سعيد بن محمد بن راشد الكلباني **

 

 

يقول آلان كاي عالم الحاسوب الأمريكي: “أفضل طريقة لتوقّع المستقبل هي أن تصنعه بنفسك”.

رؤية كاي التقنية تتجاوز حدود البرمجة إلى فلسفة التكوين ذاته القائم على الفكرة وتشكيلها؛ لأنه يرى المستقبل بالسير إليه لا بانتظار قدومه والذي لن يصلك إطلاقاً بسكونك، ويتحقق ذلك من خلال تفاعل متوازن بين منطق الفكر المتوجه إلى التصميم والإبداع والإنتاج المتجسد في الأجهزة والأنظمة والبرامج.

اليوم في بيئة التكنولوجيا وخضم التشابك بين المعرفة والابتكار والمغذي والمتغذي أو الوسيلة والنتيجة تبرز الهاكاثونات في الذكاء الاصطناعي كرافعة فكرية تمنح العقول نقطة ارتكاز تحركنا نحو المستقبل وتسارع المستقبل نحونا، وهي_ أي الهاكاثونات_ بمثابة مختبرات العزم العقلي المفتوحة لاستقبال رؤى وفكر ومهارات وشغف المبدعين والعلماء والمطورين لتشكيل منظومة تفكير جماعي، قاعدتها الإبداع ورافعتها التعاون، والتي حتماً لا تكفيها قوة الحضور بقدر امتلاكها أذرع ربط وتأثير ونقطة ارتكاز واتجاه نحو هدف كروافع أرخميدس.

أكثر من منافسة حاضنات للأفكار ومختبرات للتجربة

اختزال الهاكاثونات في إطار سباق في الزمن والحضور بعدد النوع يُفقدها جوهرها وكينونتها القائمة على منظومة ديناميكية من الأفكار؛ حيث الفكرة تجسد القوة على طرف ذراع الرافعة والذي يمكن اعتبار تلك الذراع المنصة، أما التعاون بين الأفراد أو المؤسسات والأفراد فهو نقطة الارتكاز التي تسمح للقوة وبدفع السواكن إلى الأمام والأعلى أي نحو المستقبل. وفي هذا تتحقق معادلة أرخميدس في بُعدها المعرفي والمتشكلة في القول: أعطني فكرة أرتكز عليها، وذراع من التعاون، وسأتحرك وأحرك معي واقع الابتكار. الحقيقة أن هذه البيئات يتزاوج فيها العلم بالتجريب، ويختبر الشباب قدراتهم في تحويل الفرضيات إلى تطبيقات، والتحديات إلى فرص.

تكمُن قيمة الهاكاثونات في طبيعتها القائمة على ممارسة المعرفة لا تلقينها؛ لأنها ببساطة تدفع العقل المتحفز للأضواء إلى التفكير التحليلي والمعالجة التقنية ويشكلان معا ذراعين لرافعة تمكن الشباب من إثبات ذواتهم وتقطير خلاصة معارفهم في كأفكار وممارسات لتوليد منتجات معنوية أو مادية متجاوزين ومتحدين بها حدود الممكن. أي أن في الهاكاثونات تتحول المواهب الفردية إلى طاقات جماعية وتتحول بها البيانات إلى بصيرة والتي بدورها تقود إلى المعرفة وبمعالجتها تتحول إلى أدوات تصنع الأثر. وهذا في مجمله يتقاطع مع رؤية عُمان 2040 الناشدة اقتصادا معرفيا وتمكينا رقميا شاملا يربط البحث العلمي بالابتكار المؤسسي.

التنويع: من الفكرة إلى التطبيق

وتقوم الهاكاثونات على مبدأ زعزعة السواكن التي لا تنتج بسكونها وتنظيم المتشتتات التي يؤثر شتاتها؛ وذلك بتجميعها أو ضمها وتفاعلها ضمن أنظمة ديناميكية وهنا نتحدث عن الأفكار والمهارات والذكاء الاصطناعي نفسه الذي نسعى لقمته ونتبنى قواعده لإحداث التغيير كمساهم ومساعد. إن فاعلية مشاهد الهاكاثونات لا تكتمل دون سبر العمق المعرفي والتنقيب عن البيانات وتنويع أدوات الابتكار ويحدث ذلك من خلال تنويع الفعاليات التي تركز على العمق وتبحث في الأجزاء. وفي هذا أشير إلى ضرورة خلق الشرارات أو إثارتها من خلال الإيدياثون (Ideathon) المعني بتوليد الأفكار المفاهيمية، والداتاثون (Datathon) المرتكز والمتعمق في تحليل البيانات واستخلاص الأنماط الذكية منها. ومن هذا التنوع يمكن الحصول على منظومة متكاملة تبدأ من الفكرة وتمر بالتحليل لتصل إلى الحل التطبيقي. أي أننا نمارس تشكيل يتحول في الفكر إلى فعل والطموح يصير إنجاز واستدامة.

التكامل ينقلنا للمستقبل

وعند النظر إلى ذات الهاكاثون والذي نشبهه برافعة أرخميدس نجد أنه لا يقوم على فصل القوة ونقطة الارتكاز والمقاومة عن بعضها وذلك لأنها تشكل المنظومة. وكذلك الهاكاثون يقوم على تحدٍ وفكرة وحل وتجربة. وعندما يكون التحدي واقعيا والفكرة ولدت كحل فإن التجربة تكون منطقية لها مؤشر قياس ومعيار نجاح. وذلك يتحقق بحوار فكري وعصف ذهني يسبق الهاكاثون ويكون تشاركياً بين الفرق والمؤسسات الأكاديمية التي عليها التوجيه الصحيح نحو البحث والتفكير والتحليل، والحكومية والخاصة بالإمداد والدعم بالمشكلات التي تؤرقها والتحديات التي تعيق تقدمها وجاهزيتها لاحتضان النواتج التي تأتي كحلول لمشكلاتها وتحدياتها أو تخلق لها ميزات تنافسية. كما أن على المؤسسات أياً كان تصنيفها أن تقدم الدعم المادي والمعنوي ومساحة للتجريب وذلك لتحويل الأفكار والاعتقادات إلى عناصر تولد الابتكار والحلول وحتى لو أنها لم تنضج في حينها، المهم أنها أصبحت إرث ويتراكم ويمكن أن ينبش فيه من يمتلك رؤية أخرى تعيده إلى منصة التنافسية.

نحو بنك وطني للمشكلات والأفكار

وفي ظل التسارع التقني، والتنافسية العالمية والمحلية من المؤسسات، والمشكلات والتحديات المتزايدة كنتيجة لتغلغل الذكاء الاصطناعي في مفاصل المؤسسات، فإن فكرة إنشاء بنك وطني للأفكار والمشكلات والتحديات وتصنيفها حسب القطاعات يعد مشروع إداري من جهة وتنافسي من جهة أخرى وميدان خصب للبحث العلمي ومتسم بالاستدامة المعرفية لأنه يشكل بوصلة نشطة توجه الفكر بمنطقيه ولنقاط ألم لها تأثيرها المحدود أو الاستراتيجي ويمتد هذا النشاط خارج حدود أي هاكاثون.

ولإنشاء هذا البنك، يتطلب من جهة ذات مسؤولية أن تُنشئ قنوات تواصل ومستودع تجميع للأفكار والمشكلات من المؤسسات بمختلف تصنيفها والقطاع العاملة فيه. وكنتيجة لهذا تصبح الهاكاثونات نظامًا معرفيًا فعَّالًا وديناميكيًا، وتتحول فيها عزوم العقول إلى حركة وطنية متصاعدة دافعة الذكاء بالمؤسسات نحو المستقبل وأيضًا تأتي بالمستقبل لها.

** باحث ومدرب في الذكاء الاصطناعي

شاركها.