مع صدور كتاب “المصالحة”، مذكرات الملك الإسباني السابق خوان كارلوس الأول، شهدت المكتبات الفرنسية حدثاً ثقافياً وسياسياً لافتاً، تجاوز حدود السيرة الشخصية، إلى مساحة أوسع من التأمل في الذاكرة الوطنية. 

الكتاب الذي يمتد على أكثر من 500 صفحة، صدر عن (دار ستوكس 2025)، وهو ثمرة تعاون مباشر بين الملك والكاتبة الفرنسية لورانس دوبريه Laurence Debray.

 يقدّم الكتاب سرداً ذاتياً لحياة تتقاطع فيها التجربة الإنسانية مع السلطة والتاريخ. ويتيح للقارئ النفاذ إلى أعماق مرحلة حافلة بالتناقضات والقرارات المصيرية، التي شكّلت ملامح إسبانيا المعاصرة.

ورغم صدوره في فرنسا هذا الشهر، فإن القارئ الإسباني سيضطر إلى الانتظار حتى الثالث من ديسمبر 2025، لاقتناء النسخة الإسبانية، بعد انتهاء احتفالات الذكرى الخمسين للملكية البرلمانية.

وأرجعت الكاتبة سبب التأخير، إلى سلسلة من المراجعات المتأخّرة على النسخة الفرنسية، أجراها الملك بنفسه. هذه التعديلات، وإن لم تمسّ جوهر النص، استدعت إعادة ترجمة ومراجعة النسخة الإسبانية بالكامل، مع إضافة مجموعة من الصور النادرة، التي توثّق مسار حياة الملك، لتكون النسخة النهائية امتداداً أميناً للنسخة الأصلية، دون أي تغيير في مضمون السرد أو رؤيته.

يبرز هذا التأخير الحساسية السياسية والإعلامية المرتبطة بالملكية الإسبانية الحديثة، لا سيما مع قرب الذكرى الوطنية. ما يعكس حرص المؤسسة الملكية على تنسيق الصورة العامة للملك السابق والحالي، وضمان توازن الرسالة التاريخية والسياسية التي يحملها الكتاب.

 تأسيس الذات في ظل الغياب

تبدأ مذكرات خوان كارلوس الأوّل بسرد طفولته في المنفى. حيث وُلد وترعرع بعيداً عن وطنه، في البرتغال، قبل أن ينقله فرانكو إلى مدريد، إلى مدرسة داخلية لم يعرفها أحد من عائلته.

يصف الملك تلك المرحلة بأنها مزيج من الغربة والانبهار والخوف، حيث كان عليه أن يتأقلم مع بلد لا يعرفه ولغة لم يُتقنها، في ظل غياب الأمان الأسري المعتاد: “شعرت بعقدة في معدتي، وأنا ذاهب إلى بلد هو بلدي، ولكني لا أعرفه، حيث لا أتقن لغته، وبدون أي فرد من عائلتي، إلى مدرسة جديدة كانت ترهقني”.

هذا الانتقال المبكر، شكّل البنية النفسية للملك السابق، إذ فرض عليه التوازن بين الواجب الملكي والحرية الفردية منذ سن مبكرة. الغربة والبُعد عن الأسرة، بالإضافة إلى الوفاة المفاجئة لشقيقه الأكبر ألفونسو أثناء اللعب، ساعدت على حد تعبيره، في تكوين شعور دائم بالمسؤولية، ووعي حاد بالذات في مواجهة الصعوبات.

يقول الملك: “لم نكن نعلم أن هناك رصاصة في السلاح مات في حضن والديّ. هناك لحظة فصل قبل موته وبعده، وما زلت أفكر فيه كل يوم”.

يمكن فهم هذه المأساة على أنها نواة شخصية الملك. الألم الشخصي أصبح مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بمكانته العامة، وعكس مدى قدرة الفرد على الجمع بين العاطفة الإنسانية والواجب الوطني.

الطفولة المنفية والصدمة المبكرة شكلتا وعياً مبكراً بالتاريخ والسياسة. كما أتاحت للملك لاحقاً فهم التعقيدات التي رافقت توليه العرش، وإدراكه أن السلطة اختبار مستمر للذات والتاريخ.

الملك والسياسة

تبدأ رحلة خوان كارلوس الأول السياسية فعلياً في منتصف سبعينيات القرن العشرين، حين استدعاه الجنرال فرانسيسكو فرانكو من منفاه البرتغالي ليهيّئه ليكون وريثه السياسي. يروي في الكتاب تفاصيل ذلك اللقاء المفصلي، حين دعاه فرانكو إلى مكتبه قائلاً له: “سأعيّنك وريثاً على العرش، هل تقبل؟” لحظة صمتٍ مكثّف يصفها الملك بأنها “بين السيف والجدار”، لم يكن فيها من خيار سوى القبول. 

عام 1975، بعد وفاة فرانكو، اعتلى خوان كارلوس العرش في لحظة حرجة من تاريخ إسبانيا. ورث دولة مثقلة بإرث الديكتاتورية. يصف تلك الفترة بأنها “العبور نحو الضوء”، إذ كان عليه أن يعيد تعريف الملكية لتتوافق مع قيم الديمقراطية الناشئة. ومع رئيس الوزراء أدولفو سواريز، قاد مرحلة الانتقال الديمقراطي التي غدت رمزاً في الذاكرة الأوروبية الحديثة، لما تعنيه المصالحة بعد القمع.

ليلة لا تنسى

غير أن ذروة الامتحان جاءت في 1981، عندما حاولت مجموعة من العسكريين بقيادة أنطونيو تيخيرو الانقلاب على الديمقراطية، ضمن ما عُرف بانقلاب 23 فبراير. تصف المذكرات تلك الليلة بأنها تجربة مليئة بالتوتر والضغط النفسي، إذ كان على الملك أن يتخذ قرارات حاسمة بسرعة، ليس فقط للحفاظ على النظام، بل لضمان مستقبل المؤسسة الملكية.

يقول: “كانت الليلة التي أدركت فيها أن التاج لا يُحمل على الرأس إنما على الكتفين”.

الملك، وفقاً لوصفه، خرج أمام الكاميرات في منتصف الليل مرتدياً سترة عسكرية فقط، في رمز واضح للتوازن بين سلطته كقائد والدور الرمزي الذي يمثّله. أظهرت هذه الساعات الحاسمة، قدرة الملك على الموازنة بين الواجب الشخصي والمصلحة الوطنية، وأكدت على أهمية الخبرة المبكرة والتكوين الشخصي الذي تلقاه في طفولته، حيث تعلّم مواجهة الغربة والفقد وتحمل المسؤولية.

 كما أشارت المذكرات، إلى أن هذه اللحظة كانت دروساً مستفادة للأمير فيليب، الذي بدأ يتدرب فعلياً ليصبح ملكاً، مؤكداً انتقالاً سلساً للسلطة وتهيئة جيل جديد قادر على مواجهة التحديات السياسية والاجتماعية. وفي الوقت نفسه، تكشف الصفحات عن خلافات وتناقضات بين الشخصيات العسكرية والسياسية، ما يعكس تعقيد إدارة السلطة في لحظات الأزمات، ويضع القارئ أمام فهم أعمق لكيفية تفاعل التاريخ مع الفرد، ووعي الذات مع المسؤولية.

فضائح في الذاكرة الملكية

لا يتجنّب خوان كارلوس الأول في مذكراته الكشف عن أسرار لطالما ظلت في زوايا العناوين: من علاقة متقطّعة مع كورينا زو ساين‑فيتغنشتاين، وادعاءات بمراقبة قانونية، إلى اتهامات مالية هزّت صورة الملكية الإسبانية. يقرّ في إحدى الصفحات: “ارتكبت أخطاء جسيمة بما فيها قبول الكثير من الهدايا”. 

كذلك، يُعيد السرد إلى لحظة القطيعة مع ابنه فيليبي السادس. إذ كتب أن الرئيس أعلن التخلي عن ميراثه، ووقف مخصصاته السنوية. فقال له: “هذا الإعلان يعني أنك ترفضني”. أما عن الشائعات التي طالت علاقته بالأميرة ديانا، أميرة ويلز في مايوركا في الثمانينيات، فيقول: “لم تكن هناك علاقة، لقد كانت باردة، صامتة، إلا أمام الكاميرات”.

هذه الفضائح، بكشفها أو اعترافه بها، تؤكّد أن الملك لم يكن فقط صاحب تاج، بل شخص يجاهد أمام العدالة العامة، أمام التوقعات، وأمام نفسه. 

تأملات في أبوظبي

بعد تنحيه عن العرش، انتقل خوان كارلوس الأوّل إلى أبوظبي، حيث عاش تجربة الانعزال والابتعاد عن وطنه. وهو قرار عبّر عنه في المذكرات كـ”حاجة للحماية الذاتية وعدم إعاقة سير المؤسسة الملكية”.

هنا، يروي الملك وحدته وسط رفاهية العالم الجديد، وحسّاً بالحنين إلى إسبانيا: “أشعر بأني بعيد عن نفسي وعن وطني.. كل يوم أفكر فيما تركته خلفي، وأسأل عن المكان الذي يمكن أن أنتمي إليه بعد أن فقدت مساحة القرار المباشر”.

في هذا الانعزال، تتجلى مفارقة السلطة والحرية؛ فبينما كان ملكاً يحكم أمّة، أصبح في المنفى شخصاً يتأمّل زمنه وحياته ومكانه في التاريخ. المذكرات تكشف عن لحظات انكسار إنساني وتفكّر شخصي، وهو جانب لم يظهر علناً من قبل، ما يضفي على الكتاب طابعاً عميقاً، يتيح للقارئ فهم الملك كمزيج من السلطة والتجربة الفردية، وليس مجرد شخصية تاريخية ورمزية.

شاركها.