مع انطلاق الانتخابات البرلمانية العراقية، الثلاثاء، تدخل البلاد تجربة انتخابية مختلفة في الشكل والمضمون عن سابقاتها، إذ شهدت هذه الدورة تغييرات واسعة في آليات العدّ والفرز، وفي إجراءات التحقق من هوية الناخبين.

يأتي ذلك بعد أن قررت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات تطبيق منظومة تقنية أكثر تطوراً، ألغت بموجبها استخدام الحبر الانتخابي للمرة الأولى منذ عام 2005، كما استبدلت بصمة اليد ببصمة العين كوسيلة رئيسية للتحقق من هوية الناخب.

هذه التغييرات تأتي في إطار سعي المفوضية إلى رفع مستوى الشفافية والسرعة في إعلان النتائج، وتقليص فرص التلاعب أو تكرار التصويت، في ظل قانون انتخابي جديد غيّر طريقة الاقتراع من نظام الدوائر المتعددة إلى دائرة واحدة في كل محافظة، ما يعني أن التنافس الانتخابي سيأخذ شكلاً مختلفاً، وأن عمليات العدّ والفرز ستخضع لتقنيات مركزية أكثر دقة.

تطورات تكنولوجية

رئيس الفريق الإعلامي للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات عماد جميل قال، لـ”الشرق”، إن المفوضية أدخلت تحسينات كبيرة على الجانب التقني، سواء في أجهزة التحقق من هوية الناخبين، أو في آلية العدّ الإلكتروني.

وأوضح أن جميع تفاصيل الناخب أصبحت مرتبطة ببياناته الحيوية المحفوظة في قواعد بيانات المفوضية، وتشمل البصمة الحية، والبصمة المخزنة على البطاقة البيومترية، بالإضافة إلى البصمة المسجلة في جهاز التحقق يوم الاقتراع.

وأضاف جميل أن “إلغاء الحبر الانتخابي جاء لعدم الحاجة إليه، لأن البطاقة البيومترية أصبحت تؤدي الوظيفة ذاتها في منع تكرار التصويت، إذ لا يمكن لأي شخص أن يصوّت إلا من خلال بطاقته الخاصة المرتبطة ببصماته البيومترية”.

وأشار إلى أن “المفوضية زوّدت أجهزة التحقق بكاميرات تقوم بتصوير الناخب، الذي لا تظهر بصمته أثناء عملية التحقق، لضمان توثيق العملية ومنع أي محاولة انتحال شخصية”.

ولفت إلى أن المفوضية اعتمدت أيضاً نظاماً جديداً للمراقبة داخل محطات ومراكز الاقتراع، حيث تم تركيب كاميرات مراقبة لتوثيق مراحل التصويت والعدّ بشكل كامل، مشدداً على أن “كل هذه الخطوات تأتي لضمان الشفافية والثقة بالعملية الانتخابية”.

ضرورة قانونية

من جانبه، قال الخبير الانتخابي دريد توفيق إن التحديثات التقنية لم تكن خياراً تنظيمياً فحسب، بل ضرورة قانونية فرضها قانون الانتخابات رقم (4) لسنة 2023، الذي ألزم المفوضية بإعلان النتائج الأولية خلال 24 ساعة فقط من انتهاء الاقتراع.

وأضاف توفيق لـ”الشرق” أن “هذا التوقيت الضيق لا يمكن الالتزام به دون الاعتماد على التقنيات الإلكترونية في التحقق والعدّ والفرز، لأن التدخل البشري في هذه المراحل يحتاج وقتاً أطول ويزيد من احتمالات الخطأ أو التلاعب”.

واعتبر أن “استخدام بصمة العين يمثل نقلة نوعية في إجراءات التحقق، لأنها ترتبط بهوية الناخب البيومترية الدقيقة، ولا يمكن تجاوزها أو استبدالها كما كان يحدث أحياناً مع بصمة اليد، ما يقلل إلى حدٍّ كبير من احتمالات التزوير أو التصويت بالنيابة”.

ويرى الخبير أن هذه التقنيات ستساهم في “رفع دقة النتائج، وتسريع عملية المطابقة والإعلان عنها، وتوفير بيئة انتخابية أكثر انضباطاً”، مضيفاً أن “التكنولوجيا هنا ليست بديلاً عن الرقابة، بل أداة مساعدة تجعل العملية الانتخابية أكثر شفافية، بشرط أن تُدار بشكل مهني، وأن تخضع لرقابة حقيقية من قبل ممثلي الكيانات السياسية والمراقبين المحليين والدوليين”.

جدل الحبر الانتخابي

ورغم الإشادة الواسعة بالتطور التقني، أثار إلغاء الحبر الانتخابي موجة من الجدل في الأوساط الشعبية والإعلامية. فبينما يراه البعض خطوة منطقية في ظل الاعتماد على البطاقات البيومترية، يعتبره آخرون إلغاءً لرمزٍ نفسي ارتبط بثقافة المشاركة في الانتخابات.

وذكر توفيق أن “الحبر الانتخابي لم يكن مجرد أداة تقنية لمنع التكرار، بل كان يحمل بُعداً رمزياً لدى الناخب العراقي، إذ يمثل أثر المشاركة وإعلانها، وكان كثير من المواطنين يرونه علامة فخر أو شهادة على أداء الواجب الوطني”.

وأضاف أن “التقنية تمنع التلاعب الفني، لكن الرمزية تحافظ على العلاقة النفسية بين المواطن والانتخاب”، معتبراً أن التحدي أمام المفوضية اليوم هو “تحقيق التوازن بين كفاءة النظام التقني واستمرار رمزية المشاركة الشعبية”.

اختبار جديد

أما المحلل السياسي نبيل العزاوي فيرى أن الإجراءات الجديدة تمثل “تحوّلاً نوعياً في مسار التجارب الانتخابية العراقية”، وأن المفوضية “أثبتت جاهزيتها التقنية والتنظيمية عبر تطوير نظام تحقق لا يمكن تزويره أو تجاوزه”.

وقال العزاوي، لـ”الشرق”، إن “الاعتماد على بصمة العين جعل من المستحيل تقريباً تمرير أي محاولة لاستخدام البطاقة من قبل شخص آخر، كما أن المفوضية أظهرت حزماً في التعامل مع المخالفين أو المرشحين غير المستوفين للشروط القانونية، وهو ما يؤشر إلى أن الانتخابات المقبلة ستكون مختلفة شكلاً ومضموناً عن جميع الدورات السابقة”.

وأضاف أن من بين الإجراءات التي ستنعكس إيجاباً على سير العملية الانتخابية، “اعتماد آلية تصويت خاصة بالمقيمين في الخارج ضمن محافظاتهم الأصلية، ما سيسهّل عليهم الإدلاء بأصواتهم، ويمنع ضياعها كما كان يحدث في بعض الدورات السابقة”.

ويرى العزاوي أن “التجربة الحالية ستشكّل اختباراً حقيقياً لقدرة المفوضية على المواءمة بين التقنية والتنظيم، وبين الشفافية وسرعة إعلان النتائج”، مشيراً إلى أن “نجاحها سيعيد جزءاً من الثقة المفقودة بين المواطن والعملية الانتخابية”.

سياق مختلف

ولا تتوقف التغييرات عند الجانب التقني فحسب، فالقانون الانتخابي الجديد أعاد العراق إلى نظام الدائرة الواحدة في كل محافظة، بعد تجربة الدوائر المتعددة التي كانت تهدف إلى تعزيز فرص المستقلين، لكنها أثارت جدلاً بشأن عدالة التمثيل.

وبذلك، تعود المنافسة إلى نمط القوائم الكبرى، ما يعني أن آلية العدّ والفرز ستكون مركزية أكثر من ذي قبل، وأن الأجهزة الإلكترونية ستلعب الدور الأكبر في تجميع وإرسال النتائج إلى المراكز الرئيسة للمفوضية.

هذا التحوّل، وفق مراقبين، سيجعل من دقة النظام التقني وكفاءة كوادر المفوضية عاملين حاسمين في ضمان نزاهة الانتخابات وسرعة إعلان نتائجها، خصوصاً في ظل حساسية المشهد السياسي والتحديات الأمنية والاقتصادية التي تمر بها البلاد.

بين من يراها قفزة نحو التحديث، ومن يحنّ إلى رمزية الحبر الأزرق، تقف الانتخابات العراقية المقبلة على أعتاب مرحلة جديدة عنوانها التقنية والشفافية. فإلغاء الحبر واعتماد بصمة العين وتركيب الكاميرات داخل محطات الاقتراع ليست مجرد تفاصيل فنية، بل مؤشرات على تحوّل في فلسفة إدارة الانتخابات نفسها، من الإجراء الورقي إلى النظام الذكي المتكامل.

شاركها.