يُعدّ سباق القوة الحاسوبية الفائقة هو المعيار الأبرز لقياس مدى تقدّم الأمم في مجال البحث العلمي والابتكار التقني، وفي خطوة إستراتيجية تؤكد التزام المملكة العربية السعودية بتعزيز مكانتها كقوة علمية عالمية، أعلنت جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست)، تشغيل (شاهين 3)، أقوى حاسوب عملاق في الشرق الأوسط، الذي صممته شركة هيوليت باكارد إنتربرايز (HPE)، ويعتمد على نظام (HPE Cray EX)، الذي يتميز بتقنية التبريد المباشر بالسائل.
ولا يمثل (شاهين 3) Shaheen، مجرد ترقية تقنية في القدرات الحاسوبية، بل هو محرك رئيسي لأجندة البحث والتطوير والابتكار في المملكة، إذ يهدف إلى تسريع وتيرة الاكتشافات العلمية وقيادة مسيرة التحوّل الاقتصادي والعلمي في المملكة، تماشيًا مع أهداف رؤية 2030.
(شاهين 3).. ريادة إقليمية وقفزة عالمية في الحوسبة الفائقة:
في إنجاز تاريخي يؤكد الريادة التقنية للمنطقة، حصد حاسوب (شاهين 3) مرتبة متقدمة ضمن أقوى الحواسيب في العالم، فبحسب أحدث تصنيفات موقع (TOP500) – المتخصص في ترتيب أقوى 500 نظام حوسبة عملاق في العالم – التي أُعلنت خلال فعاليات المؤتمر الدولي للحوسبة العالية الأداء (SC25) المنعقد حاليًا في سانت لويس، حقق (شاهين 3)، المركز الأول في الشرق الأوسط والمركز الثامن عشر عالميًا ضمن أقوى الحواسيب العملاقة.
ويمثل (شاهين 3) نقطة تحول تقنية حاسمة بفضل بنيته الفائقة وتصميمه المتقدم، إذ يعتمد الحاسوب العملاق على نظام (HPE Cray EX)، وهو نظام يشتهر بكفاءته العالية وتبريده المباشر بالسائل، كما يضم النظام 2800 وحدة من معالجات إنفيديا (NVIDIA GH200 Grace Hopper Superchip)، وهو ما يوفر قدرة معالجة تفوق ثلاثة أضعاف الجيل السابق من الحاسوب الذي كان من بين الأسرع عالميًا عند إطلاقه عام 2023.
وتكتمل المنظومة مع حصول كاوست رسميًا على وحدات معالجة الرسومات من (HPE) وفق تراخيص مكتب الصناعة والأمن الأمريكي (BIS) التابع لوزارة التجارة الأمريكية، لتدخل المملكة رسميًا سباق الحوسبة الفائقة العالي القدرة الموجه للذكاء الاصطناعي.
وستفتح هذه القوة الفائقة الباب أمام باحثي (كاوست) لإجراء أبحاث رفيعة المستوى فور بدء تشغيل قسم معالجات (GPU) في مطلع عام 2026.
تحوّل علمي يقوده (شاهين 3).. من المناخ إلى الذكاء الاصطناعي العربي:
يمثل (شاهين 3) ركيزة أساسية لأبحاث عالمية المستوى تتماشى مع أولويات منظومة البحث والتطوير والابتكار في المملكة، ومن المتوقع أن يُحدث النظام نقلة نوعية في العديد من القطاعات الحيوية.
إليك أبرز التطبيقات النوعية التي سيدعمها الحاسوب العملاق الأقوى في الشرق الأوسط في مختلف القطاعات الحيوية:
1 تطوير نماذج لغوية عربية متقدمة:
سيدعم الحاسوب تطوير الجيل الجديد من النماذج اللغوية الصغيرة والكبيرة المخصصة للغة العربية، مع مراعاة خصوصيتها اللغوية وسياقاتها الثقافية، وهو ما يمهّد لثورة في برمجيات الذكاء الاصطناعي العربي.
فبدلًا من الاعتماد على نماذج عالمية لا تعكس بدقة خصوصية اللغة العربية وسياقها الثقافي، سيمكن هذا الحاسوب العملاق الباحثين من بناء نماذج عربية متقدمة تفهم اللهجات والسياق الاجتماعي، وتتيح تطبيقات أكثر موثوقية في التعليم، والخدمات الحكومية، والخدمات الإبداعية، وتحليل المحتوى.
2 إنشاء (التوأم الرقمي) لشبه الجزيرة العربية:
يشكّل (شاهين 3) المحرك الأساسي لإنشاء التوأم الرقمي لشبه الجزيرة العربية، وهو مشروع ضخم لمحاكاة العمليات الجوية والبحرية والبرية في بيئة رقمية موحدة.
ويوفر هذا التوأم قدرة غير مسبوقة على تحليل ديناميكيات المناخ الإقليمي بدقة عالية، وإدارة الظواهر الطبيعية الشديدة والكوارث البيئية، ومحاكاة تسربات النفط وحلول الاستجابة الممكنة، وتحسين حركة الملاحة البحرية ومسارات السفن، وسيغيّر هذا التطور قواعد التعامل مع المخاطر البيئية، ويعزز جاهزية السعودية لمواجهة تغيّرات المناخ.
3 الزراعة الذكية وإدارة الموارد المائية (الاستشعار من بُعد):
ستُحدث قدرات هذا الحاسوب العملاق نقلة نوعية في تطبيقات الاستشعار من بُعد في مجال علوم البيانات والبيئة، والزراعة الذكية، إذ سيساهم في:
- المراقبة الآلية: سيتيح الحاسوب تطوير نماذج متقدمة للمراقبة الآلية للحياة الفطرية والمحميات الطبيعية.
- تحليل البيانات الزراعية وتحسين الإنتاجية : يسهل هذا الحاسوب تطوير أدوات تحليلية منخفضة التكلفة وقابلة للتوسع لدعم قطاعات الزراعة وإدارة الموارد المائية. ويكتسب هذا دورًا بالغ الأهمية في تحسين إنتاجية المحاصيل الإستراتيجية، وعلى رأسها القمح والتمور.
وستساعد هذه التطبيقات المملكة في تعزيز الأمن الغذائي وتحقيق إدارة أكثر فعالية للموارد الطبيعية.
4 الطاقة والكيمياء.. مختبر روبوتي يعمل بالذكاء الاصطناعي:
في قطاع الطاقة والعلوم الكيميائية، سيكون حاسوب (شاهين 3) الركيزة الأساسية لإنشاء كيميائي الذكاء الاصطناعي (AIChemist)، وهو مختبر روبوتي متكامل يعمل على مدار الساعة لاكتشاف مواد جديدة وتحسين العمليات الكيميائية.
وسيمكّن هذا الابتكار الباحثين من إجراء ملايين العمليات الحسابية وبناء النماذج الجزيئية بسرعة، مما يسرّع تطوير مواد الطاقة المتقدمة وحلول تخفيض الانبعاثات.
5 الرعاية الصحية والطب الدقيق:
سيسهم هذا الحاسوب العملاق في دفع عجلة الابتكار في قطاع الرعاية الصحية، إذ يستعد لإحداث تحول جذري عبر عدة محاور إستراتيجية:
- التشخيص المتقدم: تطوير نماذج ذكاء اصطناعي لتشخيص الأمراض النادرة في المملكة، وتحسين تقنيات التصوير الطبي، ودعم أبحاث اضطرابات طيف التوحّد.
- الرعاية الشخصية: الجمع بين الذكاء الاصطناعي وتقنيات أجهزة الاستشعار القابلة للارتداء لتقديم رعاية صحية آنية ومخصّصة.
- اكتشاف الأدوية: تسريع وتيرة التشخيص المبكر واكتشاف الأدوية.
ومن المتوقع أن يرفع هذا التكامل بين الحوسبة الفائقة والذكاء الاصطناعي جودة الرعاية الصحية ويُحدث تحولًا جذريًا في الخدمات الطبية المستقبلية.
(شاهين 3).. يطلق العنان للاكتشافات العلمية القائمة على الحوسبة الفائقة:
أعرب البروفيسور إدوارد بيرن، رئيس جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست)، عن فخره بهذا الإنجاز، مشددًا على أن (شاهين 3) يضع المملكة العربية السعودية “في طليعة الاكتشافات العلمية القائمة على الحوسبة الفائقة”.
وقال: “سيمكن هذا الإنجاز الاستثنائي باحثينا من تطوير علوم رفيعة المستوى وتقديم حلول مبتكرة تعالج التحديات المُلحة على الصعيدين الوطني والعالمي”.
ومن جهتها؛ أكدت تريش دامكروجر، النائب الأول للرئيس والمديرة العامة لحلول البنية التحتية للحوسبة العالية الأداء والذكاء الاصطناعي في شركة (HPE)، الأهمية الإقليمية للحاسوب، قائلة: “يمثل شاهين 3 محطة فارقة للشرق الأوسط بأكمله، وسيعزز بلا شك مساهمات كاوست المستمرة في إثراء المجتمع العلمي العالمي. نحن فخورون بأن نقدم خبراتنا الرائدة وهندستنا المتطورة في مجال الحوسبة الفائقة عبر نظام (HPE Cray)، لتمكين كاوست ومجتمعها البحثي من دفع حدود الابتكار القائم على الذكاء الاصطناعي إلى آفاق أبعد وأكثر جرأة”.
وفي الختام؛ يمكن القول إن وصول حاسوب (شاهين 3) العملاق، ليحتل المرتبة الثامنة عشر عالميًا في قائمة أقوى 500 نظام حوسبة عملاق في العالم، يعكس تنامي قدرات المملكة العربية السعودية في مجال البحث والابتكار، ويؤكد رؤيتها الطموحة. فمع هذه القوة الحاسوبية الفائقة، لم تَعد كاوست مجرد مركز تعليمي، بل أصبحت منارة عالمية للاكتشافات التي ستُسهم بنحو مباشر في تحقيق التنمية المستدامة، وتقديم حلول للتحديات الإقليمية والعالمية، مما يرسخ مكانة المملكة كلاعب محوري في مستقبل العلوم والتقنية.
