– محمد ديب بظت
تفهم حلب من خلال صوتها، ذاك الصوت الذي لم يولد في المسارح ولا في الإذاعات، بل في التكايا والزوايا التي كانت، يومًا ما، بيتًا للروح والمقام معًا.
كانت التكية ملتقى للمريدين والمنشدين، لكنها في العمق فضاء يتدرب فيه الحس على التمييز بين المقامات، ويختبر الصوت حدود النغمة والسكينة.
في هذه الزوايا، كان المنشد يتعلم أكثر من مجرد الأداء الصوتي، ويكتسب حسّ الاستماع الجماعي، ويتعرف إلى أهمية التفاعل مع الآخرين، وفهم انفعالات المجتمع من خلال النغمة.
ليس مجرد نقل للأصوات
تتجاوز عملية التعلم حدود الصوت لتصبح تجربة حياة، التدرب على المقام والقدود يصقل الروح ويعلم الانضباط، ويغرس في الفنان القدرة على التعبير عن مشاعر الناس بطريقة عفوية وصدق داخلي، كما يوضح ضياء الدايخ، نجل المنشد الحلبي المعروف أديب الدايخ.
يرى ضياء الذي يسير على خطى والده، في حديث إلى، أن الزوايا كانت مدارس متكاملة للوعي والممارسة الجماعية، حيث كل جلسة إنشاد هي فرصة لصقل الموهبة وفهم المقام والإيقاع، مع تعزيز الشعور بالانتماء للمجتمع.
هذه الخبرة المبكرة تخلق شخصية فنية متكاملة، تعرف أن الغناء ليس مجرد نقل للأصوات، بل نقل للحياة والمشاعر والتاريخ المحلي.
الفن “المحمي اجتماعيًا”
الباحث الموسيقي عبد الحليم حريري، اعتبر أن الزوايا والتكايا لعبت دورًا مهمًا في الحفاظ على المقامات والإيقاعات العربية وروح الجملة الموسيقية، من خلال الموشحات والأدوار والمدائح الدينية والمدنية.
وما يميز الذين خرجوا من هذه البيئات، هو قدرتهم على الأداء العفوي والصادق، وهو ما منح الغناء الحلبي طابعه الفريد، بحسب حريري.
وأشار إلى أن الإنشاد الديني حافظ على شكل القصيدة والموال، وطور طرق الأداء، وأصبح فنًا محميًا اجتماعيًا، يربط الناس ببعضهم ويضمن استمرارية التراث، بينما تراجع عدد هذه المدارس وازدادت الحاجة إلى دعم رسمي للحفاظ على ما تبقى من التراث الحي.
الموسيقي محمد علي، وهو خريج المعهد العالي للموسيقا، اعتبر أن التكايا والزوايا لم تكن مجرد مدارس للموسيقا، بل فضاءات اجتماعية متكاملة شكلت نواة الحياة الجماعية في المدينة.
في هذه الأماكن، كان المنشدون يتعلمون ليس فقط ضبط الصوت والمقام، بل أيضًا التفاعل مع الآخرين وفهم الانفعالات الجماعية، ما جعلهم قادرين على التعبير عن مشاعر المجتمع من خلال الفن.
بعض الزوايا، مثل تلك التي كانت موجودة في الجامع الأموي الكبير قبل الحرب، احتوت على مجموعات من المنشدين، من بينهم منشدون مكفوفون، حيث كان صوتهم يتعالى بين جدران الجامع، ليصل إلى الحاضرين ويملأ المكان روحانية.
كانت هذه الزوايا بمثابة مدارس اجتماعية وموسيقية في آن واحد، تمنح الفرصة للجميع للتعلم والممارسة، وتكرس الانتماء للتراث الموسيقي الحلبي.
وفي سنوات الحرب، اختفت هذه الظاهرة بالكامل تقريبًا، ما أثر بشكل مباشر على ظهور المنشدين في الزوايا التقليدية، وفقد المجتمع بذلك جزءًا من فضاءاته الثقافية والاجتماعية التي تربط بين الأجيال.
وفقًا لمحمد علي، فإن هذا الفراغ لا يقتصر على الجانب الفني، بل يمتد ليشمل الجانب الاجتماعي والوجداني، إذ تضاءلت الفرص التي كانت تتيح للفنانين الجدد تعلم الالتزام بالتراث، والتواصل مع المجتمع، واكتساب خبرة مباشرة في التعبير الجماعي من خلال الصوت.
الذاكرة الحلبية وصوت المدينة
مع تغير الحياة في حلب، تراجعت الزوايا وقلت حلقات الذكر الجماعية، لكن أثرها ظل حاضرًا في القدود والموشحات التي تُغنى في الجلسات الصغيرة أو المنازل، فهي تذكّر الناس بأن الموسيقا كانت ولا تزال جزءًا من الوجدان الاجتماعي، وأن أصوات المدينة لم تنفصل عن قصص سكانها وموروثهم.
إحياء الدور الذي لعبته الزوايا ممكن عندما تهتم الجهات الرسمية بالموضوع بشكل جدي، لأن الأمر يحتاج إلى خطة واضحة ودعم مالي، بحسب عبد الحليم حريري، لكنه لفت إلى أن غياب تلك التكايا عن المشهد الفني المعاصر يعني خسارة مدارس كاملة للغناء العربي، كانت تحفظ المقامات وتورث الحس الموسيقي قبل أي معهد أو مسرح.
وفقًا لما وثقه محمد قدري دلال، في كتابه “القدود الدينية- بحث تاريخي وموسيقي في القدود الحلبية”، كانت الزوايا والتكايا البيئة الأساسية التي خرجت منها القدود والموشحات والمدائح الدينية، حيث صقلت هذه الأماكن الحس الجماعي والفني للمجتمع الحلبي، وعلمت الناس الالتزام بالتراث واحترام الأبعاد الاجتماعية للموسيقا.
ويقول دلال في كتابه الآخر “شيخ المطربين صبري مدلل وأثر حلب في غنائه وألحانه”، إن الفنان صبري مدلل نفسه نشأ في هذا الفضاء، وتكونت قدراته على الإنشاد والمقام داخل التكايا قبل أي ظهور إعلامي أو مسرحي، ما يعكس الدور المركزي لهذه المؤسسات في الحفاظ على التراث ونقل القيم الثقافية والاجتماعية للأجيال القادمة.
هذه الخلفية تؤكد أن الزوايا والتكايا لم تكن مجرد أماكن للذكر أو الموسيقا، بل مدارس حياة، شكلت أجيال الفنانين، واحتفظت ببصمة المجتمع الحلبي وروحه حتى اليوم.
مرتبط
المصدر: عنب بلدي
