حمد الناصري
شاءتْ أقدارهُ أنْ يُقيم لـ 15 يوماً في ذلك الفُندق الأربعة نجوم في حيّ تَقسيم التجاري القريب مِن المركز الإداري للعاصمة اسطنبول.. وكعادته في التَجوّل سيراً يستطلع الأزقّة المُجاورة لمكان إقامَته كما يفعل في جميع المُدن التي يزورها لكي لا يُفَوّت أيّة فُرصة للاطّلاع على غرائِب وعجائِب الأمم والبُلدان العامرة بالثقافة والحضارة والتاريخ.. يُحاول قَدْر الإمْكان تقنين اسْتهلاك مُدّخراته مِنْ غير بَذْخٍ كما يوزع نشاطه الجسدي دون أن ينهك نفسه، لكنه رغم حِرْصه وجهده، تراهُ يجلس كُلّ ليلة في المقهى المُجاور للفندق الذي يُقيم فيه ويرغب في الالْتقاء بأشْخاص جُدد.
كان في التاسعة والعشرين من عُمره عندما الْتَقى بفتاة تصغره بعدة سِنين ورغم فارق العُمْر فقد وجَد فيها ما ينشده من طِيْبة وسماحة وبَراءة جذبته إليها فتوطدّت علاقتهما وكانا يَقْضِيان وقتهما في السّمر الجميل معاً.. كان في كلّ لقاء له معها يُحاول أن يكون حديثهما باللُغة العربية برغم أنّ الفتاة الصغيرة تتحدث العربية بلكنة مُكسّرة وكانت قد عرّفته بنفسها من أول لقاء له بها إذ قالت أنا مَرام يَلْدريم من هُنا من اسْطنبول حيّ تَقْسِيم، عائلتي من السُكان الأصْليين، إنْ لم تكُن تعرف تَقْسِيم فلن تعرف تركيا ولا أهلها الاصْليين.؛ لنْ أحدّثك كثيراً عَن تَقْسِيم فهي تتحدّث عن نفسها، ففيها مترو الإنْفاق، نفق تونيل الذي أنْشأ عام 1875 بعد ميترو إنْفاق لندن عام 1863 ويُعتبر ميترو تونيل ثاني خط ميترو في العالم.. وبحيّ تَقسيم يقع مركز أتاتورك كولتر الثقافي الذي اعتقد أنك قد زرته من قبل؟
ذُهِل أحمد وصُدِم بكلامها… وقال في نفسه يَبْدو أنّها كانت تُتابِعني … ماذا تعني.. أنني زُرته وكيف عَلمت بزيارتي للمركز.؟ اسْتأنفت مَرام يلدريم حديثها دون اكْتِراث إلى نظرات الرِّيْبَة التي حامَت في وجهه، وأردفت قائلة.. في ساحات تَقْسِيم تَكْثُر المأكولات التركية والشرقية الشهيّة إضافة للمطاعم الغربيّة السريعة.. مِثْل بيتزا هت، ماكدونالدز، وسابْوِي وبرغر كينغ، وغيرها من الماركات العالمية. وفي اسْطنبول نفسها ” مركز المدينة الإداري ” يُوجد فُندق مرمرة.. اعْتقد تعرف مَرمرة وبحرها الأشْهر عالمياً، ذلك المكان المُفضّل لِكُل المُناسبات، ولْنَقُل أنه الميدان الذي تُكْثِر فيه المناسبات العامة كالمَسِيرات واحْتفالات رأس السنة.. لكنّ مِيْدان حيّ تَقسيم وللأسف اسْتخدم مُؤخراً للتَظاهرات السياسيّة المُنَدّدة للحكومة.. وقد تسْألني لماذا مِيْدان تَقسيم بالذات.؟ أقول لك، هذا الميدان له أهميّة بالغة في نفوس الشعب التركي الأصْلي.! سكتت قليلاً ثم قالت.. هذا كل ما عندي والآن جاء دورك بالحديث، شاركني في شيء.! تحدّث بشَيء.؟ ودع عنك نظرات الاستغراب والاندهاش.؛
وظل صامتًا ينظر إليها باستغراب ودهشة كما صَمتت مرام يلدريم بُرهة ثمّ اردفت.. أنا إنْسانة أحبّ الثرثرة.. وانْسَجم بسرعة مع العربي. فأهْلي عَلّموني أنْ لا فرق بين التركِي والعربي، فالعرب في دمائنا، فتركيا كانت القوة الأكبر عالمياً ناهيك عن العرب والمُسلمين.. أنا لستُ مُخوّلة للحديث عن تركيا الحكومة.؟ أنا لسْتُ ضِدّها ولا معها.؟ وأنا لسْتُ مع الجماعات التي تتنكّر لِبُلدانها إرْضاءًا لِلأجْنبي، تركيا لم تُفرّق بين أحد في المُواطنة ، ليست مُتطرفة .؟ قال أحمد مُقاطعاً مرام يلدريم التركية: أنا لا أخْتلف معك في كلامك ، فليس لديّ معرفة كبيرة بتركيا الجديدة ، ما أعْرفه أنّ تُركيا الإسْلامية كانت قويّة وكان مقر الحكومة يُسمى بـ الباب العالي.؛ وأعرف أنّ تركيا حكمت أجْزاء كبيرة مِن الوطن العربي وآسيا وأوروبا ، وهي تاريخيًا لا تختلف كثيراً عَن مدينة بُهْلا التاريخيّة في بَلدي سلطنة عُمان، والتي بها سُور عظيم جُذوره تمتد إلى أعماق الأرض ، لم تُحدد أعماقه حتى اللحظة والباحثون يعدّونهُ ثانِي أطْول سُور في العالم بعد سُور الصين العظيم ، ولعلّ هنالك تشابهًا تاريخيًا وحضاريًا يربط بين بهلاء وتركيا ، فـ بُهْلاء العظيمة مدينة مُتكاملة ، بها سُوق تجاري قديم جداً وبها مركز للفُخاريات القديمة وصِناعة النسيج وصِباغة الملابس وغيرها .. ويُقال أنّ مدينة بُهْلاء انْفَرَدت عن غيرها من المُدن في عالمنا العربي بأنّ سُورها العظيم يُطَوّقها ويُحصّن قَلْعَتِها من قَبْل الإسلام بأزْمنة سحيقة.. قاطعته الفتاة وقالت كنتُ أريد أنْ اسْألك قَبل أنْ أنْسَى.. هل تتكلّمون باللغة الإنجليزية أكْثر أم العربية…؟ ضحك مُسْتهزئاً. لا يا مرام.. اللغة العربية هيَ اللغة الأصل لدينا ولجمالها وبلاغتها انتشرت في جميع بقاع الأرض.
حتى أنتم هنا تتحدثون بها بطلاقة، وأنا لا أنْكِر أنّ اللغة الإنجليزية هي لُغة عالمية وأضحت كلغة تفاهم والأكثر تداولاً عالمياً وقد رُسّخت كلغة تقارب لأهمّيتها لدى دُول كُبرى مُتحدّثة بها.. لكنّها ليست لُغة العالمْ كله فلكُلّ دولة أو اقْلِيم لُغة خاصّة واللُغة العربية لُغة جميلة وشامِلة.. وهي لُغة أهْل الجنة التي نزل بها القُرآن الكريم، وهيَ اليوم وكما ترينها لُغة مُتداولة.؛
ضلّت ساكتة ولم تبزم، وأخذت تُزيح خصلات من شَعرها من على وجْهها وقالت: فلنُمتّع أنفسنا ولنسْتمتع بلحظات الحياة، فالوقت يمضي، ونحن لم نذهب إلى أي مكان سياحي أو ترفيهي اليوم والحياة لهواً ومتاعًا إلى حين إدْراكنا بأنّا راحلين..
هزّ احْمد رأسه مُوافقاً ومُجاملاً وانسجمَ معها، وقال في نفسه: سُلوك الحياة في تركيا الجديدة، يُطابق غايتها ويُصِيب هدفها.. شُجون بدا يُحرّك ما بداخله من رغبة.. شعرتْ به وأحسّت بأنّ موقفه بدا يلين.. داعبتْ شَعرها وحرّكت جسدها وتمايلتْ.. وبحمحمة خفيفة: اعذرني.. أتمنى أنْ تتفهم بما يليق بك كرجل، فأنتَ تستحقّ.؛
يتبع 2
