اخبار تركيا
تناول تقرير للكاتب والمحلل السياسي التركي يحيى بستان، التحوّل العميق في موقع إسرائيل الإقليمي وتراجع قدرتها على فرض شروطها في كلٍّ من سوريا وغزة، مقابل صعود أدوار جديدة لواشنطن وأنقرة وعودة المسار السياسي الفلسطيني إلى الواجهة.
يسلّط بستان الضوء على تغيّر مطالب نتنياهو في الجنوب السوري، والقبول الأميركي غير المسبوق بالرئيس السوري أحمد الشرع، إضافة إلى التحولات في غزة حيث فشلت تل أبيب في تحقيق أهدافها.
كما يناقش مساعي الولايات المتحدة لإحياء حل الدولتين، والدور التركي المحتمل في القوة الدولية المزمع نشرها في غزة، والتوتر المتصاعد بين واشنطن وتل أبيب الذي انعكس في استقالة رون ديرمر.
وفيما يلي نص التقرير الذي نشرته صحيفة يني شفق:
تشهد المنطقة تطورات عديدة تُشير إلى تراجع إسرائيل الإقليمي. فقد تخلّى نتنياهو عن مطالبه المتطرفة في سوريا، حيث كان يطالب سابقاً بنزع سلاح الجنوب السوري بالكامل، ليقتصر طلبه الآن على “المنطقة المتاخمة لمرتفعات الجولان السورية”. كانت الخطة السابقة تقضي بإنشاء منطقة واسعة منزوعة السلاح في الجنوب تمتد إلى المنطقة التي تسيطر عليها “قسد”، بما يسمح بإنشاء “ممر داود” الخيالي وربطه بدير الزور. غير أن التطورات الحالية تشير إلى أن الجنوب لن يُنزع سلاحه، وستعود دير الزور إلى سيطرة دمشق، أي أن حلم إسرائيل الكبرى يتبدد.
ويُعد القبول الذي حظي به الرئيس السوري أحمد الشرع في البيت الأبيض نقطة تحول. وقد أشرنا حينها إلى إن القيادة المركزية الأمريكية ستلتزم أيضاً بالاتفاق الذي تم بخصوص “قسد” (انظر: إشارات من البيت الأبيض: القيادة المركزية الأمريكية ستلتزم بالاتفاق، 14 نوفمبر). وذكرت مراسلة صحيفة “حرييت” في أنقرة، هاندا فرات أن الاجتماعات التي حضرها وزير الخارجية هاكان فيدان جرى خلالها العمل على الخرائط ، وأن ترمب سأل فيدان: “كيف ستحلون مسألة السويداء؟”، فرد عليه فيدان بالقول: “السياسات الإسرائيلية تعيق حل مشاكلنا ومشاكلكم على حد سواء” (15 نوفمبر).
ناقوس الخطر يدق في إسرائيل
وتجري عملية مماثلة في غزة. فقد فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها المتمثلة في تهجير الفلسطينيين من غزة واحتلال غزة والضفة الغربية. ستقوم حماس بدفن أسلحتها، لكنها لن تتخلى عنها حتى قيام الدولة. لقد حاولت إسرائيل استغلال السابع من أكتوبر كفرصة للقضاء تماماً على حلم الدولة الفلسطينية، لكن ذلك أدى إلى اعتراف العديد من الدول بفلسطين اليوم.
إن نقل خطة ترامب لوقف إطلاق النار في غزة إلى مجلس الأمن الدولي، يُعد خطوة ذكية واستراتيجية. لقد كانت تل أبيب ترغب في العمل منفردة مع واشنطن لتصميم المنطقة كما تشاء. لكنها اليوم تكتفي بمراقبة القرار الذي سيتخذه أعضاء مجلس الأمن الدولي عن بعد.
أصدرت الولايات المتحدة، إلى جانب ثماني دول من بينها تركيا، بيانا مشتركا جاء فيه: “تُتيح العملية للفلسطينيين مسارا نحو مصيرهم وإقامة دولتهم” ويُعد هذا البيان تأكيداً قوياً على حل الدولتين. وقد دخل هذا البيان في النصوص الرسمية لأول مرة. إن وصول الولايات المتحدة إلى هذه النقطة يهدف إلى إرضاء ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي يزور البيت الأبيض اليوم. وكان ابن سلمان يقول: “إذا أردتم مني التطبيع مع إسرائيل، فضعوا خارطة طريق للدولة الفلسطينية”. وقد أحدثت هذه العبارة في البيان المشترك “تأثيراً مزلزلا” في تل أبيب، حيث دعا الوزراء الإسرائيليون المتطرفون نتنياهو إلى التنديد بفكرة الدولة الفلسطينية، وهددوا بالاستقالة من الحكومة.
المرحلة الثانية من التراجع الإقليمي
قد يبدو التحليل جريئا بعض الشيء، لكنني أرى أن المسار يشير إلى أن تل أبيب قد تخسر حتى مكاسبها قبل السابع من أكتوبر. ويُعد تأكيد البيان المشترك على الدولة الفلسطينية أحد أركان هذا التوجه، بينما يتمثل الركن الثاني في الدور التركي المحتمل في غزة.
وعندما تُستكمل المباحثات في مجلس الأمن، ستُنشر قوة دولية في غزة. وقد صرّح وزير الخارجية هاكان فيدان لأول مرة بهذا الوضوح قائلا: “تركيا مستعدة لتحمل المسؤولية في غزة”. ويعارض نتنياهو بشدة لعب تركيا لأي دور. لكن جميع الأطراف الفاعلة في المنطقة ترغب في رؤية الجيش التركي في غزة، وكذلك الولايات المتحدة. وتشعر إسرائيل باستياء كبير من هذا الموقف الأميركي.
وأجرى السفير الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة، يحيئيل ليتر، الذي كان ينسق الاتصالات بين تل أبيب والبيت الأبيض على مدار الأيام العشرة الماضية، مقابلة لافتة مع صحيفة جيروزاليم بوست. قال فيها: “نحن ندرك الأهمية الاستراتيجية لتركيا بالنسبة للولايات المتحدة. ونحن لا نتحدى ذلك”. وأضاف: “لكن لا يمكننا السماح بوجود جنود أتراك في غزة أو سوريا”. لكن تقريراً آخر في صحيفة جيروزاليم بوست نفسها يقول عكس ذلك: “من المتوقع أن تشارك قوات من مصر وقطر وتركيا في القوة الدولية.”
إن “فقدان إسرائيل لقدرتها على إدارة واشنطن” (رغم ملف إبستاين) يدفع تل أبيب نحو مرحلة جديدة. فإسرائيل تبحث عن سُبل لتتحرك بشكل مستقل عن الولايات المتحدة. وأولى بوادر هذه السياسة هي الاتفاقية الأمنية الجديدة المزمع إبرامها مع الولايات المتحدة. فالإسرائيليون يرغبون في تقليص حجم المساعدات الأميركية المباشرة، والحدّ من الاعتماد على الولايات المتحدة في الدفاع.
استقالة عقب تصاعد التوتر مع واشنطن
تلخص استقالة وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، كل ما يحدث. فقد كان ديرمر في صلب جميع المفاوضات الحاسمة الأخيرة، وهو المسؤول عن إدارة علاقات إسرائيل مع الولايات المتحدة. فجنسيته الأمريكية، وكون والده شخصية سياسية أمريكية مؤثرة، وشبكته الاجتماعية التي اكتسبها بدراسته في نفس مدرسة التي درس فيها ترامب، كل ذلك جعله شخصية ذات أهمية. ولهذا كان اسمه يُطرح لخلافة نتنياهو في رئاسة الوزراء. أي أنه كان منافساً لنتنياهو. كما اتهمته الأسماء المتطرفة في الحكومة بـ “فرض سياسات الولايات المتحدة على إسرائيل”.
ويُعلل ديرمر استقالته بـ “وعد قطعه لزوجته وأطفاله”. لكنني لم أرَ هذا التفسير مقنعا، وخاصة من شخص طموح لعب دوراً حاسماً كهذا. لذا، بحثتُ عما يدور خلف الكواليس، واستنتجت ما يلي:
نتنياهو يقوم بتصفية منافس مهم ويزيح أقرب شخص للولايات المتحدة ضمن حكومته. لكن هذا ليس قراراً أحادياً. فديرمر نفسه “رأى أن التوتر بين الولايات المتحدة وإسرائيل سيزداد” ولذلك لا يريد أن يشارك في هذه المرحلة. وأعتقد أن ديرمر سيشغل منصبًا حساسًا، وسيكون على اتصال وثيق مع صهر ترامب كوشنر. وبطريقة ما، ستحميه الولايات المتحدة. وأتوقع أن يظل الوزير السابق على هامش الأحداث حتى مغادرة نتنياهو، وربما يشغل دوراً في “مجلس غزة” الذي أسسه ترامب، ثم يعود لاحقاً بقوة أكبر. فعلى نتنياهو أن يدفع ثمن هذا التراجع الاستراتيجي.
