حنان الخلفان

كان يمكن لهذه الحكاية أن تمرّ كخبرٍ موجع وينتهي. حادثة مؤسفة، طفلٌ نُسي في الباص، وفقدٌ يترك في القلب ندبة لا تُشفى. لكن البحرين، بطبيعتها التي تُربّي في أهلها هذا القدر من النبل، أرادت أن تُحوّل الألم إلى درس، والوجع إلى معنى أعمق مما تحتمله الكلمات. ففي اللحظة التي تحاصر فيها الفاجعة الأسرة، وتغلق الأبواب على صمتٍ ثقيل، خرج صوت هذه الأسرة لا ليصرخ، بل ليعفو. مشهدٌ لا ينساه من تابعه… لأن العفو في لحظة الانكسار ليس “قراراً” فقط، بل تجاوزٌ لما تحتمله النفس البشرية. كان يمكن للأسرة أن تتمسك بحقها، وأن تطلب أقصى عقوبة يمكن أن يتحملها القانون، فالمأساة أكبر من أن تُقاس. ومع ذلك، آثرت أن تتنازل عن حقها في الحق العام، وأن تعطي المجتمع درساً لا يُدرَّس فقط، بل يُنتزع من التجارب التي تُسقط الإنسان، ثم تدعوه للنهوض بقلبٍ آخر.

كان يمكن للألم أن يقود الأسرة إلى غضبٍ شديد، لكنهم اختاروا طريقاً لا يسلكه إلا من يعرف أن الإيمان مواقف تُصنع حين ينكسر القلب. وهنا تشبه الأسرة البحرينية مواقف كثيرة عرفها تاريخنا، حين اختار البعض العفو بدل التشبث بأشد العقوبات، لأن قلوبهم رغم نزيفها آمنت بأن الخطأ البشري قد يقع في لحظة، وأن العفو عند المقدرة امتحان لا ينجح فيه إلا أصحاب اليقين. هكذا ظهرت الأسرة البحرينية، واقفة في أعمق نقطة من الألم، لكنها ترفع رأسها قائلة: “نحن نعفو… لأن الإيمان يقودنا».

هناك لحظات يُختبر فيها الإنسان دون استعداد، ويُواجه الحقيقة العارية: أن الفقد لا يُعالج بالقوانين، وأن الألم لا يمحوه أي حكم. وفي لحظة الانهيار هذه، تتجلى قوة لا تأتي من الغضب، بل من جذور الإيمان والتربية وقيمٍ راسخة.

ولهذا، لم يكن موقف الأسرة وليد اندفاع، بل امتداداً لرؤية ترى المأساة قدراً من الله، وترى الخطأ غفلة بشرية، وترى الندم عقوبة لا يراها الناس. وهنا نفهم كيف يجد الإنسان وهو في أضعف حالاته قوة تجعله يضع جرحه جانباً ويقول: “نحن نعفو.” وهذا الموقف يحمل درساً للمجتمع، فالأخطاء الكبيرة لا تعني أن الإنسان سيئ بطبيعته، والنسيان قد يحدث في لحظة تغيّر كل شيء. والإهمال حين يقع يهز مجتمعاً بأكمله، ويستدعي مراجعة جادة لحماية الأرواح قبل أن تتحول القصص إلى مآسٍ.

ومع ذلك، فإن موقف هذه الأسرة يمنح الجميع فرصة لالتقاط الأنفاس، وتذكيراً بأن الخير لم يمت، وأن القيم لا تزال قادرة على الصمود. لم تعفُ الأسرة لأنها لم تتألم، بل لأنها آمنت أن العفو يمنح صاحبه سلاماً داخلياً لا يمنحه أي حكم مكتوب.

وبصراحة، الإنسان حين يعفو وهو مُنكسر، يبدو أقوى مما كان عليه يوماً. فالقوة ليست في التمسك بالغضب، بل في القدرة على تجاوزه. وهكذا، قدّمت الأسرة البحرينية درساً سيظل حياً في الذاكرة: أن الرحمة لا تلغي الألم، لكنها تُعلّمنا كيف ننهض منه، وأن الإيمان، مهما اشتدت الفاجعة، يبقي القلب قادراً على أن يظل طيباً. وهذه هي المعجزة التي لا تُصنع في السماء فقط، بل في صدور الناس. وهذا ما يجعل البحرين دائماً… أكبر من جرحها.

شاركها.