أعاد التوتر المتصاعد بين الصين واليابان، على خلفية قضية تايوان، الحديث عن مدى جاهزية طوكيو عسكرياً، في مواجهة التهديد المحتمل من بكين، خاصة في ظل تاريخ الصراع بين القوتين الآسيويتين.
ومنذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، أقرت اليابان دستوراً ذا طابع سلمي، لكنها تواصل تعزيز قدراتها الدفاعية إلى مستويات قياسية، دون إغفال القدرات ذات الطابع الهجومي.
ورغم نص الدستور الياباني، في مادته التاسعة، على رفض “الحرب كحق سيادي”، و”التهديد أو استخدام القوة كوسيلة لحل النزاعات الدولية”، إلا أن تأويلاً حكومياً لاحقاً سمح بإنشاء “قوات الدفاع الذاتي” عام 1954.
بثلاثة أفرع هي القوات البرية، والبحرية والجوية، بدأ قوات الدفاع الذاتي اليابانية عملها على أساس أن دورها دفاعي بحت لحماية أراضي اليابان، بالتنسيق مع الولايات المتحدة.
في ديسمبر 2022، أقرّت الحكومة اليابانية 3 وثائق أمنية جديدة، أبرزها “استراتيجية الأمن القومي”، المحدثة، التي وصفت البيئة الأمنية المحيطة باليابان بأنها “الأخطر والأكثر تعقيداً منذ الحرب العالمية الثانية”.
وحددت الوثيقة الصين بوصفها “أكبر تحدٍ استراتيجي”، مع استمرار برنامج كوريا الشمالية الصاروخي النووي، وتصاعد النشاط الروسي في المنطقة.
تضمنت الوثائق، لأول مرة، هدف امتلاك قدرات “هجوم مضاد” (counter-strike capabilities) عبر صواريخ بعيدة المدى، وزيادة الإنفاق الدفاعي، وصولاً إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول السنة المالية 2027.
220 ألف جندي.. و60 ألف احتياط
وفق أحدث بيانات لوزارة الدفاع اليابانية، بلغ عدد أفراد قوات الدفاع الذاتي النظاميين في 31 مارس 2025 نحو 220 ألف و 252 عسكرياً، إضافة إلى 47 ألف و900 من قوات الاحتياط، و7981 من الاحتياط الجاهز، و4621 من الاحتياط المكمل.
وتتوزع القوة البشرية بمعدل 131 ألفاً تقريباً في القوات البرية، و41.8 ألفاً للبحرية، بينما يعمل أكثر من 42 ألف عسكري في القوات الجوية، مع استمرار الإشارة الرسمية والأكاديمية إلى صعوبات التجنيد الناتجة عن شيخوخة السكان، وتراجع أعداد الشباب.
اليابان.. الجيش الثامن عالمياً
رغم نهجها الدفاعي المنصوص عليه دستورياً، ورغم استمرار الصعوبات التي تفرضها القوانين الدفاعية، وكذلك التركيبة السكانية التي تميل للشيخوخة، إلا أن اليابان وصلت لقائمة أقوى 10 جيوش على مستوى العالم، متجاوزة العديد من أكبر الجيوش العالمية المؤثرة، مثل جيوش تركيا، وإيطاليا، والبرازيل، وباكستان، وألمانيا، وإسرائيل، وإيران.
وحسب مؤشر Global Firepower لعام 2025، يحتل الجيش الياباني المرتبة الثامنة عالمياً من بين 145 دولة، كما يحتل واحدة من المراتب الأولى في آسيا، من حيث القوة العسكرية الشاملة، إلى جانب الولايات المتحدة، والصين، والهند، وكوريا الجنوبية، مع احتفاظها بسمعة “قوة بحرية وجوية متقدمة”، رغم القيود الدستورية على استخدام القوة الهجومية.
ورغم أن المؤشر يعتمد أكثر من 60 معياراً تشمل عدد القوات، وحجم الأسطول البحري والجوي، والقدرات الصناعية واللوجستية، والموارد الطبيعية والمالية، لكنه لا يحتسب الأسلحة النووية، وهي الأسلحة التي لا تملكها طوكيو حتى الآن.
القوات البرية اليابانية
تُعد القوات البرية اليابانية (JGSDF) أكبر فروع قوات الدفاع الذاتي، ويبلغ قوامها أكثر من 131 ألف جندي موزعين على ألوية مدرعة، ومشاة ميكانيكية، ووحدات انتشار سريع. وتضطلع هذه القوات بمهمة الدفاع عن الجزر الأربع الرئيسية، إضافة إلى الانتشار في الجزر الجنوبية القريبة من تايوان، وهي مناطق تزداد حساسيتها مع النشاط العسكري الصيني.
وتعتمد القوات البرية على منظومة قيادة وسيطرة متقدمة، تربط الوحدات عبر شبكة C4I حديثة، ما يمنحها قدرة تحرك عالية في المناطق الجبلية، والريفية التي تميز الجغرافيا اليابانية.
ومن أبرز أسلحة البرّ اليابانية دبابة Type-10 الحديثة، التي طورتها شركة Mitsubishi Heavy Industries لتكون خفيفة وسريعة مناسبة للطرق اليابانية الضيقة والجسور التي لا تتحمل أوزاناً ثقيلة.
وتتميز الدبابة بنظام إدارة نيران متطور، وقدرة اتصال رقمي مباشر مع وحدات المدفعية والمشاة، فيما لا تزال دبابة Type-90 جزءاً مهماً من القوة المدرعة، خصوصاً في جزيرة هوكايدو شمالاً، بينما أصبحت العربة القتالية Type-16 ذات العجلات محوراً أساسياً في الألوية عالية الحركة، وهي مصممة لتعويض غياب الدبابات الثقيلة في المناطق التي يصعب نقل الدبابات إليها.
ويعتمد الجيش الياباني أيضاً على المدفع ذاتي الحركة Type-99 بعيار 155 ملم، وهو سلاح يوفر دعماً نارياً على مدى يتجاوز 30 كيلومتراً، ما يسمح للقوات البرية بتأمين نطاق واسع من العمليات الدفاعية.
ويعد الصاروخ البرّي المضاد للسفن Type-12 أحد أعمدة الدفاع الساحلي الياباني، وبدأت الحكومة تطوير نسخة موسّعة المدى منه لتأمين الجزر الجنوبية، ومواجهة أي تحرك بحري معادٍ، في ظل تزايد النشاط البحري الصيني في محيط جزر سينكاكو.
القوات البحرية اليابانية
تُعد القوات البحرية اليابانية (JMSDF) من أقوى القوات البحرية في آسيا، وتضم أكثر من 50 ألف فرد، وأكثر من 150 قطعة بحرية متنوعة، ويتركز دورها على حماية خطوط التجارة الحيوية عبر بحر الصين الشرقي والمحيط الهادئ، إضافة إلى تنفيذ عمليات مكافحة الغواصات التي تحتل أولوية كبرى في العقيدة البحرية اليابانية، نظراً لامتلاك الصين، وكوريا الشمالية أساطيل غواصات متنامية.
ومن أكبر عناصر قوة البحرية اليابانية 8 مدمرات مجهّزة بمنظومة Aegis، القادرة على تنفيذ مهام الدفاع الجوي، واعتراض الصواريخ الباليستية.
وتوزع هذه المدمرات على فئات Kongō وAtago وMaya، وهي سفن كبيرة ذات قدرات صاروخية متعددة، بما في ذلك صواريخ SM-2 وSM-3، ويُعد امتلاك اليابان لقدرة اعتراض الصواريخ الباليستية من البحر أحد أهم أركان شبكة الدفاع الصاروخي الياباني، التي تُعد الأكثر تقدماً في آسيا.
وفي خطوة مثّلت تحولاً تاريخياً في العقيدة الدفاعية، بدأت اليابان بتحويل سفينتي Izumo وKaga إلى حاملات طائرات خفيفة قادرة على تشغيل مقاتلات F-35B، وهو ما يمنح البحرية اليابانية قدرة على نشر مقاتلات خفية من البحر لأول مرة منذ 1945، وأجريت التعديلات على السطح الأمامي، والطلاء الحراري للمساعدة في تحمل حرارة الإقلاع العمودي.
أما في مجال الحرب تحت السطح، فتشغّل اليابان واحداً من أكثر أساطيل الغواصات تقدماً في العالم، وعلى رأسها غواصات Sōryū-class وTaigei-class التي تُعد أول غواصات تقليدية تستخدم بطاريات الليثيوم-أيون، ما يمنحها قدرة بقاء أطول تحت الماء، وسرعة أعلى وهدوءاً أكبر أثناء الإبحار، وتُعد هذه القدرات أساسية في مراقبة النشاط البحري الصيني حول جزر سينكاكو، وفي بحر الفلبين.
سلاح الجو الياباني
تملك القوات الجوية اليابانية (JASDF) أسطولاً يبلغ نحو 756 طائرة، بين مقاتلات وطائرات إنذار مبكر، وتزويد بالوقود وطائرات تدريب، وتشكل المقاتلة F-15J العمود الفقري للقوة الجوية، وبدأ اليابانيون تحديثها برادارات AESA وأنظمة تسليح موسعة، كما تُعد المقاتلة F-2 ذات الجذور الأميركية-اليابانية منصة مهمة للدفاع البحري، نظراً لامتلاكها قدرات ضرب دقيقة ضد السفن.
وتتجه اليابان، خلال العقد المقبل، إلى جعل F-35 المقاتلة الأساسية في أسطولها، مع خطة لشراء 147 طائرة تشمل نسختي F-35A وF-35B، لتصبح أكبر مشغّل أجنبي لهذا الطراز المتقدم، والقادر على تنفيذ مهام اختراق دفاعات الخصم الجوية والبحرية.
وتدعم القوات الجوية عملياتها عبر طائرات الإنذار المبكر E-767، وطائرات التزود بالوقود KC-46A وKC-767 التي تعزز القدرة على تأمين مساحات واسعة من المجال الجوي الياباني في مواجهة التحركات الصينية والكورية الشمالية.
الدفاع الجوي متعدد الطبقات
تملك اليابان واحدة من أعقد شبكات الدفاع الجوي في العالم، موزعة على طبقات تعمل بتنسيق كامل عبر منظومة القيادة والسيطرة JADGE. وتعتمد الطبقة العليا للدفاع الصاروخي على مدمرات Aegis، وصواريخ SM-3 القادرة على اعتراض الصواريخ الباليستية في مسارها خارج الغلاف الجوي، وهو دور بالغ الأهمية في مواجهة تجارب بيونج يانج الصاروخية.
وفي الطبقة المتوسطة، تشغّل اليابان منظومة Chu-SAM (Type-03) المخصصة لاعتراض الطائرات وصواريخ كروز، إلى جانب منظومة Type-11 المتحركة لحماية القواعد الجوية والبنى التحتية، أما في الطبقة القصيرة، فتستخدم القوات البرية منظومات Type-93 وType-91 المحمولة على الكتف، وهي خط الدفاع الأخير ضد الطائرات المسيّرة والطائرات ذات الارتفاع المنخفض.
وتكمل منظومة Patriot PAC-3 الطبقة النهائية للدفاع الجوي، إذ تنتشر هذه البطاريات حول طوكيو وأوساكا وأوكيناوا لاعتراض الصواريخ الباليستية في المرحلة النهائية، خصوصاً تلك التي تطلقها كوريا الشمالية، ويجري تحديثها بشكل مستمر بالتعاون مع الولايات المتحدة.
الصناعات الدفاعية اليابانية
تمتلك اليابان قاعدة صناعية دفاعية شديدة التطور تشرف عليها وكالة المشتريات والتقنيات واللوجستيات (ATLA)، وتشارك فيها شركات مثل MHI وKHI وMitsubishi Electric، وتنتج هذه الشركات سفناً، وغواصات، ومروحيات، وأنظمة رادار، وصواريخ، ومكوّنات إلكترونية متقدمة.
وشهد عام 2014 نقطة تحول عندما خففت الحكومة القيود التاريخية على تصدير السلاح عبر “المبادئ الثلاثة لنقل المعدات الدفاعية”، ما سمح لليابان بدخول سوق الصناعات الدفاعية العالمية، لأول مرة منذ عقود، وتوسعت هذه القواعد بين عامي 2023 و 2024 بما يسمح بتصدير معدات تشترك اليابان في تطويرها مع دول أخرى.
وكانت أبرز نتائج هذا الانفتاح توقيع صفقة كبرى مع أستراليا لبناء 11 فرقاطة من فئة Mogami بقيمة 6.5 مليار دولار، وهي أكبر صفقة دفاعية في تاريخ اليابان الحديث، وفق وكالة “رويترز”. كما تشارك اليابان في مشروع مقاتلة الجيل القادم GCAP بالتعاون مع بريطانيا وإيطاليا.
وشهدت الميزانية الدفاعية اليابانية زيادة سريعة منذ 2022، إذ ارتفعت من 5.3 تريليون ين (نحو 34 مليار دولار) في 2022 إلى 6.7 تريليون في 2023، ثم إلى 7.9 تريليون في 2024، وصولاً إلى 8.7 تريليون ين في موازنة 2025، مع هدف معلن لبلوغ 2% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2027.
وتشمل هذه الموازنة برامج ضخمة لتطوير صواريخ بعيدة المدى، وتعزيز الدفاع الصاروخي، وزيادة عدد السفن، والغواصات، وتحديث القوات الجوية.
التحالف الياباني الأميركي
تستضيف اليابان أكبر تمركز للقوات الأميركية خارج الولايات المتحدة، بنحو 54 ألف جندي موزعين على قواعد في أوكيناوا وطوكيو ويوكوسوكا وميساوا ويوكوتا.
ويستند هذا الوجود إلى “معاهدة الأمن اليابانية–الأميركية” الموقعة عام 1960، والتي تضمن التزام واشنطن بالدفاع عن اليابان في حال تعرضها لأي هجوم.
وتُعد قاعدة يوكوسوكا البحرية مقراً دائماً للأسطول السابع الأميركي، وهو أكبر أسطول أميركي منتشر في الخارج، ويضطلع بدور أساسي في عمليات الردع في بحر الصين الجنوبي وشرق آسيا.
ويعمل التحالف العسكري بين طوكيو وواشنطن على مستوى عالٍ من التكامل، خصوصاً في الدفاع الجوي والصاروخي.
“إيقاظ العملاق النائم”
أفادت تقارير لمراكز أبحاث غربية بأن اليابان دخلت مرحلة جديدة من إعادة تعريف دورها العسكري، بعدما ظلت لعقود تلتزم بقيود صارمة فرضها الدستور السلمي عقب الحرب العالمية الثانية.
ومع إعلان “استراتيجية الأمن القومي” في ديسمبر 2022، بات واضحاً أن طوكيو تسير نحو بناء قوة عسكرية أكثر استقلالية، تشمل تطوير قدرات “الهجوم المضاد” وصواريخ بعيدة المدى، وتحويل بعض سفنها إلى حاملات لطائرات F-35B، وتعزيز قواتها البحرية والجوية بصورة متسارعة.
ووصف باحثون في East Asia Forum هذا التحول بأنه “أكبر إعادة توجيه للسياسة العسكرية اليابانية منذ سبعينيات القرن الماضي”.
وفي تحليل شامل للتحول الكبير في المشهد العسكري الياباني، اعتبر مركز CSIS أحد أكبر مراكز الدراسات الاستراتيجية الأميركية، أن طوكيو خطت بعيداً جداً عن سياستها التقليدية الملتزمة بالتقشف الدفاعي، والاعتماد على الولايات المتحدة، والحلفاء لمواجهة الأخطار.
ومع القوة التكنولوجية الهائلة التي تمتلكها اليابان، وجيشها صغير الحجم عالي التقنية، ربما أيقظت التهديدات المتلاحقة من كوريا الشمالية، والصين، العملاق الياباني من نومه الاختياري لنحو 6 عقود تحت مظلة حماية غربية.
