لم تكن الأرجنتين تتوقع أن تتحوّل، في غضون أشهر قليلة، من لاعب ثانوي في سوق فول الصويا العالمية إلى شريك استراتيجي لبكين في لحظة مفصلية من الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين. 

فمع إقدام إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في عام 2025 على فرض رسوم جمركية بنسبة 100% على الواردات الصينية، وجّهت بكين ضربة مضادة تمثلت في وقف استيراد فول الصويا الأميركي، وفرض رسوم إضافية بنسبة 20% عليه، ما أفقد السلعة الأميركية قدرتها التنافسية. 

وفي الوقت الذي بدأت فيه واشنطن، وبكين تبنيان أسواراً تجارية مرتفعة، انفتحت أمام أميركا الجنوبية نافذة واسعة، وجدت فيها الأرجنتين فرصة استثنائية لاقتناص حصة طالما كانت حكراً على الولايات المتحدة.

قرار حرّك المياه الراكدة في السوق

في عام 2024، لم تتجاوز حصة الأرجنتين من واردات الصين من فول الصويا 3.9% فقط، أي نحو 4.1 مليون طن من أصل 105 ملايين طن استوردتها بكين، ولكن مع اشتداد التوتر التجاري، اتخذت حكومة بوينس آيرس قراراً جريئاً في سبتمبر 2025 بتعليق ضريبة تصدير الحبوب (26%) بصورة مؤقتة، حتى تحقق صادراتها مستهدف 7 مليارات دولار. 

هذا القرار حرّك المياه الراكدة في السوق، ودفع المشترين الصينيين إلى توقيع عقود جديدة تراوحت بين 10 و15 شحنة “باناماكس” البالغة 65 ألف طن للشحنة الواحدة، وبأسعار تفوق السوق العالمية بما بين 2.15 و2.30 دولار للبوشل (وحدة قياس أميركية للسلع الزراعية الجافة تعادل 27.22 كيلو من فول الصويا)، بحسب وزارة الزراعة الأرجنتينية.

وفي ما يتعلق بهذا التحوّل، يقول خورخي بتروكيني، وهو مدير شركة تصدير في بوينس آيرس، إن “تعليق ضريبة التصدير كان الشرارة التي انتظرها المشترون الصينيون، و خلال ثلاثة أسابيع فقط وقّعنا عقوداً تعادل كامل صادراتنا لعام 2024 تقريباً.. الصين تبحث عن استقرار في الإمدادات، وقد قدمت لها الأرجنتين ذلك في اللحظة المناسبة”.

هذا الزخم لم يكن ليكتمل دون الدور المتنامي للشركات الصينية العملاقة، وعلى رأسها COFCO International، التي باتت تمثل 15.6% من إجمالي صادرات الحبوب الأرجنتينية، وتدير قدرة معالجة يومية تصل إلى 20.5 ألف طن داخل مجمعي (ميناء سان مارتين و تيمبوس). 

كما عزّزت الصين حضورها عبر تمويل مشاريع البنية التحتية الحيوية، من أبرزها تحديث خطوط السكك الحديدية (سان مارتين وبيلجرانو) بقرض بلغت قيمته 4 مليارات دولار، ما سمح بتقليص زمن نقل الحبوب من الشمال الزراعي إلى الموانئ، وزيادة القدرة اللوجستية لشبكة تمتد على 1600 كيلومتر، وتشمل 3500 عربة، و107 قاطرات.

في حديثه مع “الشرق” قال خبير اللوجستيات في غرفة التجارة الخارجية الأرجنتينية إستيبان باربا: “السكك الحديدية كانت نقطة ضعف تاريخية في سلسلة التوريد الزراعية.. دخول التمويل الصيني أعاد رسم الخريطة، وخفّض تكاليف النقل بنسبة تتراوح بين 18، و22%، وهي نسبة حاسمة لقطاع يعاني من هوامش ربح ضيقة”.

السورجم.. حبوب خرجت من الظل

لم تقتصر الاستفادة على فول الصويا فقط؛ إذ تحوّل السورجم (الذرة الرفيعة) إلى أحد أبرز الرابحين من الحرب التجارية، فقبل الأزمة، كانت الولايات المتحدة تؤمن نحو 80% من واردات الصين من هذه الحبوب، ولكن بعد فرض بكين تعريفات تجاوزت 25% ووقف تراخيص عدد من الشركات الأميركية مطلع 2025، انهارت الصادرات الأميركية بنسبة 95% خلال الربع الأول.

وسط هذا الفراغ، برزت الأرجنتين بسرعة، فوفق وزارة الزراعة الأرجنتينية بلغت صادرات السورجم 1.8 مليون طن في 2024 بقيمة 257 مليون دولار (+89% عن 2023)، وبين يناير وأغسطس 2025 وصلت الصادرات إلى 1.23 مليون طن، ذهب 1.22 مليون طن منها إلى الصين 99%.

مع ارتفاع الأسعار لمستوى 240 دولاراً للطن، يُتوقع أن تتجاوز قيمة موسم 2025/2026 نحو 480 مليون دولار.

ولتثبيت موقعها، خفّضت الحكومة في يوليو 2025 رسوم التصدير من 12% إلى 9.5%، ما منح السورجم الأرجنتيني أفضلية في سوق الأعلاف الحيوانية الصينية، حيث يذهب 60% من الاستهلاك إلى مزارع الدواجن.

يقول جوستافو ميروجليو، وهو مزارع ومنتج حبوب في ريف بوينس آيرس وعضو بورصة روزاريو: “قبل عامين فقط كان السورجم محصولاً ثانوياً.. اليوم أصبح جزءاً أساسياً من محفظة المحاصيل لدينا، وقد ارتفع عدد المزارعين الذين يزرعونه بنسبة 45%.. الصين فتحت لنا باباً لم نكن نتخيلها”.

اللحوم.. المستفيد الهادئ من صراع العمالقة

وإلى جانب الحبوب، حققت لحوم الأبقار الأرجنتينية قفزة لافتة عام 2025. فوفق بيانات هيئة الترويج للحوم (IPCVA)، بلغت قيمة الصادرات بين يناير وأغسطس 2025 نحو 2.26 مليار دولار (+24%)، بحجم 539 ألف طن مكافئ لحوم بالعظم، وبسعر متوسط 5200 دولار للطن المتري.

الصين وحدها استحوذت على 75% من هذه الشحنات، بدعم من ارتفاع الطلب وتعافي الأسعار العالمية واستقرار سعر الصرف المحلي، وأما الولايات المتحدة، فتوجّهت إلى الأرجنتين لسدّ النقص التاريخي في قطيعها الأدنى منذ عام 1951، وتستعد واشنطن لرفع الحصة المعفاة من الرسوم من 20 ألف طن إلى 80 ألف طن (+300%)، مستبدلة بذلك جزءاً من الواردات البرازيلية التي تواجه رسوماً أميركية وصلت إلى 76%.

وقال كارلوس تراجويس منتج ومصدر لحوم أبقار: “نعيش لحظة استثنائية، فالصين والولايات المتحدة رغم التوتر تشتريان منا في الوقت ذاته.. هذا يحدث نادراً في تاريخ تجارة اللحوم، أنواع اللحوم المصدرة إلى الصين تختلف عن تلك الموجهة إلى الولايات المتحدة، وبالتالي لا يوجد تضارب تجاري بين السوقين باستثناء العوامل السياسية. وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، يمكن للأرجنتين تصدير كميات كبيرة إلى الصين، وفي الوقت ذاته تعزيز حضورها تدريجياً في السوق الأميركية”.

مكاسب اليوم وتحديات الغد

ورغم القفزة الكبيرة، تواجه الأرجنتين تحديات هائلة مثل ارتفاع تكاليف الأسمدة، والمبيدات، والشحن، بالإضافة إلى ضغوط مالية نتيجة أسعار الفائدة المرتفعة، ومخاطر مناخية مرتبطة بالظواهر الطبيعية مثل “إل نينيو” و”إل نينيا”، يضاف إلى كل ذلك احتمال عودة الصين لشراء الصويا الأميركي إذا هدأت التوترات مع واشنطن، وتوصل الطرفان إلى اتفاقية تجارية جديدة.

ويمكن أن تؤدي ظاهرة “إل نينيو” إلى الجفاف، أو هطول أمطار غزيرة أكثر من المعتاد، ما يرفع درجات الحرارة العالمية، بينما تسبب “لا نينا” تأثيراً معاكساً.

لكن يبدو أن بوينس آيرس تستعد جيداً لهذه المخاطر، عبر تنويع أسواق التصدير ودمج محاصيل جديدة في الدورة الزراعية، إضافة إلى تعزيز التعاون التكنولوجي مع الشركات الصينية.

يختتم خورخي بتروكيني حديثه قائلاً: “نعرف أن اعتماد الصين علينا بنسبة كبيرة فرصة، لكنه أيضاً مصدر قلق، لذلك نعمل على التوسع في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، وعلى تنويع محاصيلنا بين الصويا والذرة والسورجم. المستقبل يحمل فرصاً، لكنه يتطلب شجاعة في اتخاذ القرار”.

شاركها.