ليس غريباً أن تكون ابناً للشمس، وأن تكون الصحراء خيمتك، إن كنت من سلالة البدو في صحراء النقب المحاذية للحدود الإسرائيلية المصرية. هذا الفضاء اللامتناهي من التلال الرملية، لا ينتهي من تشكيل جغرافية المنطقة، في تواطؤ مستمر مع الرياح.
هذه الصحراء، هي الخلفية الرئيسية التي لا ننفك نطالعها بمزيج من الرهبة، ونحن نتابع تراجيديا أولى عن بحث تحقيقي مُضنٍ، تتولاه صحفية فلسطينية من رام الله، في مناطق الحظر والاعتقال الإسرائيلية.
تحقيق يتناول مأساة اغتصاب فتاة من البدو ثم قتلها، ذات يوم من شهر مايو الحارّ، على يد جنود إسرائيليين سنة 1949. غابت تلك القصة بين التلال المقفرة لمدة سبعين عاماً، وعادت قبل أن يتناولها مقال صحفي في جريدة “هآرتس” الإسرائيلية.
ذلك هو عصب الرواية الجريئة. على الرغم من قسوة لغتها المليئة بالغبار والرمال، والعرق المتصبّب من الأجساد، والعامر بمفردات مستقاة من العنف والمقاومة، والتعلق بالحياة أيضاً.
رواية “تفصيل ثانوي” صدرت ترجمتها إلى الفرنسية عام 2024، ضمن منشورات “أكت سيد”. عدنية شبلي كاتبتها، تعيش بين القدس وبرلين، وهي أستاذة جامعية في جامعتي بيرزيت ونوتينغهام.
كان الحادث المروّع سيكون عابراً، عندما قرأت الصحفية المقال، لولا أن تاريخ الجريمة “يصادف قبل ربع قرن من يوم مولدها. وهو تفصيل ثانوي كما قالت، إن “الاغتصاب لا يجري في الحروب فقط، إنما كذلك في الحياة اليومية”.
هذا الارتباط بين التاريخين مجرد صدفة، لكن حالة الطقس يومها، سيجعلها تتبنّى حكاية الفتاة بالكامل. تقول: “صحاني ذات فجر نباح كلب، يسابقه عويل ريح شديدة تعصف بنافذة بيتي، محدثة فوضى في الأشجار والأعشاب. حينها شاهدت الطبيعة تستسلم لقوة الريح، فرأيت فيها انعكاساً لهشاشتي الداخلية”.
لقد رسم صوت الريح والنباح الهائج صوراً مأساوية في ذهنها، فتجسدت أمام ناظريها، عاكسة ما ورد في المقال، أي المشاهد الفظيعة لجنودٍ يغتصبون فتاة ثم يقتلونها. وعندها تأكدت أنه “حقا لا يوجد هناك ما هو أكثر أهمية من هذا التفصيل الصغير، من أجل الوصول إلى الحقيقة الكاملة التي لا تكشف عنها تلك المقالة بإغفالها رواية الفتاة”.
تحت الشمس
رواية الحادث من وجهة نظر الفتاة مستحيلة، ولا أحد بإمكانه أن يقول أي شيء بخصوصها. فالاستيطان تمّ بشكل كامل، وكل الأسماء تغيّرت، وآثار الحدث امحت. لكن براعة الكاتبة عدنية شبلي لعبت دوراً حاسماً فيها.
كتبت شبلي أكثر من ثلاثين صفحة، هي الجزء الأول من الكتاب، تسرد في ثناياه تفاصيل تستعيد الجريمة بدقّة باردة، أشبه بمبضع جرّاح.
تتقاطع في هذا الجزء شخصيتان أساسيتان. ضابط إسرائيلي من دون اسم، كتوم وبارد الإحساس، يُصاب بحمى على أثر لسعة عنكبوت، فيتعفّن جرحه، ما يكثف من هوسه الأصلي بالغسل والنظافة، كما يرد وصفه بعناية كبيرة. ثم الفتاة الضحية وهي من دون اسم، تمّ اعتقالها بعد هجوم مسلح دامٍ قاده الضابط على رعاة لقطيع الجمال.
الخيط الرابط بينهما هو الرائحة التي تنبعث منها، لم يستحملها، فأمر بغسلها بالصابون، وقتل القمل في شعرها بالوقود، حتى لا تُعدي الآخرين، وهو ما لم يمنع من العبث بها. ثم ما لبث أن اتخذ قراره بما يشبه الوأد: “راحت عملية الحفر تجري بسكون يكاد يكون مطبقاً، خلا حفيف المجراف، وهو يحمل الرمل ويرمي به، وأصوات متفرقة كان مصدرها الجنود في المعسكر [..]
ثم علا صوت صراخ حاد. كانت الفتاة تولول، وهي تركض فارّة. ثم سقطت فوق الرمل قبل أن يُسمع في الفضاء صوت الطلقة التي استقرّت في الجانب الأيمن من رأسها”.
حواجز وتفتيش
لم تتوخ عدنية شبلي اليُسر في كتابتها، وكانت صادقة حين كتبت ما كتبته. ولم تكتف بذلك، فقد جعلت بطلتها الصحفية الفلسطينية تتصل بالصحفي كاتب المقال تستزيده التفاصيل، وترحل إلى مكان الحادث لتطّلع على الأرشيف، وتستشعر الأحاسيس التي عاشتها الفتاة.
هذا ما نتتبعه في الجزء الثاني، الذي يروي بضمير المتكلّم، بنبرة ذاتيّة ساخرة، بل ومحبّبة باعترافاتها عن خوضها المغامرة دون تهيّب، على الرغم من علمها بالحواجز، حيث يقف الجنود المدججين بالسلاح.
تتحدّى الصحافية العقبات التي يفرضها الاحتلال. تتقادى الحديث بالعربية، وتدلي باسم مستعار، وتستعير بطاقة جواز مرور من زميلة تقطن منطقة يُسمح فيها بالمرور. كذلك تقتني سيارة باسم زميل آخر، وتختلق هوية سائحة لتنام في المستوطنة في صحراء النقب.
في النهاية تجد هذه المحقّقة الهاوية نفسها تدور في حلقة لا تفاصيل كافية فيها. تلتقي بمؤسس وحارس المتحف المخصص للمستوطنين الأوائل، في المنطقة التي شهدت حصول الحادث، وهو من أصول أسترالية. تسأله إذا ما كان سمع خلال شبابه بحادث قتل فتاة عربية ما، فيجيبها: “إن حادثة القتل الوحيدة التي صادفها، كانت أثناء تطوّعه في وحدة عسكرية تشكّلت بعد نهاية الحرب، وكانت مهمتها الرئيسية البحث عن متسللين عرب في المنطقة”.
يضيف: “خلال إحدى جولاتهم، وجدوا جثمان فتاة بدوية مرمية في بئر قريبة. شرح لها أن العرب حين يشكّون بتصرف فتاة، يقتلونها ثم يرمون جثتها في بئر”. معرباً عن أسفه لمثل تلك الممارسات.
سرد حي وجارح
تتقدّم الرواية بخطى حكائية ثابتة، عبر التفاصيل والاستعارات الدقيقة، التي تمنحها كثافة جمالية وأدبية آسرة ومربكة في الوقت نفسه.
في المنطقة المحتلة تطغى أجواء العنف “العادي” على حياة الفلسطينيين والإسرائيليين. نتتبع كيف يتم إنذار الصحفية وزملائها بوجوب فتح النوافذ في عمارتهم، لأن هناك انفجاراً وشيك الحدوث بالعمارة المجاورة، وذلك كي لا يتأثر الزجاج ويتكسّر، ويصابون بالشظايا.
وعندما تقوم الصحفية الشابة بالتجوّل في أزقة المستوطنة، ستدوي انفجارات قوية غير بعيدة، من دون أن تثير أي رد فعل.
بمثل هذه الوقائع، نقرأ رواية مكثّفة، تدين العنف والاغتصاب بوصفهما من أدوات الحرب المألوفة، من دون مداراة. تتجاوز السياق الإسرائيلي– الفلسطيني. كما تفتح سؤال الذاكرة والسرديات الجماعية المختلقة، والكيفية التي يعيد فيها الأدب إحياء المنسي والمطمور، والمزعج للضمائر أيضاً.
فالعنف لا يتوقّف عند حدود الجسد أو الخراب، بل يستمرّ كجرح عميق في وعي الأجيال التي وُلدت بعد الحدث، لكنها ما تزال تحيا في ظلاله الثقيلة. المفارق والغريب والذي يُحسب من سخرية الأقدار، أن الشعار الذي رفعه المستوطنون، وذكرته الرواية هو أن “المدفع ليس هو المنتصر، بل الإنسان”.
تجدر الإشارة إلى أن الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، فازت بجائزة الأدب الألماني “Liberaturpreis” التي تمنحها وزارة العلوم والفنون، وذلك عن روايتها “تفصيل ثانوي” أو “Eine Nebensache”، المترجمة من العربية إلى الألمانية بقلم غونثر أورث، والصادرة عن دار “بيرنبرغ” للنشر. لكن الإدارة أعلنت لاحقاً عن تأجيل منح الكاتبة الجائزة، في معرض فرانكفورت للكتاب في أكتوبر سنة 2023.
 
									 
					