بعد نحو 3 أعوام من توقيع “اتفاق بريتوريا للسلام” في 2022، والذي أنهى واحدة من أعنف الحروب في إفريقيا، تعود إثيوبيا مجدداً إلى واجهة المشهد الإقليمي، وسط تصاعد المخاوف من انهيار التسوية الهشة بين الحكومة الفيدرالية، وجبهة تحرير تيجراي.
وخلال شهري أكتوبر ونوفمبر تجددت الاشتباكات المسلحة بين الجانبين، ما حوّل الحدود الشمالية إلى ساحة مواجهة بالوكالة بين أطراف متنازعة، فيما تبادل الجانبان الاتهامات بخرق الاتفاق، ما أعاد التساؤلات بشأن مدى صمود السلام “الإثيوبي – الإثيوبي”.
وأشارت تقارير استخباراتية حديثة، إلى ضربة بطائرة مسيّرة قرب حدود إقليم عفر المتاخم لتيجراي، وهو ما نفته الحكومة الفيدرالية، لكنها أقرت بوجود “تحرّكات عسكرية محدودة لحماية الأمن القومي”.
تأسست “جبهة تحرير تيجراي” في عام 1975، وأدت دوراً محورياً في الإطاحة بنظام، منجستو هيلا مريام، في عام 1991، ثم هيمنت لاحقاً على الساحة السياسة الإثيوبية من خلال تشكيل نظام فيدرالي إثني للبلاد، استمر لأكثر من 3 عقود.
وتعود جذور النزاع إلى عام 2018، حين تولّى رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، مقاليد الأمور في أديس أبابا، لينهي هيمنة “جبهة تحرير شعب تيجراي” على مفاصل الدولة. ومع تفكيك النظام القديم وإقصاء قيادات الجبهة من مواقع النفوذ، تصاعدت الخلافات بشأن تقاسم السلطة وصلاحيات الأقاليم.
وفي نوفمبر 2020، انفجر الخلاف إلى حرب شاملة بعد اتهام الحكومة الفيدرالية لقوات تيجراي بمهاجمة قاعدة عسكرية شمال البلاد، لترد أديس أبابا بحملة عسكرية واسعة شاركت فيها قوات من إقليم أمهرا، والجيش الإريتري.
وأنهى اتفاق بريتوريا للسلام، الموقع في نوفمبر 2022، بين جبهة تحرير تيجراي والحكومة الإثيوبية برعاية الاتحاد الإفريقي والولايات المتحدة، حرباً ضروس، استمرت لأكثر من عامين، راح ضحيتها مئات الآلاف، وخلفت دماراً واسعاً.
تصدّع داخلي وصدامات جديدة
من رحم التوتر الداخلي، برز فصيل جديد يُعرف باسم “قوة تيجراي للسلام” TPF، تشكّل من قيادات سابقة منشقّة عن “قوات دفاع تيجراي” TDF و”جبهة التحرير” TPLF. هذا الفصيل أعلن مناطق في الحدود الجنوبية الشرقية “أرضاً حرّة”، وشنّ مواجهات محدودة قرب حدود الإقليم.
وفي وقت سابق من الأسبوع الجاري، اتهمت السلطات في إقليم عفر الإثيوبي، جبهة تحرير شعب تيجراي TPLF، بشن موجة جديدة من الهجمات على الإقليم، انطلاقاً من تيجراي، وهو ما يعني انتهاكاً لاتفاق بريتوريا للسلام.
وقالت السلطات في عفر، إن قوات تيجراي “غزت عمق 15 كيلومتراً داخل الإقليم، وسيطرت على 6 قرى”، وأطلقت النار على المدنيين، وهو ما نفته إدارة تيجراي، مشيرة إلى أن “مليشيات مدعومة من الحكومة الفيدرالية” هي من بدأت الهجوم، وحمّلت الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا، مسؤولية تقويض اتفاقية بريتوريا.
في تعليق على هذه التطوّرات، قال الكاتب العفري، عبد القادر رفه، في تصريحات لـ”الشرق”، إن “الهجوم الأخير أدى إلى موجة نزوح واسعة من مناطق إقليم عفر نحو مناطق مجاورة، وسط غياب أي ردٍّ من القوات الفيدرالية أو سلطات الإقليم على الانتهاكات الجارية”.
وأضاف أن “جبهة تحرير أورومو OLF، ومليشيا فانو التابعة لإقليم أمهرة، تنشطان على الشريط الحدودي بين أمهرة وأوروميا، وتمكنتا مؤخراً من السيطرة على قرى ومناطق داخل الإقليم العفري كانت قد استعيدت سابقاً بضغط شعبي”، مشيراً إلى أن هذه المليشيات “تورطت سابقاً في مجازر ضد المدنيين خلال حرب تيجراي”.
من جانبه، قال الخبير في الشؤون الإفريقية والكاتب في صحيفة “إندبندنت عربية”، محمود أبو بكر، إن اتفاق بريتوريا يواجه خطر الفشل، خاصة في ظل عدم تنفيذ عدد من بنوده الأساسية.
وأوضح أن أبرز ما تم تجاهله من الاتفاق هو تطبيق كامل لوقف الأعمال العدائية، إلى جانب تنفيذ البنود المتعلقة بإعادة دمج قوات إقليم تيجراي، ورفع القيود المفروضة على المساعدات الإنسانية، واستعادة الخدمات العامة في الإقليم.
وأضاف أن “جبهة تحرير تيجراي”، طالبت مراراً بتنفيذ هذه البنود، ودعت الضامنين الدوليين (الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحادين الإفريقي والأوروبي) إلى الضغط من أجل تفعيل الاتفاقية، التي باتت مهددة بالانهيار في ظل تصاعد التوتر بين الحكومة المركزية وحكومتي إقليمي أمهرة وعفر المجاورين لتيجراي.
من جانبها، شددت الإدارة المؤقتة لإقليم تيجراي في بيان رسمي، على أن “حل الأزمة يجب أن يكون من داخل إقليم تيجراي، وعلى يد أبنائه”، معربة عن استعدادها للتعاون مع الحكومة الفيدرالية لتنفيذ اتفاق بريتوريا “بشكل كامل ودون تأخير”.
وحذّرت الإدارة من أن “تقصير الحكومة في تنفيذ الاتفاق يقوّض عملية السلام، ويُضعف ثقة المواطنين، ويُطيل معاناة الشعب”، محذرة من أن هذا النهج قد يعيد “إشعال الصراع، ويهدد استقرار إثيوبيا والمنطقة بأسرها”.
وفي السياق، يشير مراقبون إلى أن رئيس الوزراء، آبي أحمد، اتجه منذ عام 2024 نحو إعادة مركزية السلطة في الولايات الإقليمية ذات الطابع العرقي، لتعزيز نفوذه داخلياً، وهي سياسة يُنظر إليها في أسمرة على أنها “تهديد مباشر” لإريتريا، التي لطالما رأت في “إثيوبيا الموحّدة” خطراً على هويتها الوطنية.
إريتريا تعود إلى واجهة المشهد
عاد اسم إريتريا إلى الواجهة مجدداً، عقب تصريحات المستشار الإثيوبي لشؤون شرق إفريقيا، جيتاتشو رِدا، التي اتهم فيها جهات “مدعومة من أسمرة” بالقيام بـ”استفزازات متكررة” تهدف إلى إشعال الصراع من جديد، لافتاً إلى أن أديس أبابا امتنعت عن الرد “حفاظاً على السلام”.
واعتبر الخبير في الشؤون الإفريقية محمود أبو بكر، أن هذه التصريحات تأتي ضمن محاولات تبرير الضربات الجوية، التي نفذها الجيش الإثيوبي مؤخراً، والتي دفعت جبهة تحرير تيجراي إلى توثيق الهجمات وإرسالها إلى الأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي والولايات المتحدة، متهماً القوات الفيدرالية بـ”استخدام طائرات مسيّرة لاستهداف قوات دفاع تيجراي”.
ووصف أبو بكر هذا التطوّر، بأنه خطير ومؤشر على احتمال عودة الخيار العسكري في التعامل مع الجبهة، مشيراً إلى أن تصريحات جيتاتشو رِدا، وهو قيادي سابق في الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، انشقّ وأسس حزباً جديداً، تندرج في إطار التبرير السياسي، لكونه من أبرز الداعمين لما يُعرف بـ”قوات تيجراي للسلام” المدعومة من الحكومة الفيدرالية والمتمركزة في إقليم عفر.
وحول إمكانية تدخل القوات الإريترية في الصراع الدائر بشمال إثيوبيا، أوضح أبو بكر أن “الاحتمال وارد”، مضيفاً: “لكنه أقل مما كان عليه قبل 3 سنوات”، حين كان التحالف بين أسمرة وأديس أبابا واضحاً خلال حرب عامي 2020 و2022؛ إذ شاركت القوات الإريترية آنذاك بشكل مباشر بعد أن استهدفت جبهة تحرير تيجراي الأراضي الإريترية بغارات جوية.
وأشار إلى أنه في حال لم تُستهدف الأراضي الإريترية هذه المرة، فليس من المرجح أن تنخرط أسمرة عسكرياً بشكل مباشر، رغم استمرار التوتر الملحوظ بين العاصمتين، وتداول أنباء عن إسقاط طائرات مسيّرة قرب الحدود المشتركة، بحسب وسائل إعلام إريترية.
وأضاف أن التدخل الإريتري قد يأخذ شكل ما وصفه بـ”حرب بالوكالة، عبر تقديم دعم لوجستي لبعض القوى المناوئة لحكومة آبي أحمد، مثل مليشيات عفر، أو قوات عفر الحرة أو حتى عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي”.
بين الاحتواء والمصالحة
بدروه، توقع الباحث في الشؤون إثيوبيا والقرن الإفريقي، نور الدين عبدا، أن “تتوقف مآلات الأزمة في إثيوبيا، إلى حدٍّ كبير، على تطور الخلافات الداخلية داخل جبهة تحرير تيجراي، خاصة بين القيادات المنقسمة مثل مجموعة جيتاتشو رِدّا، وأجنحة أخرى داخل الجبهة”، معتبراً أن “هذا الانقسام هو العامل الحاسم في تحديد مستقبل الإقليم”.
وأوضح عبدا في تصريحات لـ”الشرق”، أن “المشهد السياسي والأمني والاجتماعي في تيجراي يشهد توتراً متصاعداً”، وأن “المزاج الشعبي بات معادياً للحرس القديم داخل الجبهة”، مشيراً إلى أن “المظاهرات الشبابية الأخيرة تعكس حالة الغليان الشعبي، في ظل تراجع قدرة الأجهزة الأمنية على قمعها خوفاً من تفجر الأوضاع داخلياً كما حدث في بالعاصمة الإثيوبية في عام 2017”.
وأضاف أن الحكومة المركزية تتبنى سياسة “النَّفَس الطويل”، و”لا تبدو مستعجلة للرد العسكري على ما تعتبره تحركات استفزازية من الجبهة، أو حلفائها في المنطقة، مفضلّة الردود الموضعية والمحدودة، مع منح الوقت للمكونات السياسية والاجتماعية في تيجراي لترتيب صفوفها قبل التوجه إلى حلّ شامل للوضع في الشمال الإثيوبي”.
وبعد نحو 3 أعوام على “اتفاق بريتوريا”، وبين غياب الثقة وتعدد مراكز القوة، تبدو إثيوبيا عالقة بين سلام لم يكتمل، وحرب لم تنتهِ فعلياً، فالتوترات المستمرة على حدود تيجراي وعفر، وتعدد القوى المسلحة داخل الأقاليم الإثيوبية، وتداخل المصالح الإقليمية، تشير إلى أن البلاد لم تتجاوز بعد مرحلة ما بعد الحرب.
وربما يشكل “اتفاق بريتوريا”، نقطة تحوّل نحو الاستقرار، أو يتحول إلى هدنة مؤقتة تسبق جولة جديدة من الصراع في شمالي البلاد.
