علي أبو هميلة الجزيرة مباشر
لا تزال استطلاعات الرأي في تركيا تقول إن حزب العدالة والتنمية يمثل أقرب الأحزاب السياسية إلى المواطن التركي. والواقع أنه رغم ما تشهده الليرة التركية من هبوط في قيمتها، وما تعرض له الحزب في آخر انتخابات للبلديات في تركيا، والصعود الملحوظ خلالها لحزب الشعب الجمهوري أقرب الأحزاب المنافسة للعدالة والتنمية، إلا أن الحزب الحاكم لا يزال يقف على قمة الهرم الحزبي بين مجموع الأحزاب التركية، سواء في التحالف الحاكم أو أحزاب المعارضة.
ففي آخر استطلاع للرأي حول أقرب الأحزاب للجماهير، وعمّا إذا أجريت انتخابات برلمانية الآن، جاء حزب العدالة في المقدمة بنسبة 34.7%، وبفارق 7% عن أقرب الأحزاب المنافسة وهو حزب الشعب الجمهوري.
شهد آخر عقدين من القرن العشرين شبه سيطرة عسكرية على الحياة السياسية التركية، وانقلابات عسكرية متعددة في أعوام 1960، 1971، 1980، 1997، وكانت كلها انقلابات على حكومات منتخبة. وفي نهايات التسعينيات شهدت الشوارع التركية حركة سياسية جديدة عمادها الشباب الذين انتشروا في الأحياء وبين الجماهير ليصوغوا مطالب الناس، وليكتبوا برنامج حزب يصعد من أسفل ويقدم أحلام الشعب وطموحاته الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، والسياسية.
وكانت تركيا في ذلك الوقت تعاني أزمة اقتصادية كبيرة، ووصل انهيار العملة إلى حد طباعة العملة التركية بفئات الألف ليرة وما فوقها. وكانت الأحياء تعاني من نقص المياه والخدمات بشكل غير مسبوق، وانتشرت تجارة المخدرات، السلاح، والدعارة. في تلك الأجواء كان على الشباب في الجامعات والحياة السياسية أن يجدوا طريقًا جديدًا لتركيا، فكان الحزب الذي كتب برنامجه السياسي الأهالي في شوارع تركيا وحاراتها.
كان عام 2002 عام الظهور الكبير لحزب العدالة والتنمية. وقد واجه الحزب منذ بداياته معارك كبرى، أهمها مع المؤسسة العسكرية التي كانت تعتبر نفسها حارسًا على العلمانية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك. وكانت المعركة الثانية مع الدولة العميقة ممثلة في الضباط، الإعلام، والقضاة، ثم معركة أخرى مع مافيا الرأسمالية سواء في السلاح، المخدرات، أو الدعارة. لم تكن تلك المعارك سهلة، خاصة لحزب يرفع الشعارات الإسلامية، ولم تكن تجارب عدنان مندريس ونجم الدين أربكان بعيدة عن أذهان قيادات الحزب.
كان على رجال الحزب أن يخوضوا معارك لكسب الجماهير. والواقع أنه خلال عشر سنوات كانت تركيا تتغير، خاصة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وعلى مستويات التعليم، الصحة، والرياضة. تغيرت ملامح الحياة في تركيا؛ إذ أنشأت الدولة آلاف المؤسسات الصحية، مستشفيات، ومراكز خدمة سميت باسم «العائلة»، وصارت الخدمات الصحية تقدم مجانًا للشعب التركي. وحظي كبار السن والمتقاعدون بمزايا كبيرة في المجال الصحي والاقتصادي.
كما صار التأمين الصحي حتى الآن علامة مهمة لكل أبناء الشعب التركي، وامتد هذا إلى الوافدين إلى تركيا والمقيمين فيها من الأجانب، خاصة من البلاد العربية والإسلامية.
تغيرت تركيا في مجال التعليم وصار التعليم مجانًا في كل المدارس والجامعات الحكومية. وهناك سكن مجاني للطلاب القادمين من الولايات البعيدة، إضافة إلى توفير إعاشة كاملة داخل الجامعات. ولم يعد التعليم يشكل عبئًا على الأسرة التركية الفقيرة، وكان هذا جزءًا مهمًا في بناء شعبية الحزب الحاكم.
أعلنت الدولة التركية عن بناء أكبر شبكة مواصلات محلية ودولية، وفي عشرين عامًا صارت تلك الشبكات تضاهي كبرى الشبكات العالمية، وصارت متاحة بأجور رمزية. كما أن تقديم المواصلات مجانًا في الأعياد القومية لا يزال عادة مستمرة، وفي تلك الأعياد يخرج الشعب بكامله للاحتفال وتعلق الأعلام في كل المدن.
وتصدّرت مطارات تركيا في إسطنبول وأنطاليا المطارات الأوروبية في عدد الرحلات؛ حيث استقبلت أكثر من 210 ملايين رحلة العام الماضي.
اهتمت تركيا بالسياحة، وارتفع عدد السياح العام الماضي إلى قرابة 60 مليون سائح بإيرادات تصل إلى 60 مليار دولار، إضافة إلى النهضة الصناعية، خاصة الصناعات العسكرية التي جعلت الاقتصاد التركي واحدًا من أهم الاقتصادات العالمية.
أهم ما يميز أي حزب سياسي أن ينشأ وسط الجماهير ويظل على تماس مع نبضها ومتطلباتها. وكانت أهم ميزة لحزب العدالة والتنمية أنه حزب خرج من أحلام شعب وصل به الحال الاقتصادي إلى درجة متدنية، فكتب برنامجه وسط الشوارع والأحياء، لا عبر أوراق بعيدة عن الناس.
حين يكون الشعب هو المصدر، تكون الأولويات هي: الصحة، التعليم، والثقافة، مع عدالة اجتماعية ومساواة. لذا ظلت تركيا تحت قيادة العدالة والتنمية تعمل لمدة عشر سنوات لبناء قاعدة اقتصادية ومظلة حماية كبيرة تعمل حتى الآن بكفاءة.
الحلم ببناء حزب جماهيري يطل من أحلام النخب في الدول العربية، خاصة الدول الكبرى مثل مصر، سوريا، العراق، اليمن، المغرب، والأردن. لكن عوائق كثيرة تقف أمام تكوين هذه الأحزاب التي تخرج من الشعب، كما واجه العدالة والتنمية الذي احتفل بالذكرى الرابعة والعشرين لتأسيسه.
ومصر صاحبة تجربة حزبية كبيرة قبل ثورة يوليو 1952 وبعدها عند تأسيس «المنابر» عام 1976، ورغم ذلك ما تزال مصر تفتقد حزبًا مثل العدالة والتنمية. وفي الأسبوع القادم سنبحث عن طريق لبناء مثل هذا الحزب في مصر.
