غيب الموت ديك تشيني، نائب الرئيس الأميركي السابق في عهد جورج بوش الابن، عن عمر ناهز 84 عاماً، والذي لعب دوراً محورياً في الغزو الأميركي للعراق المبني على افتراضات خاطئة، وكان لعقود شخصية مثيرة للجدل في واشنطن.

حوّل “الجمهوري” تشيني منصب نائب الرئيس إلى محور قوة، وقاد الحملات العسكرية الأميركية بعد أحداث 11 سبتمبر، بما في ذلك قضايا التعذيب، فيما واجه تحديات صحية كبيرة، إذ تعرض لأول نوبة قلبية في سن الـ37، وواجه 8 نوبات قلبية أخرى بين 2000 و2010، وخضع لعملية زراعة قلب عام 2012.

وتميز ديك تشيني بقدرة فريدة على الإدارة في أوقات الغموض، وهدوئه ظاهري يخفي صرامة، وقدرة على السيطرة في المواقف الصعبة، وفق صحيفة “واشنطن بوست”.

“تشيني كان يفضل العمل خلف الكواليس، ويؤمن أن دوره الحفاظ على الدولة حتى على حساب الرأي العام حيث يرى أن الخطر لا ينتظر البيروقراطية، وظل وصفه الأكثر تكراراً في دوائر صنع القرار الأميركية أنه: لم يكن رجل الكلام.. كان رجل القرارات” بحسب الصحيفة.

رحلة ديك تشيني السياسية

شغل تشيني مناصب عدة منها نائب رئيس الولايات المتحدة لولايتين بين عامي 2001 و2009، ووزير الدفاع، وعضو الكونجرس الأميركي، وحصل على درجات متقدمة في العلوم السياسية،وعرف بحنكته السياسية، وقدرته على الإدارة خلف الكواليس.

في عام 1968 انتقل ديك تشيني ابن الـ28 عاماً آنذاك إلى واشنطن العاصمة للعمل في الكونجرس وبعدها بعام، التقى بأهم شخصية سياسية كان لها دور محوري في حياته السياسية وهو دونالد رامسفيلد، الذي كان يعمل في مكتب الرئيس الأميركي السابق، ريتشارد نيكسون، كمساعد خاص له.

رافق رامسفيلد صعود تشيني السريع، وجلب تشيني كـ”يده اليمنى” عندما شغل منصب مستشار البيت الأبيض في 1970.

وبعد استقالة نيكسون في عام 1974، عاد تشيني في نوفمبر 1975 إلى البيت الأبيض مرة أخرى كمساعد لرامسفيلد، في عهد الرئيس جيرالد فورد.

ولم يمض سوى 6 سنوات منذ وصول تشيني إلى واشنطن كمتدرب، لكنه أصبح في سن 34 أصغر رئيس موظفي البيت الأبيض في التاريخ.

وتُظهر مذكرات دوائر صنع القرار أن تشيني كان متطرفاً بشأن سرية الحكومة وسيادة الرئيس، وحاول دون جدوى إقناع فورد بالتصدي لتقييد سلطات التنفيذ والرقابة التشريعية، وفق صحيفة “واشنطن بوست”.

تحولات مفاجئة 

مسيرة تشيني المهنية شهدت تحولاً مفاجئاً في 1989، حين أُفشِل ترشيح السيناتور الجمهوري من تكساس، جون جي تاور، لمنصب وزير الدفاع بسبب فضائح سلوكية وشكوك حول نزاهته. فاختار الرئيس جورج بوش الأب تشيني كخيار بديل وزيراً للدفاع.

ورغم أن تشيني قد حصل على 5 إعفاءات دراسية وأبوية من التجنيد خلال حرب فيتنام، إلا أنه قال للصحافيين عند وصوله إلى البنتاجون كوزير للدفاع عام 1989: “كان لدي أولويات أخرى في الستينيات غير الخدمة العسكرية”.

حرب الخليج وانهيار الاتحاد السوفييتي

في عام 1989، عندما حان الوقت لاختيار رئيس هيئة الأركان المشتركة الجديد، قام تشيني بترقية كولين باول من الجيش على حساب عشرات الضباط العلميين الأعلى رتبة، ليصبح باول أول أميركي من أصل إفريقي يتولى هذا المنصب.

وأثبت ديك تشيني والرئيس جورج بوش الأب قوتهما كفريق في نزاعي غزو بنما وحرب الخليج، وكان تشيني معارضاً للشيوعية ومشككاً في سياسات التسوية مع الزعيم السوفييتي ميخائيل جورباتشوف، مستخلصاً دروساً حول الاستخبارات وتغيير الأنظمة المعادية، وفقاً لما ذكره آرون فريدبرج، مستشار السياسة الخارجية الذي عمل مع تشيني في البيت الأبيض.

وأضاف: “ترك تشيني انطباعاً هادئاً خلال حرب الخليج، ودعم بعد ذلك قرار بوش الأب بعدم الإطاحة بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين”.

الترشح للرئاسة

وبعد أن هزم الرئيس الديمقراطي، بيل كلينتون، جورج بوش الأب في انتخابات الرئاسة عام 1992، ترك تشيني الحياة السياسية، وذهب للعمل في القطاع الخاص.

وحاول تشيني نيل بطاقة الترشح من حزبه للرئاسة عام 1995، لكنه شعر بعدم قدرته على تحمل السباق الانتخابي.

وقال لاحقاً لصحيفة “واشنطن بوست” في عام 2004: “لم أرد أن أفعل تلك الأشياء التي كان عليّ أن أفعلها كالانفعال على المنصات لمخاطبة جمهور عاطفي غير واقعي، لأتمكن من الفوز بالانتخابات الرئاسية”. 

لكن في أوائل عام 2000، قام جورج دبليو بوش الابن بحسم ترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة، وطلب من تشيني قيادة البحث عن مرشح لمنصب نائب الرئيس.

وبالفعل قدم تشيني ما لا يقل عن 11 مرشحاً للمنصب، لكن بوش الابن لم يقابل أياً منهم قبل أن يوقف بوش العملية، ويختار تشيني نفسه.

هجمات 11 سبتمبر والرئاسة المشتركة

وبعد مسيرة طويلة كمستشار في الظل جاءت لحظته الحاسمة في هجمات 11 سبتمبر 2001، حين اقتحم فريق الخدمة السرية مكتبه، ونقلوه إلى ملجأ تحت الأرض، حيث تولى القيادة، وأصدر تفويضاً بإسقاط أي طائرة مدنية مختطفة، حتى لو كانت مليئة بالأميركيين”.

وتولى تشيني، الدور الاستراتيجي الرئيسي في نشر القوات العسكرية بشكل شامل في أفغانستان، ولاحقاً العراق.

وبعد مسيرته الطويلة كمرؤوس، قال تشيني لمؤلف سيرته، ستيفن هايز: “لست موظفاً، أنا نائب الرئيس، ضابط دستوري، مُنتخب تماماً كما هو”. 

واكتسب تشيني نطاق صلاحيات واسعاً إلى درجة أن نائب الرئيس السابق دان كويل وغيرهم من المراقبين وصفوه بأنه كان يعمل في “نوع من الرئاسة المشتركة بينه وبين بوش”.

وأشار زملاؤه في البيت الأبيض إلى أن “بوش أثبت أن تشيني هو المقرر النهائي”، كما وصف تشيني نفسه في 2006.

تبرير التعذيب في العراق وأفغانستان

أشرف تشيني عبر وكلائه على قرار الرئيس بوش الابن بسحب “حقوق المعتقلين الإرهابيين في العراق وأفغانستان” بموجب اتفاقيات جنيف، ودافع عن ما وصفه بـ “الاستجواب القوي”، رغم اعتباره من قبل بعض الحلفاء تعذيباً.

وفي عام 2001 شنت واشنطن حرباً على أفغانستان، وفي 2003، قاد تشيني حملة لتبرير غزو العراق، مستنداً إلى مزاعم امتلاك العراق أسلحة دمار شامل وعلاقاته مع الإرهاب، رغم تجاوز بعض تقديرات الاستخبارات الأميركية.

وأوضح تشيني عام 2007 في مقابلة مع برنامج Face the Nation على قناة CBS أن هذه الأساليب كانت ضرورية لوقف هجمات إضافية، وأن الجماعات الإرهابية مثل القاعدة قد تحصل على أسلحة دمار شامل بمساعدة خارجية.

ادعاءات كاذبة 

وبعد مرور سنوات أثبتت الأحداث أن تشيني كان مخطئاً، فلم يكن لدى العراق أي برامج نشطة لإنتاج أسلحة دمار شامل، وأظهرت التحليلات الاستخباراتية بعد الحرب عدم وجود روابط عملية مع القاعدة في أفغانستان.

ورغم سقوط نظام صدام حسين، استمرت الحرب في العراق حتى 2011، وأسفرت عن سقوط نحو 5,000 جندي أميركي، وبقيت القوات الأميركية لعقد إضافي لمواجهة “داعش” ومحاولة تحقيق الاستقرار في البلاد.

وانتهت الحرب في أفغانستان عام 2021 بانسحاب القوات الأميركية، وعادت طالبان للسيطرة على الدولة.

وانتقد ديك آرمي، زعيم الأغلبية الجمهوري في مجلس النواب عام 2008، تشيني لزعم خاطئ غير مدعوم مخابراتياً حول أسلحة العراق النووية، قائلاً: “كان يكذب علي”، وأضاف: “العراق لم يصنع رأساً نووياً، وصدام ليس له علاقة بهجمات 11 سبتمبر”.

كان تشيني يصور نفسه على أنه مناهض للسياسة التقليدية، غير مكترث بقبول الرأي العام، وعندما أشار مذيع من برنامج  Good Morning America في 2008 إلى أن ثلثي الجمهور يعارضون حرب العراق، رد تشيني: “لا يمكنك أن تنحرف عن مسارك بسبب تقلبات استطلاعات الرأي”.

“حمى الإرهاب”

وبحلول نهاية ولايته، ومع أدنى معدل قبول يسجل لنائب رئيس على الإطلاق، أربك تشيني أصدقاءه القدامى، وبحسب بعض الروايات، استنزف سمعته التي بناها على مدى عقود.

من جانبه قال مارك فايفل، وهو نائب مساعد الرئيس ومستشار الأمن القومي للاتصالات الاستراتيجية والتواصل السابق في إدارة الرئيس جورج دبليو بوش الابن، إن “ديك تشيني كان في كثير من الأحيان صلباً لا يلين، وعنيداً ومثابراً في قيادة الولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر، أحياناً إلى حد الإفراط، لكن أعتقد أنه فعل الصواب لحماية أميركا”.

وأوضح فايفل في تصريحات خاصة لـ”الشرق” أن تشيني كان يتمتع بنفوذ واسع خلال الولاية الأولى لبوش الابن، لكنه فقد جزءاً من ذلك النفوذ في الولاية الثانية، مع تعثر الحربين في أفغانستان والعراق، وتراجع قبضته البيروقراطية على مفاصل الإدارة.

وأشار فايفل الذي عمل عن قرب مع تشيني إلى أنه كان يضطر أحياناً لمواجهات شخصية مع حلفاء تشيني داخل مكاتب شؤون الأمن القومي، موضحاً أنهم كانوا دائماً يرفضون الحلول غير التقليدية في ساحات المعارك.

وقال برنت سكوكروفت، مستشار الأمن القومي السابق الذي عمل مع تشيني في مقابلة مع “نيويوركر”: “ديك تشيني، لم أعد أعرفه بعد الآن”، وهو ما يعكس خيبة أمل زملاءه القدامى.

وعبّر الرئيس الأميركي الأسبق جيرالد فورد عن رأي مشابه في مقابلة مع الصحافي بوب وودورد من واشنطن بوست، قائلاً إن ديك تشيني “كان مسؤولاً ممتازاً، ومن الطراز الأول، لكنه أصبح أكثر صرامة وعدوانية بمرور الوقت”.

فيما اتفق فورد مع وزير الخارجية الأسبق كولن باول بأن تشيني أصيب بما وصفه بـ”حمّى الإرهاب والعراق”، قائلاً: “أعتقد أن هذا الوصف دقيق إلى حد كبير”.

أما تشيني، فردّ في مقابلة مع CNN عام 2006 على فورد قائلاً: “لا أعتقد أنني تغيّرت بأي شكل”.

العميل الماهر 

قال بارتون جيلمان مؤلف كتاب Angler: The Cheney Vice Presidency. إنه قبل أن يقبل تشيني عرض بوش بتوليه منصب نائب الرئيس، تفاوض على شراكة فريدة في تاريخ البيت الأبيض مثل “العميل ماهر”. 

وبحلول ذلك الوقت، كان قد شغل الدور، فعلياً إن لم يكن بالاسم، كـرئيس لمرحلة الانتقال.. كونه مؤمناً بشدة بفكرة أن “الأشخاص هم السياسة”، حيث أشرف على كل الترشيحات الوزارية.

فيما قال جوشوا بولتن، الذي شغل منصب مدير الميزانية ورئيس الأركان في البيت الأبيض في إدارة بوش: “الرئيس كان يوافق على كل أفعال تشيني”.

وأوضح أن معظم القرارات الكبرى في الولاية الأولى نادراً ما كانت تخلو من ختمه، وكان يسعى لتحقيق أهدافه بشكل غير مباشر تحت اسم “أنجلر” في الخدمة السرية.

فقدان النفوذ

وتلاشى أثر تشيني على القانون والسياسة، الذي بلغ ذروته في الفترة الرئاسية الأولى، بشكل كبير بحلول الوقت الذي غادر فيه هو وبوش السلطة. 

في عام 2004، عندما ثار كبار المحامين الحكوميين احتجاجاً على برنامج المراقبة الداخلية الذي دعا إليه تشيني، لم يعلم بوش بالنزاع إلا بعد أن وصل كبار قيادات مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة العدل إلى حافة الاستقالة الجماعية.

قال مساعدو الرئيس إن إصرار تشيني الذي لا يلين كان يمكن أن يخلق مشكلات سياسية خطيرة للرئيس، كما أصبح بوش حساساً تجاه الروايات التي تصور تشيني على أنه السيد وراء الستار في الإدارة.

ورد بوش في 2007 عندما سأله مراسل “فوكس نيوز” عن الانطباعات التي تفيد بأن تشيني كان يدير الأمور: “أعتقد أنني أكثر حكمة من ذلك من أن أُصنف أو أن أُحاصر من قبل مستشار ماكر”.

إطلاق النار على صديق وصدام مع ترمب

وفي فبراير 2006، أطلق تشيني النار عن طريق الخطأ على صديق له يبلغ من العمر 78 عاماً، وأصابه في وجهه خلال رحلة صيد، وظلت الحادثة سرية طوال يوم كامل، والتي مثلت واحدة من أسوأ فترات تشيني.

ورغم أنه ظل رمزاً بالنسبة للديمقراطيين والجمهوريين، للحروب الطويلة في العراق وأفغانستان، استعاد ديك تشيني بعض الاحترام بعد انشقاقه عن قادة الجمهوريين لإدانة محاولة دونالد ترمب قلب نتائج الانتخابات، واقتحام الكابيتول عام 2021.

ورغم أن أكثر من عشرين ديمقراطياً حاولوا محاكمته عام 2007، صافحوه بعد تمرد أنصار ترمب في 6 يناير تقديراً لموقفه المبدئي.

وفي 2022، وصف تشيني ترمب بأنه “أكبر تهديد لجمهوريتنا بعد محاولته سرقة الانتخابات بالعنف، والأكاذيب”.

وفي 2024، وبعد ترشّح ترمب مجدداً للرئاسة، أعلن تشيني تأييده للديمقراطية كاميلا هاريس، مؤكداً أنه يضع مصلحة البلاد، والدستور فوق الولاء الحزبي.

شاركها.