أ. د. جهان العمران

هل سبق وأن شعرت بالإنهاك التام وأنت ترتدي أقنعة لا تُعد ولا تُحصى من أجل كسب رضا الجميع بلا استثناء على حساب خسارة ذاتك؟ إن كنت كذلك فاعلم أن تفكيرك لا عقلاني.

يقضي كثير من الناس أعمارهم في سباق محموم سعياً لكسب محبة الجميع بلا استثناء ونيل رضاهم، وكأن هذا القبول هو مفتاح القيمة الذاتية. وينسون أن أثمن علاقة يمكن أن يبنوها هي علاقتهم مع خالقهم وعلاقتهم مع أنفسهم. فالركض خلف رضا الجميع ليس فقط مرهقاً، بل هو أيضاً تفكير غير عقلاني، كما وصفه عالم النفس ألبرت أليس، الذي اعتبر أنه من أكثر الأفكار اللاعقلانية irrational thoughts انتشاراً، وهو اعتقاد الإنسان بأنه يجب أن يكون محبوباً من الجميع دون استثناء. وهذا ضرب من ضروب المستحيل.

حين يربط الإنسان قيمته برأي الآخرين، فإنه يدخل دائرة مفرغة من القلق والخوف من الرفض، فيسعى لإرضائهم على حساب ذاته، ويقيس نفسه بمدى رضاهم عنه. لكنه بذلك يسلك طريقاً لا نهاية له، لأن الناس متباينون في طبائعهم وأذواقهم، ومختلفون في أمزجتهم. كما أن بعض البشر بطبعهم متقلّبون، وأحكامهم لا تستقر. لذا فإنه لن يحصل على مبتغاه أبداً مهما حاول.

كم من امرأة أرهقت نفسها في مجاملة الجميع حتى تلاشت ملامحها الحقيقية، تبتسم وهي متعبة، وتعتذر وهي المظلومة، فقط لتحافظ على صورة «المحبوبة». وكم من رجل أثقل كاهله السعي للكمال في أعين الآخرين، يخفي ضعفه، ويحمّل نفسه فوق طاقته حتى لا يُنتقد أحد ويلقى قبولاً من الجميع بلا جدوى. بل وحتى الطفل، حين يُربَّى على أن الحب يُمنح لمن يُرضي الجميع، يكبر خائفاً من الخطأ، متوتراً من الرفض، مُجبراً على أن يترك على سجيته أو يتخلّى عن طبيعته البريئة ليُرضي الجميع.

ولعل قصة جحا وابنه مع الحمار تختصر هذه المفارقة: عندما ركب الابن وحده قيل «يا للعقوق!»، وعندما ركب الأب قيل «يا للقسوة!»، وحين ركب الاثنان قيل «أرهقا الحمار!»، فلما مشيا بجانبه قيل «ما أغباهما! لديهما حمار ولا يركبانه!».. عندها فقط أدرك جحا أن رضا الناس غاية لا تُدرك، وأنهم يغيّرون أحكامهم بصورة مستمرة.

ولعل الأعمق من ذلك، أن ندرك أنه حتى الملائكة، رغم طهرها وصفائها، تبغضها الشياطين. فكيف يتوقع الإنسان، وهو بشر، أن يسلم من الكراهية أو أن يكون محبوباً من الجميع؟ ليس مطلوباً أن يحبك الكل، فبعض القلوب لا ترى إلا ما يشبهها. وكفاك رضا الله، ورضا الوالدين فهما نبراسك الذي يضيء لك دربك نحو الفضيلة والحق. أما السعي لمسايرة الناس جميعاً فهو طريقٌ للإنهاك وخسارة الذات. القبول الحقيقي يبدأ من الداخل، حين نُدرك أن قيمتنا لا تُقاس برضا الآخرين، بل باحترامنا لذواتنا.

كن صادقاً مع نفسك، ولا تساوم على حقيقتك لأجل إعجاب عابر. فمن رضي عنك، فذلك خير، ومن لم يرضَ، فتلك طبيعته، وهذه مشكلته هو وليست مشكلتك أنت. إذن عش كما أنت، مرتاحاً بسلامك الداخلي، مؤمناً بمبادئك الأخلاقية، وقناعاتك الشخصية دون أن تركض لاهثاً وراء قبول زائف، فذلك أصدق طريق إلى السعادة النفسية وراحة البال.

* أستاذة جامعية في علم النفس

شاركها.