google_ad_client = “capub7395716914924734”;
google_ad_slot = “5416840538”;
google_ad_width = 300;
google_ad_height = 250;

د. سمير صالحة أساس ميديا

تطرح القاهرة، وفق ما نشرته صحيفة “الأهرام” أخيراً، مقاربة جديدة تؤكّد أنّ مصر وتركيا تمثّلان القوّتين الإقليميّتين الأكثر تأثيراً في الشرق الأوسط، وأنّ استمرار غياب التنسيق بينهما خلال السنوات الماضية أفسح المجال أمام نفوذ أطراف أخرى، وفي مقدَّمها إسرائيل، التي سعت إلى إعادة صياغة خرائط التوازنات الإقليميّة بما قد يمسّ المصالح الحيويّة لكلا البلدين.

في المقابل، يردّد وزير الخارجيّة التركيّ هاكان فيدان أنّ العلاقات بين القاهرة وأنقرة دخلت مرحلة تُعدّ “الفضلى في التاريخ الحديث”. ويؤكّد أنّ الطرفين وصلا إلى قناعة مشتركة بضرورة “دمج الطاقات والقدرات لحماية مصالح البلدين الإقليميّة”. فلِمَ لا تقلق تل أبيب؟

شهدت السنوات الماضية حضور مفردتَي “النموذج” و”الإخوان” كمنطقتين إشكاليّتين في مسار العلاقات التركيّةالمصريّة. ارتبطت الأولى بما كان يُعرف بـ”النموذج التركيّ” وإمكانات تطبيقه في الإقليم، بينما اختزلت الثانية الخلاف الأيديولوجيّ والسياسيّ الذي تصاعد بعد وصول الرئيس السابق محمّد مرسي والإخوان المسلمون إلى السلطة والمواقف التركيّة الداعمة التي واكبتها حالات من التوتّر والاحتقان تحوّلت سريعاً إلى أزمات سياسيّة ودبلوماسيّة حادّة بين البلدين.

تحوُّلٌ ملموس

مع انحسار هاتين المفردتين من الخطاب السياسيّ المتبادل خلال الأعوام الأخيرة، بدأت محاولة إعادة فتح قنوات التواصل وتخفيف مستوى التوتّر، وصولاً إلى سياق 2023 الذي أتاح إعادة بناء جسور الثقة ومراجعة تقديرات الدور الإقليميّ لكلّ من القاهرة وأنقرة.

سقط مصطلح “النموذج” في العلاقات التركيّةالمصريّة، وغابت عبارة “الإخوان” منذ نحو ثلاث سنوات عن أيّ حوار، بعد “عشريّة الشقاق” التي جمّدت كلّ مسارات التواصل وأبقت الملفّات العالقة رهينة الانكفاء والتوجّس المتبادل من إعادة بناء الثقة بين العاصمتين حتّى عام 2023.

انطلاقاً من كلّ ما سبق، يظهر اليوم موقف مصريّتركيّ جديد يعكس تحوّلاً ملموساً في مقاربة الطرفين لعلاقاتهما الثنائيّة بعد سنوات من الجمود والقطيعة. لا يقتصر هذا التحوّل على إعادة بناء جسور الثقة فحسب، بل يحمل أيضاً تداعيات استراتيجيّة واسعة على صعيد الإقليم، وهو ما يفسّر جزءاً من القلق الإسرائيليّ المتزايد، الذي يترجم تخوّفاً من إعادة ترتيب موازين القوى الإقليميّة وتحدّياً للمصالح الإسرائيليّة في ملفّات حسّاسة مثل الملفّين الفلسطينيّ والسوريّ وملفّات الأمن البحري، موارد الطاقة والتنسيق الاستراتيجيّ مع الأطراف العربيّة والإسلاميّة الفاعلة.

نظرة خاطفة وسريعة على حجم الانفتاح والتنسيق التركيّالمصريّ في العامين الأخيرين وسلسلة اللقاءات الثنائيّة والمتعدّدة الأطراف منذ شباط 2024، تعكس مدى الرغبة في إنشاء مجموعات للتخطيط المشترك ورفع مستوى التعاون السياسيّ والعسكريّ والاقتصاديّ على المستويَين الثنائيّ والإقليميّ، والاتّجاه نحو رفع أرقام التبادل التجاريّ إلى 15 مليار دولار خلال السنوات المقبلة، وزيادة مستوى التعاون والتصنيع المشترك العسكريَّين التي تُرجمت في إحياء مناورات “بحر الصداقة” في شرق المتوسّط بعد توقّفها لمدّة 13 عاماً في سبيل تجاوز علاقات ما قبل عام 2010 إلى الدفع باتّجاه خلق توازنات جديدة.

لا يمكن هنا تجاهل الدور الخليجيّ بقيادة الرياض على طريق تذليل العقبات وتحفيز الحوار بين أنقرة والقاهرة، ليس فقط لدعم مصالح البلدين، بل لتثبيت الأمن الإقليميّ وإعادة طرح خطّة حلّ الدولتين وتسهيل ولادة خطّة ترامب لغزّة. يشكّل التنسيق التركيّالمصريّ مع إدارة ترامب في الملفّات الإقليميّة الكبرى سبباً إضافيّاً لحالة الذعر عند تل أبيب، التي كانت تستثمر في الفراغات الإقليميّة وفرض ما تريد بالقوّة على طريق مشروع هيمنتها، مستغلّةً تدخّلها العسكريّ وقوّتها في أكثر من دولة.

ترتيب الملفّات الإقليميّة

يتجاوز التقارب بين القاهرة وأنقرة اليوم البعد الثنائيّ، إذ يشمل عدّة ملفّات استراتيجيّة: التنسيق في شأن غزّة والملفّ الفلسطينيّ بالتعاون مع واشنطن والرياض، تطوير التعاون في ليبيا والسودان وإثيوبيا والصومال بالتنسيق مع قطر والإمارات، إدارة قضايا شرق المتوسّط من ترسيم حدود بحريّة ومناورات عسكريّة بالانفتاح على لبنان وسوريا، وضمان مصالحهما الاقتصاديّة والطاقِيّة على امتداد البحار والممرّات الحيويّة، وعلى رأسها قناة السويس وباب المندب في إطار التوازنات والمتغيّرات الإقليميّة الجديدة.

يمكن القول إنّ هذه الملفّات الاستراتيجيّة المشتركة تشكّل المحرّك الرئيس للقلق الإسرائيليّ لأنّها تعكس قدرة الطرفين على التأثير في مجمل التوازنات الإقليميّة بشكل مباشر، وليس فقط في إطار العلاقات الثنائيّة.

في هذا السياق، يصبح التقارب التركيّالمصريّ أكثر من تحرّك دبلوماسيّ. إنّه محاولة لبناء محور إقليميّ قادر على مواجهة التحدّيات المشتركة، وحماية المصالح الحيويّة للبلدين، وفتح أفق أوسع للتعاون العربيّالإسلاميّ بعيداً عن الضغوط الإسرائيليّة.

قد يُعيد استمرار هذا التقارب بعد عام 2025 ترتيب الكثير من الملفّات الإقليميّة، ويقود إسرائيل لمراجعة استراتيجياتها، وربّما يدفعها لتكون أكثر استعداداً لمراجعة حساباتها في الملفّات الحسّاسة، من غزّة إلى البحر الأحمر وشرق المتوسّط، مروراً بالقارّة الإفريقيّة، وهو ما يقود باتّجاه مشهد إقليميّ جديد يؤكّد أنّ المستقبل في المنطقة سيُصاغ من خلال شراكات استراتيجيّة حقيقيّة لا بالتهديدات أو محاولات الهيمنة المنفردة.

من زاوية مستقبليّة، يمكن القول إنّ هذا التقارب يشكّل بداية نواة لشراكة استراتيجيّة طويلة المدى تعيد رسم التوازنات الإقليميّة وتحدّ من قدرة إسرائيل على فرض مشاريعها وأطروحاتها منفردةً في المنطقة، وإنّ إعادة بناء محور إقليميّ جديد قائم على التعاون التركيّالمصريّ يمنح الدول العربيّة والإسلاميّة القدرة على صياغة مصيرها بعيداً عن الإملاءات الخارجيّة ويخلق أرضيّة لإدارة الأزمات الإقليميّة بشكل مشترك ومستدام.

ما يجمع القاهرة وأنقرة اليوم من دوافع وأسباب إقليميّة مشتركة يفوق ما يفرّقهما، وهو ما يعزّز احتمال استمرار التعاون وتوسيع الشراكات الاستراتيجيّة في المستقبل، لتصبح المنطقة أكثر قدرة على صياغة مصيرها بطريقة مستقلّة ومتوازنة تحدّ من أيّ محاولات لفرض الهيمنة الأحاديّة.

“من يريد التأثير بفاعليّة فعليه أن يسعى إلى الشراكة لا الهيمنة” قول مأثور يُردَّد في تركيا، و”إذا أرادوا أن يسيروا بعيداً فعليهم أن يسيروا معاً” حكمة قديمة يستشهد بها المصريّون دائماً.

شاركها.