خالد بن سالم الغساني
حين قرأت منشور فيصل القاسم الأخير، هذا الرجل الذي امتهن الفتنة تخصصاً دقيقاً، ووجد المساحة القادرة والكافية دون أية ضوابط أو روابط أو حدود، يمارس من خلالها بحرفية عالية ما كان قد اكتسبه وأضاف عليه من فتن نتنة ارتبطت كثيراً بحقده وقناعاته التي تربى عليها واكتسبها نظير حرصه على الاجتهاد والإبداع المطلوب لتنفيذ سياسة البرنامج الشهير الذي يعده ويقدمه بنفسه “الإتجاه المعاكس” البرنامج الذي حوّل شاشات الإعلام إلى صراع ديكة ولا يمكن أن تؤدي نهايتة إلا إلى مزيد من الحقد وإشعال نار الفتنة، ومن ثم مزيد من التفرق والتشتت والتمزق للجسد الواحد، فما بال الأجساد المتعددة.
وتحت العنوان الذي يذكّر بأفلام الكابوي في مطاردة السلطات لأفراد العصابات، “Wanted” “مطلوب فوراً فوراً فوراً”، وقفت مشدوهاً لا أكاد أصدق أن الكلمات التي أمامي، خرجت من ذات الرجل الذي عرفناه لعقود، مشمراً عن ساعديه رافعاً صوته، صارخاً في وجه كل نظام معادٍ للتوجهات والسياسات الصهيوأمريكية، ومن يحاول أن يدافع عن ذلك النظام، ومحرضاً على كل توجه مقاوم للمخططات والمؤامرات الإستعمارية، مبشراً بثوراتٍ لم تُبقِ من الأوطان سوى الرماد، تلك الثورات التي أعلنت عنها كونداليزا رايس وعُرفت بالفوضى الخلّاقة.
بدأ لي المنشور كأنه صادر عن شخص ٍ آخر، لا عن ذلك الإعلامي المرتدي روح المقاتل الشرس، الذي طالما ركب موجة الغضب العربي، واعتاش على لهيبها ونيرانها. ألحّ عليّ السؤال في نفسي: هل هذا فعلاً هو فيصل القاسم ذاته، الذي كان يرفع لواء الحرية أية حرية كانت لا يهم ويدعو لإسقاط الدول واحدة تلو الأخرى؟ هل خلع القناع وأطلّ الوجه الحقيقي من خلف الرماد؟!
الدهشة المتوقعة، والمتوفرة لدي منذ أن اتضح لي نهج القاسم وتوجهاته وتبعيته، ثم المفارقة أكبر من أن تمر بلا وقفة؛ إذ بدأ وكأن فصلاً جديداً بدأ يكتب، مشهد جديد لبطلٍ قديم ٍ أحبه بعض القليل، وكرهه الأكثر . هل خلع رداءَه الثوري وارتدى عباءة الحارس الذي يطلب الأمن بعد أن ساهم هو نفسه في هدمه؟
فيصل القاسم، اسم ارتبط لأكثر من عقدين بصراخ الصراع والجدل والتحريض، إنه أحد أبرز الأصوات التي ارتبطت واشتهرت بتغذية الإنقسامات وإمدادها بكل عوامل قدرتها على إحداث أكبر قدرٍ من التمزق والتفتت، ودفعت الجماهير إلى الشوارع باسم الثورة والحرية. الرجل الذي صنع لنفسه مجداً تلفزيونياً زائفاً عبر برنامج “الاتجاه المعاكس”، والذي كان خلاله متحدثاً أكثر من كونه محاوِرًا، شاحذاً ومحركاً للغضب الشعبي، ومشعلاً لنيران الفتنة، ومبشّراً بعصرٍ جديد يسقط فيه كل من يجلس على كرسي الحكم ولا يتبع الهوى البديل للفوضى الخلّاقة، ويأتمر بأوامر سادتها، أياً كان وأياً كانت النتيجة.
لقد عاد الزمن وأكمل دورته، فلا بد من أن تتبدل الوجوه، وتسقط الأقنعة بحسب اتجاه الريح.
بعد أكثر من عقد على انفجار ما سُمّي بالربيع العربي، يظهر فيصل القاسم بوجه جديد في منشورٍ جديد، يتحدث فيه بلهجة مناقضة تماماً لما كان يروّج له بالأمس، يندد بالعصابات التي تدخل البيوت وتنهب وتحرق وتقتل، ويطالب بالتصدي لها، ويصفها بأنها خارجة عن القانون وعدوة للشعب والدولة. هنا تبلغ الدهشة منتهاها، فيا للمفارقة! أليس هؤلاء هم أنفسهم الذين كان يسميهم بالأمس ثواراً أحراراً ومجاهدي الحرية؟ أليس هو نفسه فيصل القاسم من كان يبرر أعمالهم أيٍ كانت بشاعتها ووقاحتها ودجلها، بذريعة إسقاط النظام وإقامة العدل؟!!
كيف انقلب الخطاب من تمجيد الفوضى إلى المطالبة بالنظام، ومن التحريض على إسقاط الدولة إلى الدعوة للدفاع عنها؟
هذا التحول في موقف القاسم لا يمكن فهمه إلا في سياق الانكسار الكبير الذي أصاب مشروع الفوضى العربية، بعد أن اكتشف حتى صُنّاعه أن النار التي أوقدوها بدأت تأكل أطرافهم.
في زمن الثورات الزائفة كان القاسم لساناً ناطقاً باسم الغضب الموجه، يكرر شعارات من فوق المنابر دون أن يلمس رماد المدن التي تحترق، واليوم وقد تبدلت المعادلات وتغيرت الاتجاهات، صار لساناً آخر، أكثر حذراً، يتحدث بعبارات الدولة والشرعية، وكأنه لم يكن بالأمس أحد الذين ساهموا في تقويضها.
تحوُّل القاسم هو تجسيدٌ صارخ لذلك الإعلامي الذي يُبدِّل مواقفه كما يبدل معطفه، وفق الإشارة القادمة من الجهة التي تموّله أو ترعاه، وهو انعكاس لعقلٍ اعتاد على التلون باسم المصلحة والواقعية، بينما الحقيقة أن لا مبدأ يحكمه سوى الارتزاق والبقاء في دائرة الضوء. لقد عاش الرجل على صخب الجدل، وكلما خفتت النار صبّ وقوداً جديداً، غير آبهٍ إن كانت الكلمات التي ينطق بها تشعل الأوطان أو تُمزق المجتمعات وتقتل الأبرياء.
في منشوره الأخير، بدا القاسم كمن يكتشف فجأة بشاعة ما صنعه، فيصرخ مستنكراً؛ فالمجازر التي وصفها اليوم كانت تحدث بالأمس أمام عينيه، لكنه كان يصفها بـ”الثورة”، والضحايا كانوا يسمّون “أعداء الحرية”، أما الآن وقد لامست النار حدود من كان يخدمهم، أصبح القاتل عصابة، والذبح جريمة، والأدهى أنه يُطالب رؤساء العصابة بالقبض على أفرادها!! إنها ازدواجية لا يمكن تفسيرها إلا بنفاقٍ مهني موجه وقناعاتٍ مصلحية شخصية.
هكذا تحول الإعلامي الكبير من محرض ٍ إلى واعظ، ومن مشعلٍ للحرائق إلى مدّعٍ بإطفائها، حين أدرك أن الرماد بدأ يطاله هو نفسه.
فيصل القاسم اليوم مرآة مكسورة تعكس وجهاً من وجوه الإعلام العربي الذي باع الحقيقة مقابل فُتات، وخان الكلمة حين جعلها أداةً للتوجيه لا وسيلةً للتنوير. وربما سيأتي يومٌ آخر، يبدّل فيه قناعه مرة ثالثة، فيعود ليتحدث عن الحرية من جديد، حين يُطلب منه ذلك.
وما زرعه بالأمس من سموم لن يمحوه منشورٌ متأخرٌ يطلب فيه وهو يعلم، التصدي للعصابات من العصابات. لأن الحقيقة البسيطة التي يدركها الجميع هي أن تلك العصابات كانت صنيعة الخطاب الذي تبنّاه هو ومن على شاكلته. والآن حين بدأ الدخان يملأ بيته، تذكّر فجأة أن للنار صوتاً.
فهل يعلم هو ومن سار في دربه أن الكلمة حين تُقال بلا ضمير تصبح سيفاً يرتدّ على صاحبها قبل أن يُصيب غيره؟ أم سيواصل هؤلاء تبديل الأقنعة كلما تبدّل الممول، ويظنون أن الذاكرة الجمعية للأمم تُمحى بسهولة؟
