صبحى حسن
عندما نتكلم عن الصندوق فإننا في الواقع نتكلم عن عدة معانٍ يحملها هذا اللفظ، أشهرها وعاء لتخزين الأشياء أيًّا كانت المادة التي صُنِع منها. ومن معانيه أيضًا كيانٌ منظم له أهداف مالية ووظيفية محددة كصندوق النقد الدولي، أو صندوق الضمان الاجتماعي، وغيرها من المعاني التي يطغى فيها ذكر المال بشكل خاص.
كما يُطلق أيضًا على بعض المعاني المعنوية، كالصندوق الأسود في الطائرة، أو صندوق البريد، فالمعنى يختلف حسب سياق الكلام، فيمكن أن يكون صندوقًا للقمامة أو صندوقًا للفاكهة. ولكلمة صندوق مرادفات كثيرة، منها: حاوية، أو برطمان، أو علبة، أو سحّارة، أو خِزانة، أو كرتون، وغيرها.
العقل لغويًا يعني حبس الشيء، فهو يعقل صاحبه عن الوقوع في المهالك والآثام، ويحبسه ويردعه عن سوء التصرف. ورد في حديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لرجلٍ أهمل ناقته بدعوى التوكل على الله، فقال له: “اعقلها وتوكّل”.
العقل من المنظور الاصطلاحي يعني القدرة الفكرية والإدراكية للإنسان، وتتضمن التفكير والوعي والحكم والفهم، فهي مجموعة من القوى التي تحبس صاحبها وتوجهه إلى الصواب، وتمكّنه من معالجة المشاعر واتخاذ القرارات.
أما من المنظور الفلسفي؛ فهي المَلَكة الفكرية للإنسان، والقدرة على التخيل والتمييز والتقدير. وفي الإسلام هو أداة المعرفة والتمييز بين الخير والشر، فهو يمنع صاحبه من الوقوع فيما لا يليق به من القبائح، ما يُطلق عليه اصطلاحًا “الحِجر” أو “اللّب”.
ما العلاقة بين التفكير والصندوق على ضوء ما ورد أعلاه، وهل هناك أي رابط بينهما؟
مصطلح “التفكير خارج الصندوق” يُستخدم كثيرًا في بيئات الأعمال. العبارة جاءت من لغزٍ شهير لعالم الرياضيات البريطاني هنري إرنست دودني في أوائل القرن العشرين، الذي يتطلب توصيل تسع نقاط على شبكة ثلاثية الأبعاد بأربعة خطوط مستقيمة دون رفع القلم عن النقاط المرسومة على الورقة.
ذهب بعضهم إلى أن الصندوق يعني مشكلة، والشخص داخل الصندوق له احتمالان: إما أن يكون مقتنعًا بوجود المشكلة ومتذمّرًا منها، أو أنه متعايش معها على عِلاتها. فعندما يُقال: “الخروج من الصندوق”، فكأنه حافز ودافع لصاحبه للخروج من هذا الحبس. ولا أظن أن أحدًا فكر في هذا المفهوم، ثم لماذا علينا أن نُقدّر ونُخمّن ما تقصده العبارة بدل أن تكون واضحة المعنى ومعبرة لا لبس فيها ولا غموض؟
ليس هناك معنى محدد لتعريف العبارة، قيل هو التخلي عن القوالب النمطية الراسخة في الذهن، وقيل هو البحث عن أفكار جديدة مبتكرة، أو رؤية المشكلة من منظارٍ آخر محدَّث. إذن فهي كلها أقوال في أقوال، وإذا ما دققنا النظر في العبارات التي نتداولها كتلك العبارة آنفة الذكر، نجد أن أغلبها ذو منشأ غربي لا علاقة له ببيئتنا، وليست من ثوبنا أو قياسنا، وعباراتهم غالبًا ما تكون فضفاضة في المعاني، لا رابط بين مقاطعها، وأحسب أن ذلك مردّه إلى تمجيد الغرب للعقل بصورة مفرطة.
هل يوجد عقل خارج الصندوق؟ وماذا عن التفكير داخل الصندوق؟ هل يقودنا إلى الفشل والإخفاق؟
يقول ديباك تشوبرا المفكر الهندي المعروف: “بدلًا من التفكير خارج الصندوق، تخلَّص من الصندوق”.
إنها عبارة منطقية يدحض بها من يدّعي التفكير خارج الصندوق، ليقول إن الصندوق أساسه فارغ، لا يوجد بداخله شيء، فلماذا نحتفظ به! ثم من قال إن كل من يفكر خارج الصندوق سوف ينجح من حيث فشل التفكير داخله؟ ومن أين حصل على هذا الضمان؟
عندما نستحضر عبارة العصف الذهني المشهورة، فلا يُقال عصف الصندوق؛ بل يذهب مباشرة إلى الذهن، وهذا مقبول عقلًا ومنطقًا ولا يتعارض واحترام العقل.
إن عمليات التفكير والتحليل والاستنباط تجري داخل العقل وليس خارجه، بينما الصندوق لا يفكر لا داخلًا ولا خارجًا؛ فهو مجرد خزانٍ للأشياء، فلا يمكن أن نقول إن الصندوق يخزّن الأفكار مثلًا. الإسلام احترم العقل احترامًا بالغًا، فقد وردت في القرآن مفردة العقل بعدة ألفاظ، منها: النُّهى، والألباب، والقلب، والحجر، والفكر، وكلها معانٍ تفيد التدبر والفهم، فهو في النهاية تفكير، وكل تفكير إبداع أيًّا كان حجمه ونوعه ونتيجته، فلا نحتاج إلى صندوق لنُخرج ما في باطنه إلى الخارج ليصبح الشخص مفكرًا مبدعًا!
ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في تكريم العقل وتمجيده، حيث قال: “إن أول ما خلق الله العقل، فقال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقًا أكرم عليّ منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أثيب، وبك أعاقب”.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إنا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم”.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم يقول أيضًا: “يا علي، لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أعود من العقل”.
فالعقل أداة الإيمان، به يتدبر الإنسان آيات الله تعالى في الكون، ويستدل بها على وجوده وقدرته، ويميز به بين الحق والباطل. إن للعقل منزلة واحترامًا كبيرين عند الله سبحانه وتعالى كما أشرنا آنفًا، والقرآن الكريم يمجده ويأمرنا به: “أفلا يتفكرون”… “أفلا يتدبرون”… “أفلا يعقلون”.
هناك ما يُماثل تلك العبارة في المضمون، فبدل الصندوق استعير بالرأس في عبارة “صيد الرؤوس” (Head Hunting)! ويعني صائد الكفاءات أو الباحث عن الكفاءات، وهم الذين يبحثون عن أشخاصٍ ذوي كفاءة يعملون في وظائف مرموقة كبيرة، ولكنهم لا يبحثون عن وظائف جديدة؛ حيث تتم محاولة استقطابهم ليضمّوهم إلى مؤسساتهم، غالبًا ما تكون في أدوار قيادية أو تخصصية لرفع مستوى شركاتهم وسمعتها، وهو يختلف عن مفهوم التوظيف، حيث يُقصد منه الإحلال أو سدّ الشواغر.
العبارة مأخوذة من أوروبا في زمن العصور الوسطى، عندما كان يتم قتل الشخص وأخذ رأسه والاحتفاظ به لغرض إبراز القوة والإهانة للمنافس كجزء من طقوس كانت تُمارس آنذاك. لا يوجد قتل هنا –ولله الحمد– فقط عملية “سرقة للعقول”، ولكن بالحلال!
ما نهدف إليه أن العصر الذي نعيشه تتسابق فيه مطابخ الدراسات والبحوث لوضع استراتيجياتٍ ممنهجة لتغيير أفكارنا، وذلك بوضع الكثير من الالتباس والغموض على الأفكار والمفاهيم والمصطلحات لتشويش أذهاننا بحيث تختلط وتلتبس علينا.
فعلى سبيل المثال، وليس بعيدًا عنا، الحرب التي فُرضت على غزة، عندما كان يتم الحديث عن الأسرى الذين أخذتهم المقاومة في بداية طوفان الأقصى، تم إطلاق لفظ “الرهائن” عليهم، وشاع استخدامه حتى أصبح هو الغالب في الإعلام العالمي، وللأسف حتى على الكثير من الإعلام العربي. ولا يمكن أن يُخطئ القارئ أو المنصف الفارقَ بينهما الذي يؤدي إلى مفهومٍ مختلف تمامًا، وتُبنى عليه في النهاية أمور كارثية؛ فهي مجرد كلمة مكان كلمة، ولكنها تؤدي إلى عواقب وآثار لا علاقة لها بالحدث نفسه.
ولكي نكون منصفين، ليس كل ما يأتي من الغرب أو الشرق –على حد سواء– علينا نبذه وطرحه، بل أن نكون واعين فيما يُطرح، نأخذ ما يتلاءم مع واقعنا وديننا وبيئتنا وأمتنا وقضايانا المصيرية.
إننا لسنا في وارد إنتاج الأفكار أو المعرفة كما كنا من قبل، وهذا هو واقعنا للأسف. علينا –على أقل تقدير– التدقيق فيما يُقال ويُنشر من حولنا، وتحصين أنفسنا وأهلنا وأجيالنا مما هو آتٍ.
فعندما يطالب المنصفون وأصحاب الحق بحقوقهم وأرضهم، يتحول المفهوم إلى “إرهاب”، أما من يقصف ويقتل ويجوّع فهذا “يدافع عن نفسه”! هكذا وُصِمنا في الغرب، رغم أن هذه الجدلية –ولله الحمد– بفضل طوفان الأقصى، قد مُحِقَت وتبدلت إلى الأبد، وما كان لتكون لولا التضحيات والوعي والصمود الأسطوري.
هناك تشويش وتحوير حتى على معتقداتنا وأمورنا الشرعية التي ينبغي ألا تُمسّ، باستخدام مفاهيم فضفاضة. فقد تم توصيف الحجاب في الغرب بـ”الرموز الدينية”، وعلى أساسه يتم نزعه عن فتياتنا المؤمنات تحت هذه الحجة، حتى الزيارات الدينية والمناسك تحولت إلى “سياحة دينية”، رغم أنها طاعات وقربات إلى الله تعالى!
المال نفسه لم يسلم من تلك الآفة عندما قيل إن “رأس المال جبان”، رغم أن المال أسير بيد الإنسان، فكيف يكون جبانًا؟ المقولة العربية تقول: “من عرف رأسماله باع واشترى”، فأيهما أقرب إلى الحكمة والصواب؟
تنتشر الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي تُسوَّق في العمل والمدرسة والجامعة والبيت والشارع، منها محلية عامّية، ومنها ذات أصول أجنبية. نحن بحاجة إلى أذهانٍ مفتحة ومساحات واسعة من الوعي في أفقنا الفكري والمعرفي، لكشف ما منها زائف وملتبس، ونتعامل معها وفق منهجنا الإسلامي ومعتقداتنا الراسخة، حتى لا نُصاب بزكام المصطلحات ونُعدي بها غيرنا.
