“زحمة يا دنيا زحمة”.. هكذا راحت تتردد في ذهني أغنية أحمد عدوية الشهيرة أثناء مشاهدتي لفيلم “السادة الأفاضل”.
ليس هناك في الفيلم إشارة إلى الأغنية أو موسيقاها، وإن كان هناك موسيقى شعبية مشابهة، أكثر عصرية، جمهور اليوم لا يذكر أغنية “زحمة” جيداً، رغم أنها كانت لحظة البداية لما وصل إليه هذا الجيل: “زحمة ولا عادش رحمة، مولد وصاحبه غايب”.
هكذا تتحرك شخصيات الفيلم الكثيرة، المزدحمة في زوايا كاميرا ضيقة دائماً، بلا رحمة، تأكل بعضها البعض، في عالم مصغر يبدو بلا صاحب.. إذا استثنينا النهاية “المقحمة” للشرطة التي تظهر فجأة، مع بعض الحوادث، المقحمة أيضاً، التي يقتل فيها الأشرار أو تضيع ثرواتهم، بهدف طمأنة الجمهور والرقابة أن العدالة لم تزل موجودة في عالم ساد فيه الزحام وتراجعت الرحمة.
بين “المومياء” و”العار”
أغنية عدوية الرقيقة، التي تتحدث بلسان حبيب لا يستطيع الوصول إلى موعد حبيبته بسبب زحام الطرق في القاهرة، وكانت ترصد واقعاً بدأ يضيق على المحبين ومدينة بدأت تضيق بسكانها، صدرت في 1969، العام الذي صدر فيه فيلم “المومياء” لشادي عبد السلام، وهو الفيلم الذي تذكرته أيضاً بعد مرور دقائق قليلة من فيلم “السادة الأفاضل”.
مثل “المومياء” يبدأ “السادة الأفاضل” بأب ريفي فاضل ذي هيبة وجلال، حتى أن اسمه جلال أبو الفضل (بيومي فؤاد) يموت وسط أسرته المحبة الصغيرة: الزوجة المخلصة سميرة (انتصار) التي تصرخ “يجعل يومي قبل يومك”، والابن الأكبر طارق (محمد ممدوح)، الأقرب إلى قلب وسر أبيه، والابنة الصغرى الطيبة، حد البلاهة أحياناً، ناهد (دنيا ماهر).
وسرعان ما يصل العم، الحاج خيري (أشرف عبد الباقي) ليختلي بالابن ويخبره بسر لا تعلمه الأسرة (يتبين لاحقاً أنه ليس سراً على الاطلاق، وهو أن أبيه كان تاجر آثار، ويصطحب العم ابن أخيه لالقاء نظرة على المقبرة الفرعونية التي أخفاها الأب تحت مسجد قام ببناءه!
لاحقاً يأتي الابن الأصغر حجازي (محمد شاهين) الذي أصبح طبيباً في القاهرة وتلحق به زوجته لميس (هنادي مهنى)، حتى الآن يبدو أن موضوع الفيلم يدور حول اكتشاف الأبناء وردود فعلهم على حقيقة أن أبيهم كان تاجراً للآثار، وفي إشارة أخرى متعاطياً للمخدرات، وبذلك نتنقل ما بين أجواء “المومياء” إلى أجواء “العار”، لعلي عبد الخالق، 1982.
كل من “المومياء” و”العار” يلمسان أوتاراً حساسة في المجتمع المصري اليوم، حيث تحول البحث عن الآثار إلى هوس جماعي في بعض القرى والمناطق، وظهور العديد من حوادث النصب، وحيث ترتفع ظاهرة تجارة وتعاطي المخدرات بشكلٍ مقلق.
وكل من “المومياء” و”العار” يطرحان فكرة التعايش مع الميراث “الفاسد” للآباء، في “المومياء” يتساءل الابن بجزع عندما يكتشف أن عائلته تتاجر في الموتى: هل هذا عيشنا؟ ويرفض الفيلم وبطله (ونيس، أحمد مرعي) هذا الميراث الإجرامي بوضوح حتى لو عني الأمر تدمير مصدر رزق القبيلة كلها.
في “العار” هناك تعاطف ملحوظ مع الأخ الأكبر الذي يشارك أبيه تجارة المخدرات، ولكنه على الأقل ينتهي بضياع البضاعة ودمار الأخوة الثلاثة.
فوضى عارمة
في “السادة الأفاضل” ينقلب الأمر إلى فوضى عارمة، إذ يتضح أن القرية تضج بالعصابات والمجرمين، من الكبير سمير إيطاليا (أحمد صلاح السعدني) إلى الصعلوكين الصغيرين جوهري (طه دسوقي) وفاروق (علي صبحي)، بجانب عدد آخر من الدائنين والمنتقمين، وحتى الشخصيات “العادية” لا تتورع عن الأذى والشر: الزوجة تسرق الأموال وتهرب، العم يزور أوراق بيع ممتلكات مستخدما بصمات الأب “الميت”، العم الآخر يسرق بقية الأموال ويهرب، الحبيبة السابقة للأخ الأصغر (ناهد السباعي) تشوه وجه زوجته بدافع الغيرة.
ربما يكون حجازي، الذي لا يعرف شيئاً عن تجارة أبيه، هو الأكثر استقامة، ولكن مثلما نجد في “العار” فإن الفيلم، حين تحدث المواجهة بينه الأخين، ينحاز إلى الأخ الأكبر الذي ضحى بمستقبله وعمل مع أبيه من أجل العائلة وخاصة الأخ الصغير الذي تلقى تعليمه ليصبح طبيباً.
الشخصية الطيبة الوحيدة التي يبرزها الفيلم هي حارس مخزن العائلة الذي يعاني من تأخر عقلي ويطلق عليه “المبروك” (محمد جمال قلبظ)، وهو يتحول بالقرب من نهاية الفيلم إلى بطل خارق يطيح في البلدة كملاك الانتقام ليملأ ثغرات الدراما بتحقيق “العدالة الشعرية”.
هذه النهاية التي تشبه أفلام كاتبا السيناريو محمود أبو زيد وأحمد عبد الله، حيث يأتي الحل “الإلهي” في نهاية العمل، بالانتقام من الأشرار ونجاة الطيبين.
وهذا النوع من السرد، حين نمد الخيط أكثر، مستمد من الميلودراما الشرقية (المصرية والهندية نموذجاً) التي تعكس بدورها “رؤية للعالم” تقلل من شأن المنطق والتفكير والتدبير، وتعلي من شأن “التدخل الإلهي” في العالم، الذي قد يتسبب في حادث سيارة يوقف الشرير عن حده، أو يمنع كرة قدم من دخول المرمى.
رؤية كونية!
لماذا بدأت بهذه المقدمة الطويلة التي تتحدث عن نهاية الفيلم قبل أن أتطرق لمكوناته وعناصره ومستواه الفني؟
لأن هذه “الرؤية للعالم” غالباً ما تكون المحرك (أو الكابح) لمكونات العمل الفني بداية من معالجة الفكرة إلى الأداء التمثيلي مروراً بالسيناريو والحوار والتصوير والمونتاج إلخ..
الفكرة في “السادة الأفاضل” ممتازة: رسم Microcosmos (أو كون مصغر) يجسد ما يدور في العالم (أو البلد) من خلال الحياة في قرية صغيرة.
وسواء كان صناع الفيلم، المؤلفون مصطفى صقر، محمد عز الدين، وعبد الرحمن جاويش والمخرج كريم الشناوي، يقصدون أو “يهرجون”، فهم يبدأون الفيلم بمحاكاة ساخرة لجدارية “تاريخ الكون” التي رسمها مايكل أنجلو على سقف كنيسة سيستين، وبالتحديد الجزء الذي يصور خلق آدم، حيث يتلامس إبهاما الخالق والمخلوق، والتي يظهر فيها الأب جلال أبو الفضل مع أبناءه!
عائلة أبو الفضل، أو السادة الأفاضل الذين يمتليء بهم الفيلم، هم نموذج أو عينة مختارة من البشر، الذين يعيشون بوجهين: وجه محترم وفاضل أمام المجتمع، ووجه آخر يمتليء بالشر والطمع والخسة.
غالباً ما يكون القالب الأمثل لهذه الفكرة القاسية هو الملهاة الساخرة أو الكوميديا السوداء، هناك بالطبع بعض صناع الأفلام الذين يفضلون الواقعية، والواقعية الخشنة أحياناً، في أفلام قد تكون صادمة ومزعجة، خاصة للرقباء وحماة الأخلاق الحميدة. ولكن ذلك غير مرغوب فيه، أو مسموح له، هنا.
في “السادة الأفاضل” توفر الكوميديا بطانة ناعمة وغطاءً واقياً، يمكن من خلاله تقبل سلوكيات الشخصيات دون أن نكرهها أو ننفر منها.
حائط النجوم
ولأن “السادة الأفاضل” يعتمد بناء الجدارية البانورامية، أو بالمعنى الدارج “البطولة الجماعية”، فإنه يوظف أكبر عدد من الممثلين المعروفين يكفي وضع أسمائهم على أي ملصق لجذب الجمهور: بجانب الأسماء المذكورة سابقا هناك أكرم حسني، حنان سليمان، إسماعيل فرغلي، معتز التوني وعدد آخر من الأسماء الأقل شهرة، لمع من بينهم ميشيل ميلاد ودينا يحيى.
هذه فكرة إنتاجية رائعة: الحشد الكبير من الأسماء المعروفة بات مصدر جذب أساسي في شباك التذاكر، اعتمدت عليه أفلام وائل عبد الله وسامح عبد العزيز، وأصبح تقليداً يعتمد عليه كثير من الأفلام هذه الأيام من خلال ضيوف الشرف.
بجانب الكوميديا والعدد الكبير من النجوم لدينا المكان الذي تدور فيه الأحداث، والذي يختلف عن أماكن معظم الأفلام الحديثة التي تدور في الكومباوندات والمولات والملاهي الليلية، ورغم أن “ديكور” تصميم مناظر القرية مكشوف إلا أن المخرج كريم الشناوي ومدير التصوير مصطفى فهمي ينجحان في الايحاء بجو الريف وطبيعة الحياة فيه.
تتحرك الأحداث بين منزل العائلة، حيث يموت الأب ويتوافد المعزون، وتحدث معظم المواجهات، وبين طرق القرية المتربة والمدرسة المجاورة، حيث يقوم الصعلوكان اللصان جوهري (طه دسوقي) وفاروق (علي صبحي) بمحاولة سرقة خزانة مكتب البريد المجاور لبيت آل فضل ويقتلان الحارس.
لتّ وعجن!
يلعب المونتاج دوراً كبيراً في الربط بين ما يدور داخل البيت وخارجه، وصولاً إلى لحظات التلاقي والصدام بين الخيوط المتوازية، ومع التحولات المفاجئة Twists التي تشهدها الأحداث، خاصة خدعة الأب الميت، تبدو الخطوط والأمور مشوقة وتحت السيطرة نصاً وتنفيذاً، ولكن هنا يأتي العيب القاتل الذي يعاني منه الفيلم وهو “اللتّ والعجن” بالتعبير الدارج، وبما أننا أمام فيلم يدور في الريف!
تتكرر المواقف وتطول الحوارات إلى ما لا نهاية، ويتمدد زمن الفيلم الذي يتجاوز الساعتين وربع الساعة مع توقف الدراما في منتصف الفيلم وتحولها إلى مواقف واسكتشات يفترض أنها كوميدية، والحقيقة أن القليل جداً منها يثير الضحك، بينما يثير معظمها الملل! ومع الأداء التمثيلي الزاعق الذي يثير الضوضاء فوق الزحام، والصراخ الذي لا يتوقف حتى في المواقف التي يفترض أنها تدور همساً حول أسرار مميتة، في غرفة شبه مفتوحة داخل منزل مفتوح على الشارع يمتليء بالمعزين (وهي إحدى آفات التصوير داخل الديكورات التي تفقد الممثلين الإحساس بالأداء الواقعي!)، ويزيد الطين بلة أنهم لا يعرفون هل يفترض بهم أن يكونوا جادين أم هزليين، وفي الحالتين لا ينجحون في توصيل الجدية أو الفكاهة!
الزحام والضوضاء مادتان جيدتان لصنع أفلام سريعة الإيقاع، فوضوية البناء، تضج بالحركة والحيوية، وفوق ذلك تقول الكثير عن مجتمع يتصارع ويتسارع (من السٌرعة والسَرعة) ويسوده التزاحم والفوضى.
ولكن التعبير عن الزحام والضجيج والثرثرة على عكس ما يبدو ليس سهلاً، وليس معناه أن يكون الفيلم مزدحماً ومزعجاً، بل يحتاج إلى دقة أكبر في الكتابة والمونتاج، للأسف يعاني النصف الثاني في “السادة الأفاضل” من هلهلة في السيناريو وترهل في الإيقاع وثقل في الحوار، المبتذل أحياناً بسبب الـ”إيفيهات” السمجة، ورغبة كل ممثل في التفوه بأكبر قدر من الكلمات!
مزيد من الحشد
على طريقة محلات الأكل الشامي التي تجذب روادها بكثرة المكونات والمحاشي والأطباق الإضافية، يسعى صنّاع “السادة الأفاضل” إلى الإبهار والجذب عن طريق الحشد والحشو، ليس فقط بعدد النجوم الذين يتنافسون بحثاً عن مساحة، ولكن أيضاً بكثرة الحوار والإيفيهات وزمن الفيلم الطويل، فوق الحاجة، وإضافة الكثير من الخطوط التي لا تكاد تجد لها مكاناً: هناك عصابة أو عصابتان تطاردان آل أبو الفضل، ومجرمان يطاردان الصعلوكين جوهري وفاروق بسبب مباراة كرة قدم، ومومياء ضالة تحت السرير، تتنقل من يد إلى أخرى وتحل فوق دراجة بخارية مطاردة، وفوق ذلك كله دمية (دبدوب) أخضر يصدر أصواتاً مضحكة، ويحل محل الأب الميت في الفراش، ويعتبره صناع الفيلم أحد الأبطال وسط صورة نجوم الفيلم على البوستر، ويصحبونه معهم للسير فوق السجادة الحمراء في المهرجانات والعروض الخاصة!
وكأن السجادة، والفيلم، ينقصهما الزحام والفوضى!
*ناقد فني


