، ورهن سحب باقي قواته، التي تقدرها الاستخبارات التركية بالآلاف، بمدى التزام تركيا بعملية السلام.
عملية رمزية لا تختلف عما سبق أن قام به الحزب في الحادي عشر من يوليو/تموز الماضي، حينما قامت مجموعة مكونة من 30 عنصرا من عناصره بإحراق أسلحتهم الخفيفة في احتفالية رمزية أُقيمت في مدينة السليمانية بشمال العراق، في خطوة هدفت إلى التأكيد على التزام الحزب بنداء السلام والمجتمع الديمقراطي الذي وجهه زعيمه عبد الله أوجلان في 27 فبراير/شباط الماضي، مطالبا بحل الحزب وتسليم سلاحه وإنهاء مرحلة الكفاح المسلح تمهيدا للاندماج في عملية سياسية لتحقيق المطالب الكردية ضمن إطار قانوني ديمقراطي.
وهي الخطوة التي لم تتبعها أي خطوات أخرى في السياق نفسه، إذ لا يزال الحزب يحتفظ بأسلحته الثقيلة وبمعسكراته التدريبية وعناصره المسلحة، ولم يتم الإعلان حتى الآن عن تفكيك هيكله الإداري أو العسكري أو تحديد موعد لحدوث ذلك، وهي المطالب التي سبق أن أعلنت أنقرة تمسكها بتنفيذها قبل بحث مسألتي إصدار قرارات العفو عن العناصر التي لم تشارك في عمليات إرهابية ضد الدولة أو إسالة دماء مواطنيها، والبدء في وضع التغييرات القانونية والدستورية التي تكفل اندماج عناصر الحزب وقياداته في الحياة المدنية، وتؤمّن لهم الحق في ممارسة العمل السياسي موضع التنفيذ.
وهو ما يبدو أنه السبب المباشر وراء مراوحة اللجنة البرلمانية التي تم تشكيلها من الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان التركي في أغسطس/آب الماضي مكانها، إذ لم تعلن هي الأخرى عن توصلها إلى أية قرارات ترتبط بالمهمة المكلفة بها، والخاصة بتحديد آليات حل الحزب ونزع سلاحه، وحصر المواد الدستورية والقانونية المقترح تعديلها بما يعيد لعناصره الحق في المواطنة، ويؤمن لهم عفوا عاما، تمهيدا لإعادة تأهيلهم للعودة إلى الحياة المدنية ومنحهم الحق في ممارسة العمل السياسي بما في ذلك تشكيل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والجمعيات الحقوقية، بسبب الخلافات العميقة بين أعضائها على الرغم من عقدها نحو 15 جلسة.
يدرك أعضاء هذه اللجنة، على مختلف توجهاتهم الأيديولوجية وانتماءاتهم الحزبية، حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم ومدى الصعوبة التي تكتنف مسألة إقناع الرأي العام التركي بدعم عملية سلام مع حزب العمال الكردستاني التي توصف خطواته حتى الآن بالرمزية، والقبول بإدماج عناصره في المجتمع، وهي التي حملت السلاح ضد الدولة واستهدفت جيشها ومدنييها على مدى 47 عامً، وتسببت في فقدان الكثير من الأسر لأبنائها وذويها، لذا ينأى الجميع بنفسه وبحزبه عن تحمل أي لوم يمكن أن يتعرضوا له من جانب مواطنيهم، مما قد يفقدهم مكانتهم ويحد من شعبيتهم، حتى وإن ضمنوا لأسر الضحايا حقوقهم المادية والمعنوية.
أما على صعيد انتقال عناصر الحزب من تركيا إلى إقليم كردستان في شمال العراق، والإعلان عن أن هذه الخطوة اتخذتها قيادات الحزب دون توجيه من أحد “منعا لاحتمالية حدوث صدامات، ورغبة في القضاء على أي احتمال لوقوع أحداث غير مرغوب فيها”، وفق بيان الحزب، الذي دعا فيه السلطات التركية إلى البدء فورا في اتخاذ الخطوات القانونية اللازمة لدفع عملية السلام والمجتمع الديمقراطي، فإن هذا المبرر في حد ذاته يشير إلى وجود خلافات عميقة، سواء داخل أجنحة الحزب من جهة، أو بين قيادات العمال الكردستاني والجانب التركي من الجهة الأخرى، أدت إلى حالة من عدم الثقة بين مختلف الأطراف، استدعت نقل بعض عناصره إلى كردستان العراق خشية إمكانية حدوث مواجهات من شأنها إطالة أمد المفاوضات بينهما سنوات، ما من شأنه الزج بدول الجوار التركي في خضم توترات سياسية وعسكرية على خلفية هذا الصراع.
وهو ما سبق أن أشار إليه نيجيرفان بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، في تصريحاته، واصفا مواجهة عناصر حزب العمال مع تركيا بالحرب التي لا طائل منها، مطالبا إياهم باحترام سيادة العراق والإقليم وسلطته الشرعية، والالتزام بقوانينه، وألا يكونوا سببا في ما سماه “جرّ الجيوش، وخلق المشاكل العسكرية، وإلحاق الخسائر، والإضرار بمصالح الشعب الكردي”.
ما يشكك في الأسس التي ارتكز عليها ترحيب النخبة السياسية التركية بهذه الخطوة الرمزية من جانب العمال الكردستاني، عدا كونها تصب في صالح مبادرة “تركيا بلا إرهاب”، كما أشار المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم، الحزب الذي انتقد دوما الحكومة العراقية لسماحها بوجود عناصر من العمال الكردستاني لديها، وهدد مرارا وتكرارا بالتوغل داخل الأراضي العراقية لملاحقتهم، أن هذه النخبة تدرك تماما حجم تمدد العمال الكردستاني داخل شمال العراق، وسيطرته على أكثر من 700 قرية داخل الإقليم، في جبال قنديل وسنجار، وأن انسحاب عناصره من الأراضي التركية وتمركزهم في شمال العراق سيزيد من قوته وفرض سيطرته على الساحة هناك، بعد تحوله من مجرد قوى عابرة إلى أحد موازين القوى على الأراضي العراقية، التي تصنفه حكومتها منذ عام 2024 حزبا محظورا على أراضيها، بعد أن أصبح وجوده خطرا يهدد التجربة الكردية العراقية ومصالح الأكراد عموما، بل ويضر بالعلاقات الدبلوماسية بين أربيل وأنقرة، وبين الأخيرة والعراق، وبين أربيل وبغداد حول الأمن والسيادة، إلى جانب ما يمثله ذلك من تهديد مباشر للأمن القومي التركي.
فهل تسعى أنقرة من وراء هذا الموقف إلى توظيف سياسة الرمزية التي يتبعها حزب العمال الكردستاني في تعامله مع مبادرة السلام والمجتمع الديمقراطي التي أطلقها أوجلان لخلق بيئة مناسبة تمكنها من الإقدام على شن حملة عسكرية موسعة في كلّ من الشمالين السوري والعراقي دون التعرض لأية انتقادات إقليمية أو دولية، وضرب عصفورين بحجر واحد، والقضاء تماما على ما تراه تهديدا مباشرا لأمنها القومي، سواء من جانب عناصر العمال الكردستاني في العراق، أو من جانب قوات سوريا الديمقراطية التي لا تزال تماطل في تنفيذ اتفاقها مع الحكومة السورية، وتعرقل عملية اندماج قواتها ضمن الجيش السوري الجديد، وحصر السلاح بيد الدولة، وتسعى جاهدة من أجل تحقيق حلم الفيدرالية وفرض نظام حكم لا مركزي على دمشق؟
 
									 
					