د. علي محمد الصلابي خاص اخبار تركيا
في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه بلغت الدولة الإسلامية أوج اتساعها واستقرارها، فازدادت الحاجة إلى إدارة واعية تنظم شؤون الأمصار الواسعة. اتسمت سياسة عثمان بالحكمة والعدل، فكان حريصًا على اختيار ولاته وفق معايير الكفاءة والأمانة، معتمدًا على الشورى ومصلحة المسلمين في تعيينهم أو عزلهم. وقد وجَّه إليهم تعليماته الجامعة التي أكدت على أن يكونوا رعاةً لا جباةً، وأن يسيروا بسيرة العدل والرحمة. كما اهتم بوحدة الأمة الدينية والإدارية، فأمر بجمع المصحف وتوحيد قراءته، مما جعل خلافته مثالًا في القيادة الراشدة والإدارة القائمة على القيم الإسلامية.
تولَّى عثمان رضي الله عنه الخلافة في بداية سنة 24هـ، وكان ولاة عمر رضي الله عنه، ينتشرون في الأمصار الإسلامية، وقد أقَرَّهم عثمان في ولاياتهم عاماً كاملاً، ثمَّ باشر بعد ذلك العزل، والتَّعيين في هذه الأمصار بمقتضى سلطته، وحسب ما يراه في مصلحة المسلمين، ولعلَّ عثمان في ذلك قد اتَّبع وصيَّة عمر رضي الله عنه الّتي أوصى فيها: أن لا يُقَرَّ لي عاملٌ أكثر من سنةٍ، وأقرُّوا الأشعريَّ أربع سنين (1).
وكان عثمان رضي الله عنه في سياسته مع الولاة يعتمد على مشورة الصَّحابة في كثير من تصرُّفاته، كما أنَّه قام بضمِّ بعض الولايات إلى بعضها؛ لما يراه في مصلحة المسلمين، ولذلك قد حدَّد الولاة إلى حدٍّ ما في بعض المناطق، فقد ضمَّ البحرين إلى البصرة، كما ضمَّ بعض ولايات الشَّام إلى بعضها الآخر نتيجةً لوفاة بعض الولاة، أو طلبهم الإعفاء من العمل، وقد كان عثمان رضي الله عنه دائمَ النُّصح لولاته بالعدل، والرَّحمة بين النَّاس، فكان أوَّل كتبه إلى ولاته بعد مبايعته خليفة للمسلمين: أمَّا بعد: فإنَّ الله أمر الأئمَّة أن يكونوا رعاةً، ولم يتقدَّم إليهم أن يكونوا جباةً، وإنَّ صدر هذه الأمَّة خُلقوا رعاةً، ولم يُخلقوا جباةً، وليوشكنَّ أئمتكم أن يصيروا جباةً، ولا يكونوا رعاةً، فإذا عادوا كذلك؛ انقطع الحياء، والأمانة، والوفاء، ألا وإنَّ أعدل السِّيرة أن تنظروا في أمور المسلمين، وفيما عليهم، فتعطوهم ما لهم، وتأخذوهم بما عليهم، ثمَّ تثنُّوا بالذِّمَّة فتعطوهم الّذي لهم، وتأخذوا بالّذي عليهم، ثمَّ العدو الّذي تنتابون، فاستفتحوا بالوفاء (2).
ونحن نرى من هذا: أنَّ عثمان حدَّد لولاته معالمَ السِّياسة، الّتي يجب أن يسيروا عليها، من إعطاء الحقوق للمسلمين، ومطالبتهم بما عليهم من واجباتٍ، وإعطاء أهل الذِّمَّة حقوقَهم، ومطالبتهم بما عليهم من واجباتٍ، وبالوفاء حتَّى مع الأعداء، وبالعدل في ذلك كلِّه، وأن لا يكون همُّهم جباية المال (3)، كما كان عثمان رضي الله عنه يكتب إلى عمَّاله ببعض التَّعليمات الخاصَّة في الأمور المستجدَّة؛ الّتي تتعلَّق بإداراتهم للولايات، إضافةً إلى كتبه العامَّة والّتي كان يصدر فيها تعليماتٌ محدَّدةٌ يلتزم بها الجميع، ومن ذلك إلزامه النَّاس في الولايات بالمصاحف الّتي كُتبت في المدينة على ملأ من الصَّحابة، حيث أرسل مصاحف إلى كلٍّ من الكوفة، والبصرة، ومكَّة، ومصر، والشَّام، والبحرين، واليمن، والجزيرة بالإضافة إلى مصحف المدينة (4)، وقد أمر عثمان بجمع المصاحف الأخرى، وإحراقها، وذلك بموافقة الصَّحابة في المدينة، كما ورد ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه (5)، كما كان عثمان رضي الله عنه حريصاً على أن يتنافس الأمراء فيما بينهم في الجهاد، وفتح بلدانٍ جديدةٍ، فقد كتب إلى عبد الله بن عامر في البصرة، وإلى سعيد بن العاص في الكوفة يقول: أيُّكما سبق إلى خراسان فهو أميرٌ عليها، ممَّا دفع ابن عامر إلى فتح خراسان، وسعيد بن العاص إلى فتح طبرستان (6).
وقد كان عثمان يشترط بعض الشُّروط على الولاة أحياناً ليضمن أن يكون تصرُّفهم في صالح المسلمين، ومثال ذلك: أنَّ معاوية بن أبي سفيان كتب إلى عثمان يهوِّن عليه ركوب البحر إلى قبرص، فكتب إليه عثمان: فإن ركبت البحر، ومعك امرأتَك، فاركَبْه مأذوناً لك، وإلا؛ فلا. فركب البحر، وحمل امرأته.
المصادر والمراجع:
([1]) سير أعلام النبلاء، الذهبي، (2/391).
(2) تاريخ الطَّبري، (5/244).
(3) الولاية علي البلدان في عصر الخلفاء الراشدين، عبدالعزيز بن ابراهيم العمري، (1/215).
(4) 55. تاريخ المدينة، أبو زيد عمر بن شبَّة النَّميريُّ البصريُّ، تحقيق: محمود شلتوت، نشر السَّيد حبيب محمود أحمد، المدينة، 1393هـ، (3/997).
(5) المصدر السَّابق نفسه، ص (3/995 996).
(6) تاريخ اليعقوبيّ، (2/166).
