حاتم الطائي
◄ زُهران ممداني فارس التغيير في المشهد السياسي الأمريكي
◄ “الثورة الأمريكية الحديثة” يقودها جيل “زد” المُتجاوِز للسرديات الرسمية الكاذبة
◄ أمريكا أمام مفترق طرق بين عالم ترامب المُدمِّر ومسار الإصلاح الديمقراطي
صفعةٌ حادة تلقّاها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إثر فوز زُهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك، مُمثِّلًا للحزب الديمقراطي المُنافِس الأول للحزب الجمهوري الذي يُسيطر حاليًا على المشهد السياسي الأمريكي، لكن الصفعة لم تكن فقط حادة لأنَّ ممداني مرشح ديمقراطي، ولا لأنَّه مسلم؛ بل لأنَّه استطاع حرفيًا أن يفضح ترامب ونخبته الثرية في عقر دارهم، أين؟ في نيويورك عاصمة المال والأعمال العالمية، عاصمة أباطرة العقارات وعلى رأسهم ترامب أكبر سمسار عقاري في العالم، عاصمة أصحاب الثراء الفاحش الذين لا يمثلون سوى 1% من سكان الولايات المُتحدة، والأشد أهمية من ذلك، أن نيويورك معقل عتيد للصهيونية العالمية، ونقطة ارتكاز استراتيجية للوبي اليهودي للتحكُّم في مراكز صنع القرار الأمريكية.
ممداني الشاب المُهاجر الذي لم يُولد أمريكيًا حقق نجاحًا مُذهلًا في قراءة العقل الأمريكي، واستطاع أن يستفيد من الزخم الذي أعقب “طوفان الأقصى” وعدم تصديق الجمهور لا سيما الأجيال الجديدة وتحديدًا جيل “زد” المُدهش للسردية الصهيونية؛ بل واستنكاره الشديد ورفضه المُطلق لحرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني في غزة وكامل تراب فلسطين المُحتلة. استطاع ممداني بكل جُرأة أن يقف في وجه ترامب رغم عدوانيته المعروفة تجاه خصومه، وأقنع الناخبين في عاصمة المهاجرين ومدينة الأقليات العرقية والإثنية، بأن يمنحوه أصواتهم، ولم تفلح جميع المحاولات الترامبية في إلحاق الهزيمة بالرجل، الذي أطلق عبارة تحدٍ غير مسبوقة في تاريخ السياسات الأمريكية، فقد قال ممداني في خطاب النصر مُوجهًا حديثه لترامب: “أقول لك 4 كلمات: ارفع صوت التلفزيون عاليًا”، في لهجة تحدٍ لا مثيل لها تؤكد أنَّ هذا العمدة الجديد سيكون الشوكة في حلق ترامب ومن خلفه الحزب الجمهوري.
وبنجاح ممداني في أولى معاركه السياسية باكتساح، فقد استطاع أن يُزيل الغشاوات عن أعين المجتمع الأمريكي، وأولها: سيطرة الصهيونية اليهودية على أمريكا، والتي تسببت في تخريب الولايات المتحدة، وسعت إلى تجنيد كل رئيس أمريكي لخدمة الكيان الإسرائيلي ورعاية مصالحه داخل أمريكا وخارجها.
ونظرًا لأنَّ ترامب بسياساته الإقصائية واليمينية المتطرفة أحدث شرخًا عميقًا في المجتمع الأمريكي، فقد نجح ممداني في توظيف ذلك والعمل على توحيد الأمريكيين خلف الفكر السياسي الذي يخدم مصالحهم ويتوافق مع ضمير المواطن الأمريكي البسيط، الذي يرى المذابح في غزة وفي كل مكان في العالم تُرتكب بسلاح أمريكي. استفاد ممداني كذلك من موجة الغضب العارم تجاه ترامب وسياسته، والتي تجلّت في المظاهرات المليونية الحاشدة وثورة جيل “زد” ولا سيما طلاب الجامعة ضد السياسات الداعمة لإسرائيل وللأقلية الثرية، على حساب الفقراء والطبقات الاجتماعية الكادحة.
منح ممداني الناخب الأمريكي ما يأمله من مُرشحه، فقد وعد باتخاذ قرارات تخدم المواطن، مثل تجميد الإيجارات السكنية وهي قضية بالغة الأهمية في أمريكا، وخفض الضرائب وتنفيذ حزمة إجراءات تُساعد المواطن الأمريكي على تنفس الصعداء بعد سنوات من الضغوط الاقتصادية والمالية. ولذلك عكس البرنامج الانتخابي لممداني رؤية اليسار الديمقراطي؛ حيث إنَّ الاشتراكية الديمقراطية تؤمن بحقوق الفقراء أولًا، مع العمل على فتح الاقتصاد أمام النمو الرأسمالي، وقد لاقى هذا البرنامج تأييدًا واضحًا نظرًا للسنوات العجاف التي عانى منها المواطن الأمريكي سابقًا.
لا ريب أن زُهران ممداني رسم نقطة تحول كبرى في المشهد السياسي الأمريكي، مثّلت منعطفًا لتصحيح المسار السيئ الذي تسببت فيه سياسات ترامب الفاشلة والتي لا تلبي احتياجات الشعب الأمريكي؛ بل القلة القليلة منهم، وهي فئة الأثرياء التي ينتمي لها ترامب.
وقد أسهمت التناقضات الحادة والصارخة في المجتمع الأمريكي في نجاح البرنامج الانتخابي لممداني؛ فالأغنياء يزدادون ثراءً كل يوم، والفقراء يزدادون فقرًا، ولذلك يمثل ممداني “المُخلِّص” من ويلات هذه السياسات النيوليبرالية، كما إنه أيقونة التغيير السلمي الذي أراده المجتمع الأمريكي في انتخابات الرئاسة الماضية، لكن بسبب غباء الحزب الديمقراطي وإصراره على ترشيح جو بايدن ومن بعده كاميلا هاريس، نجح ترامب بكل سهولة، فقط لأنَّه لم يجد مرشحًا قويًا يقف أمامه، وليس لأنه صاحب شعبية كبيرة.
ممداني هو النموذج الأمريكي الأكثر عدالة والتزامًا بالقيم والمبادئ الإنسانية، في مواجهة ترامب وزُمرته الذين لا يسعون إلّا وراء المال وتحقيق الأرباح على حساب المبادئ والعدالة والمساواة.
وبينما يمثل ترامب أثرياء أمريكا، القلة التي تستحوذ على 90% من الثروات، فإنَّ ممداني يمثل المواطن الأمريكي العادي القادم من خلفيات ثقافية متنوعة، والمؤمن بـ”الحلم الأمريكي”، حلم العدالة والرخاء والمساواة والحقوق المدنية. ممداني صاحب الـ34 عامًا، يمثل فئة الشباب وجيل “زد” الراغب في التغيير وكسر الاحتكارات ورسم مُستقبل أكثر عدالة للطبقات المسحوقة ومعظمهم من الأقليات والمُلوَّنين والمهاجرين.
ترامب ليس فقط رئيسًا سيئًا مُلطَّخة يداه بدماء الشعب الفلسطيني، لكنه عديم الأخلاق، فبينما يئن الجوعى والمُعدمين في شوارع بروكلين وبرونكس، يدعم ترامب الأثرياء والأمراء والنافذين الذي يجتمعون في جزيرة إبستين لمُمارسة أبشع أنواع الرذيلة، بالتوازي مع إعلام رسمي فاسد لا يُعبِّر عن القضايا الحقيقية.
لقد تسببت هذه البيئة التي تعج بالأكاذيب ولا سيما ما حدث أثناء حرب غزة في تهيئة الأجواء للتغيير المنشود؛ إذ إنَّ جيلًا صاعدًا رفض الرواية الرسمية الكاذبة وتضامن وتعاطف مع أصحاب الحق في فلسطين، وأدرك حجم الفُحش السياسي الذي يُمارس باسم “الديمقراطية” و”الانتخابات النزيهة”!
ويبقى القول.. إنَّ نجاح ممداني وضع أول قدم للسياسة الأمريكية على مفترق الطرق، الفاصل بين طريق ترامب المُدمِّر وعالم عبادة المال وغياب القيم واحتكار الثروات في يد الأقلية البيضاء، وطريق الإصلاح الذي يقوده ممداني المُرتكز على مبادئ الحرية والعدالة والمساواة.. إنه صراعٌ تشتعل جذوته تحت رماد الفساد السياسي والرذيلة المستشرية بين النخب الأمريكية، صراعٌ سينفجر في وجه ترامب وأمثاله قريبًا جدًا، وسيُولَد نظامٌ جديدٌ أكثر عدالة، قوامُهُ الطبقة الوسطى المُؤمنة بالقيم الإنسانية، والقادرة على قيادة العالم بوعيٍ ومسؤولية.
