اخبار تركيا
تناول مقال للكاتبة والباحثة المصرية صالحة علام، بموقع الجزيرة مباشر، التحوّل في الموقف الأمريكي تجاه مشاركة تركيا في مستقبل غزة، وكيف حسمت واشنطن قرارها بدعم الوجود التركي رغم الاعتراضات الإسرائيلية المتصاعدة.
وتشرح الكاتبة دوافع الولايات المتحدة في الاستفادة من نفوذ أنقرة، خاصة قدرتها على التأثير في حماس ودورها الحاسم في إنجاح المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار الذي يسعى من خلاله ترامب إلى تقديم نفسه “صانعًا للسلام”.
كما تستعرض أسباب القلق الإسرائيلي من حضور تركيا العسكري والأمني والإنساني داخل القطاع، باعتباره مساسًا بجوهر نفوذها الإقليمي وتوازن القوى في الشرق الأوسط. وترصد كذلك التحركات التركية الإقليمية والدبلوماسية التي سبقت قرار مجلس الأمن.
وفيما يلي نص المقال:
يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تأخذ بعين الاعتبار الاعتراضات الإسرائيلية على إشراك تركيا بوصفها وسيطًا مؤثرًا وفعّالًا في خططها المستقبلية لغزة، إذ على الرغم من تزايد التصريحات الإسرائيلية الرافضة بشكل قاطع لأي دور تركي محتمل داخل القطاع، سواء كان عسكريًّا أو أمنيًّا أو إنسانيًّا، فإن كافة الدلائل والمعطيات تشير إلى وجود تركي قوي في مستقبل قطاع غزة، بدعم مطلق من الولايات المتحدة الأمريكية، التي ترى أن تركيا يمكنها أن تؤدي دورًا مهمًّا وبنّاءً في تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق، مثلما فعلت خلال المرحلة الأولى.
حالة عدم اليقين التي شابت موقف الإدارة الأمريكية في الأسابيع الماضية، بشأن مشاركة تركيا في القوة العسكرية المنوط بها حفظ السلام في غزة، انتهت لمصلحة تركيا.
فواشنطن، التي بدت متأرجحة بين تعاطفها مع الرفض الإسرائيلي وتفهّمها لأسبابه، ورغبتها في إنجاح خطة الرئيس ترامب الذي يسعى للحصول على لقب “صانع السلام” عبر استثمار الدبلوماسية التركية وما تتمتع به من تأثير كبير ونفوذ قوي لدى حماس، وازنت بين مكاسبها التي ستجنيها من وراء هذا الاتفاق بدعم من تركيا، وما يمكن أن تخسره إرضاءً لحليفتها إسرائيل، وحسمت موقفها سريعًا لمصلحة تحقيق رغبة أنقرة في المشاركة بقوة حفظ السلام.
وإن كان ذلك لن يكون مجانًا، بل له ثمنٌ عليها أن تدفعه في القريب العاجل، وفق تصريحات توم براك، السفير الأمريكي في أنقرة، الذي أعلن بكل وضوح أن:“تركيا ستشارك، لأنه لولاها ما كان يمكن التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة. لقد لعبت الدبلوماسية التركية دورًا حاسمًا في التوصل إلى الهدنة، ولا يمكن تجاهل مثل هذا الأمر وإقصاؤها عن المشهد الآن”.
وأضاف باراك: “أُراهن أنه إذا تماسكنا واستمر الزخم الحالي، فسنشهد توقيع اتفاقية تجارية بين تركيا وإسرائيل في القريب العاجل”.
إذن، عودة العلاقات التجارية في هذه المرحلة هي شرط واشنطن للسماح بمشاركة قوات تركية ضمن القوات الدولية التي ستتمركز في غزة، على اعتبار ذلك بداية لمصالحة مستقبلية بين البلدين، ومدًّا لجسور الثقة بينهما مرة أخرى، تمهيدًا لعودة علاقاتهما إلى سابق عهدها برعاية كاملة من البيت الأبيض، الذي يثمّن موقف القيادة السياسية التركية ودعمها لخطط ترامب، إلا أنه يدرك تمامًا أن هناك الكثير من المكاسب التي ستجنيها تركيا على الصعيدين الداخلي والإقليمي من وراء هذا الدعم.
وجاء التأكيد على حسم واشنطن لموقفها الداعم للوجود التركي في غزة هذه المرة على لسان نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس، الذي صرّح خلال زيارته لإسرائيل مؤخرًا بأن“تركيا أدّت دورًا بنّاءً للغاية في مرحلة التفاوض للتوصل إلى الاتفاق، وأنها ستواصل القيام بذلك الدور في المستقبل”.
تركيا، التي تطمح إلى أن يكون لها حضور قوي على الساحة الفلسطينية، استبقت جلسة تصويت مجلس الأمن على مشروع قرار أمريكي يتضمن مقترح تشكيل قوة دولية وعدد أفرادها ونوع الأسلحة التي سيسمح بحملها والمهام المنوطة بها وطرق تمويلها والفترة الزمنية لأداء مهمتها، بعقد قمة عربية إسلامية ضمّت وزراء خارجية كل من قطر، والسعودية، والإمارات، والأردن، وباكستان، وإندونيسيا، للاتفاق على موقف موحّد والتأكيد على ضرورة أن يحكم الفلسطينيون أنفسهم بأنفسهم، وأن يضمنوا أمن القطاع واستقراره بعيدًا عن التدخلات الأجنبية الغربية، على أن يكون دور المجتمع الدولي داعمًا لهم أمنيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا.
هذه التحركات التركية أثارت الكثير من الخوف والقلق لدى دولة الاحتلال، التي أصبحت ترى في أنقرة عدوًّا حقيقيًّا لها ومنافسًا شرسًا يسعى لتقويض حلم قيادتها للشرق الأوسط، ويقف حجر عثرة أمام خططها التوسعية، ويقوّض فرص هيمنتها الأمنية على مقدرات المنطقة.
وهو ما يؤكد أن الصراع التركي الإسرائيلي ليس صراعًا دبلوماسيًّا، وإنما هو في حقيقته صراع جيوسياسي تتقاطع فيه المصالح والأهداف، وأن غزة بمنظور المواجهة الدائرة بينهما تحولت إلى ساحة صراع مركزية لهما؛ فمن سيفرض سيطرته عليها ستكون له زعامة المنطقة دون منافس حقيقي.
تتمحور الأسباب الحقيقية للمخاوف الإسرائيلية من الوجود التركي في غزة حول عدة نقاط:
1 نجاح تركيا في إقناع حماس بخطة ترامب والتوقيع على اتفاق إنهاء الحرب في غزة عزّز من موقعها باعتبارها قوة مؤثرة في المجتمع الدولي يمكن الاعتماد عليها في التوصل إلى اتفاقات إقليمية ودولية تنهي التوترات وتوقف الحروب، لا سيما الحرب الروسية الأوكرانية، محل اهتمام الرئيس الأمريكي، وهو ما يعني إمكانية زيادة اعتماد واشنطن عليها، وبالتالي تراجع مكانة إسرائيل.
2 عودة تركيا لتتصدر المشهد الفلسطيني ووجودها في غزة يعنيان سعيها للحفاظ على استمرار حماس لتكون شريكا فعليا في مراحل خطة ترامب لحل القضية الفلسطينية، إلى جانب حمايتها لما بقي من مقاتلي حماس داخل القطاع، وهو ما يعني فعليًّا فقدان إسرائيل كامل سيطرتها على المناطق الحدودية لغزة.
3 الوجود التركي في غزة بكافة أشكاله العسكرية والأمنية والإنسانية يعني من وجهة نظر تل أبيب عودة النفوذ الإسلامي إلى القطاع، وتحول الدعم السياسي التركي من خارج غزة إلى دعم عسكري وأمني داخلها، مما سيحول القطاع إلى قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في وجه الاحتلال في أي وقت، فتخسر إسرائيل الكثير من أهدافها ومخططاتها بل وهيبتها أمام المجتمع الدولي.
4 تصريحات أردوغان بشأن “وقوفه إلى جانب الأشقاء الفلسطينيين” وتهديده بإمكانية التدخل العسكري ضد دولة الاحتلال، مثلما فعل في كل من أذربيجان وليبيا وسوريا، كانت بمثابة جرس إنذار للمسؤولين في تل أبيب الذين يدركون أنه يمكن أن يفعل ما يهدد به إذا استدعت الضرورة ذلك. فما الذي يمكن أن يحدث إذا كان له وجود عسكري داخل غزة؟
5 محاولات أردوغان المستمرة لتأليب المجتمع الدولي على دولة الاحتلال، واصفًا الحرب في غزة بأنها خطر أصبح يهدد دول المنطقة بأكملها، مطالبًا بممارسة كافة الضغوط العسكرية والاقتصادية على إسرائيل لوقف تهورها والحد من جرائمها، مما يعني استمراره في تعريض مصالح إسرائيل للخطر.
6 نجاح أردوغان الشخصي والسياسي في إقناع قادة حماس بالتوقيع على خطة ترامب والسماح بدخول قوات تركية ضمن قوة حفظ السلام الدولية، سيعزز مكانته ويرفع من أسهمه في أن يكون زعيمًا للعالم الإسلامي، وهو ما لن تمنحه له إسرائيل على طبق من ذهب.
7 مشاركة تركيا في أي ترتيبات تتعلق بمستقبل قطاع غزة من شأنها أن تنهي الغطرسة الإسرائيلية وتضعف دعايتها بأنها الوحيدة القادرة على فرض الأمن والاستقرار وإعادة التوازن إلى القطاع.
يبرر العديد من المسؤولين الإسرائيليين رفضهم لوجود تركي في غزة بعدم حيادية القيادة السياسية التركية الداعمة لحركة حماس، التي تراها حركة تحرر وطني، بينما تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية وتصف القيادات الإسرائيلية بأنهم نازيون جدد مثل هتلر وموسوليني وستالين.
كما اتخذت أنقرة العديد من الإجراءات العدائية للإضرار بتل أبيب، كقطع علاقاتها التجارية معها، وإغلاق مجالها الجوي أمام طائراتها، ومؤخرًا أصدرت قرارات اعتقال بحق 37 مسؤولًا إسرائيليًّا، بينهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بتهم ارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد المدنيين في غزة.
ورغم الرفض الإسرائيلي، فإن المصالح التي تحكم سياسات الدول أجبرت الولايات المتحدة في نهاية المطاف على دعم الموقف التركي والتقليل من المخاوف الإسرائيلية التي تراها واشنطن غير مبرّرة، وتندرج ضمن فقدان الثقة بين الجانبين، وهو ما يمكن معالجته بالطرق الدبلوماسية والرهان على إمكانية استعادة زخم علاقتهما السابقة عبر بوابة المصالح الاقتصادية والتجارية.
